يسعى كثيرون لتحقيق فضيلة (الفقه في الدين)، ويجهدون لنوالها، حيث جاءت بها النصوص مُبَيِّنَةً فضلها ومكانتها، ومن ذلك قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : \" مَن يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين \" [رواه البخاري].
والسعايةُ في تحقيق ذلك ليست من الأمور ذوات السهولة واليُسر، ولا من الأعمال التي تُنال بالركون نحو الدَّعة، بل هي ذات أعباءٍ, كبيرة، وذات متاعب وإجهاد، وفي بيان ذلك يقول ابنُ القيم يرحمه الله - حالَ ذكره لاحتجاج الفقهاء بصحيفة عمروِ بن شعيب عن أبيه عن جده وإنما طعن فيها مَن لم يتحمَّل أعباء الفقه …. [أعلام الموقعين 1/35].
فراقَ لي بديعُ التعبير فأحببتُ أن أسيلَ حِبر اليراع بإيضاحٍ, لحقائق هذه اللفظة المُستكنَّة في ظلالها الوارفة.
بعد هاتيك التَّقدُمة الآنفة فإنَّ من الضروريِّ علمُه أن أعباءَ الفقه نوعان:
الأول: عِبءُ تأصيلٍ,:
فإن تحصيل الفقه في شريعة الله وظيفة كبرى، ومهمة عُظمى، بذل النٌّجباءُ مُهج أرواحهم في تحصيله، ونقدوا نفيس أوقاتهم في تحرير مسائله، فغدا سائراً فيهم سير الدم في العِرق، ولم يكونوا قط يستشعرون سهولةً فيه، ولا خفةً في تلقيه، فإنهم كانوا عالمين بشدائده، عارفين بغوائله.
ذلك أنه يتخذُ مساراً دقيقاً، ومسلَكاً صعباً ولا يعني توصيف صعوبته تيئيس من تحصيله، وإنما الشأن توصيف حالٍ, ليس إلا، بخلاف غيره من فنون العلوم فإنه في نزولٍ, عن دقته.
فالتأصيل الفقهي يُؤخذ عن طريقين:
الأولى: دراسةُ متنٍ, فِقهيٍ,، وتلكَ سابلةٌ معروفةٌ لدى المتفقِّهَةِ، إلا أنَّ لها نَهجاً كسائرِ متون العلم حيثُ أنَّ المتون المقرَّر دراستُها في الفنون ترتَكِزُ على ثلاثةِ أصولٍ,:
الأصلُ الأوَّل: أن تكون مُعتمدةً في الفنِّ، يقول العلامةُ المَرعَشِيُ - رحمه الله - \" ترتيبُ العلوم \" (ص / 80): … بل المنقولُ من سيَرهم، والمُتبَادَر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المُعتبَرة، وهي مسائلها المشهورة. أ. هـ
الأصلُ الثاني: أن تكون جامعةً لمسائل الفن، ويؤخذُ ذلك من كلام المَرعشي السابق .
الأصل الثالث: أن تكون مُختَصَرةً غيرَ مُطوَّلَةٍ,.
والدراسةُ للفقهِ عن طريقِ المتون الفقهيةِ أمتنُ من غيرها، لأسباب:
السبب الأول: أنها متون مُحقَّقَةٌ مُنَقَّحةٌ، فقد جرى على مسائلها بحثاً ودراسةً فقهاءُ كلِّ مذهب، فليست تأليفاً فَردياً في الجنوح بالاختيار، وليست إلا أنها خُلاصةُ أبحاثٍ, طويلةٍ, للمسائل.
السببُ الثاني: أنها مُعتَنىً بها عنايةً تُوحي بقيمتها العلميَّة، فكم من: شارحٍ,، ناظم، ومُحَشٍ,، ومُتَمِّم، ومُدلِّلٍ,، معلِّلٍ,، وغير ذلك.
السبب الثالث: أنها أجمعُ للمسائلِ وأرتبُ، فترى فيها ذكراً لأحكام المسألة على الترتيب الذي يجمعُ للطالبِ فِقهها، فترى تقديم الشروط على الأركان، والأركان على الواجبات، ثم يليها السٌّنن، وما إلى ذلك.
بخلافِ غيرِها فلا تجدِ فيها تلك الصَّنعةِ الدَّقيقة.
وهذه الأسبابُ هي التي اختصَّت بها متون المذاهب الأربعة الشريفة الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي، وأما غيرُها فليسَ فيها شيءٌ من تلكم المناقبِ، بل فيها من الآفاتِ ما هو كفيلٌ بردِّها.
الثانية: تقريرُ المسألة الفقهية، فإنَّ الفقهاءَ أخذوا في تقرير المسائل الفقهيةِ طريقةً مُحكمةً مُتقَنَةً، أتوا فيها على فروع المسألة وجُزئيَّاتها، وبها تبرأُ ذِمةُ المُكلَّف، وخلافُ ذِي لا يُستفادُ منها علماً ولا فقهاً.
فتقريرُ مسألةٍ, عِباديَّةٍ, لِتُضبَط على وَفقِ ما هو مُقرَّرٌ عند المذهب الفقهي المأخوذِ به تكون من جهاتٍ, ستٍّ,:
الجهةُ الأولى: شروطُ العبادة.
الجهةُ الثانية: أركان العبادة.
الجهةُ الثالثة: واجباتُ العبادة.
الجهة الرابعة: مُستحبات العبادة.
الجهةُ الخامسة: مُبطلاتُ العبادة.
الجهةُ السادسة: مَكروهاتُ العبادة.
ثُمَّ بعدَ ذلك يكون تحريرُ تلك الجهات السِّت من خلال مناحٍ, ثلاثة:
الأولى: صُورةُ المسألةِ معَ حكمها.
الثانية: قيودُ المسألة.
الثالثة: ذكرُ الاستثناءاتِ إن وُجِدَت.
و يُلحقُ ذلك ويُتمَّم بشيئين:
أولهما: ضَبطُ الجهاتِ عداً ونحوه.
ثانيهما: دليلُ المسألة، والأدلةُ نوعانِ:
الأول: مُتفقٌ عليها، وهي: الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والقياس.
الثاني: مُختلَفٌ فيها، وهي كثيرةٌ، ولكلِّ مذهبٍ, مذهبُه في اعتبار الأدلة.
وَ بحثُها منثورٌ في كُتُبِ أصولِ الفقهِ فَلتُراجَع.
الثاني: عِبءُ تأهيلٍ,.
التصدِّي للتفقيه والتعليم من المناقب العظيمة، ومن المرتب التي أولاها العلماءُ اهتماماً وعنايةً، فكانت واضحة المعالم، بَيِّنَةَ الأصول والقواعد، وبالغوا في العنايةِ لِمَن يتصدَّى لبيان أحكام الشريعة، وإظهار أسرار الفقه في أعمال المُكلَّفين، فأتوا بأصولٍ, وقواعدَ معتبَرَةٍ,.
فلم يكن امر التفقيه سبهللاً يسلكه كلٌّ متمجهدٍ, لا يفقَه ضبطَ اسم العلم، ولا كلٌّ متعالمٍ, لم يُجاوز عَتَبَةَ البداية، وإنما هو على ما ذُكرَ من بيان لاهتمام الفقهاء به.
إذا عُلِمَ ذلك فإن التأهٌّلَ نوعان:
النوع الأول: تأهيلُ تبليغٍ,، وشأنُه تبليغُ العلمِ على وجههِ دونَ إقحامٍ, لنفسهِ برأي يرتأيِهِ، أو قولٍ, يقولُ به، ويأخذُ بذلك قانون التبليغِ وهو: (إيرادُ اللفظِ كما سَمعهُ من غير تغييرٍ,) [\"فيضُ القدير\" للمُناوي (3/206).
النوعُ الثاني: تأهيلُ استباطٍ,، وهذا النوعُ هو المشتغلُ بالاستنباطِ للأحكام من النصوص، والكلام عنه من جهتين:
الأولى: حدٌّهُ، فهو: الذي يَستقلٌّ بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غيرِ تقليد وتقيد بمذهب أحد.
انظر: أدب المُفتي والمُستفتي لابن الصلاح ص 87.
الثانية: شروطه، إذِ المُتصَدِّر للاجتهاد شروطٌ، هي:
1. معرفةُ الكتاب، والمُرادُ: إدراك آيات الكتاب، والإلمامُ بمعانيها، والمُتَعَيِّنُ آيات الأحكام.
انظر: المُستصفى للغزَّالي 2/350، المحصول لفخر الدين الرازي 2/33، البحر المحيط للزركشي 6/199.
2. معرفةُ السنة، كالسابق في حدِّ المُراد.
انظر: البحر المحيط 6/200.
3. معرفة اللغة العربية، والمُشترَطُ العلمُ بما يتعلَّقُ بنصوص الأحكام.
قال الطٌّوفي يرحمه الله - [شرح مختصر الروضة 3/581]: ويُشترَط أن يعرف من النحو واللغة ما يكفيه في معرفة في معرفة ما يتعلَّق بالكتاب والسنة مِن: نصٍّ,، وظاهرٍ, ومجمَلٍ,، وحقيقةٍ, ومجازٍ,، وعامٍ, وخاص، ومُطلَقٍ, ومقيَّدٍ,، ودليل الخطاب ونحوه كـ: فحوى الخطاب، ولحنه، ومفهومه، لأن بعضَ الأحكام يتعلَّق بذلك ويتوقَّف عليه توقفاً ضرورياً. ا، هـ.
انظر: البحر المحيط 6/202، التحبير للمرداوي 8/3875.
4. معرفة مواقع الإجماع، وذلك لأمرين:
أ- التحرٌّز من القول بما يُخالفه، ويُلحق بذلك: إحداثُ قولٍ, ثالث.
ب- التحرٌّز من القول بالخلاف أو القول المهجور المتروك.
انظر: المستصفى 2/351، البحر المحيط 6/201.
فائدة: قال الإمامُ الزركشي يرحمه الله - [البحر المحيط 6/201]: ولابُدَّ معَ ذلك أن يعرفَ الاختلاف. ا، هـ.
5. معرفة الناسخ والمنسوخ، حتى لا يستدل بنصٍّ, منسوخ.
انظر: البحر المحيط 6/203، التحبير 8/3873.
6. معرفةُ أصول الجرح والتعديل.
قال المرداوي ي- رحمه الله - [التحبير 8/3875]: لكن يكفي التعويلُ في هذه الأمور كلها في هذه الأزمنة على كلام أئمة الحديث كأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والدار قطني، ونحوهمº لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجازَ الأخذ بقولهم كما نأخذ بقولِ المُقَيِّمين في القيم. ا، هـ.
انظر: البحر المحيط 6/203، التحبير 8/3875.
7. معرفة أصول الفقه.
انظر: المحصول 2/36، إرشاد الفحول للشوكاني ص 234، التحبير 8/3870.
فائدتان مُتَمِّمَتان:
الأولى: قال الصَيرَفي يرحمه الله - : ومَن عرَفَ هذه العلوم فهو في المرتبة العليا، ومن قَصر عنه فمقدارُه ما أحسن، ولن يجوز أن يُحيطَ بجميع هذه العلوم أحدٌ غير النبي وهو مُتفرِّقٌ في جملتهم.
و الغرضُ الّلازم مِن علمِ ما وصفت ما لا يقدرُ العبد بترك فعله، وكلما ازداد علماً ازداد منـزلةً. قال - تعالى - : {و فَوقَ كلِّ ذي علمٍ, عليمٍ,}. ا، هـ [البحرُ المحيط 6/203].
الثانية: قال الشوكاني ي- رحمه الله - : ومن جعل المقدار المُحتاجَ إليه من هذه الفنون هو معرفةُ مُختصَرَاتُها، أو كتابٍ, متوسِّطٍ, من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعدَ، بل الاستكثارُ من الممارسة لها والتوسع في الإطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوةً في البحثِ، وبصراً في الاستخراج، وبصيرةً في حصول مطلوبه.
و الحاصلُ: أنَّه لابُدَّ أن تَثبُتَ له الملَكَةُ القوية في هذه العلوم، وإنما تثبُتُ هذه الملَكَةُ بطولِ المُمَارَسة، وكثرة المُلازمة لشيوخ هذا الفن. ا، هـ [إرشاد الفحول ص 234].
و بعدَ ذكرِ هذه الشروط المُؤَهِّلَةِ للتصدٌّر للاستنباط في الشريعة نعرِفُ عِظَمَ الأمر، وخطورة الإقدام على مثل هذا.
فهذان عِبئانِ من أعباءِ الفقهِ، يَبِينُ منهما عِظَمُ قيمةِ الفقهِ عند العلماء، ومدى حاجةِ النَّاسِ له، وليس علماً يُؤخَذُ عبرَ حالاتٍ, لا يُؤبَه به فيها، وإنما أمرُه أن يُؤخَذَ عن: قانون معتَبَرٍ,، وبجدٍ, وحزمٍ,، وأن يكون ذلك مصحوباً بعملٍ, في الباطن والظاهر.
رزقنا اللهُ الفقهَ في الدِّين، ولزوم جادة العلماء العابدين، والله الموفق لا ربَّ سواه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد