العلم وفضله وآدابه


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، له الحمد على نعمه الظاهرة والباطنة علمنا بعد الجهل وجعل لنا سمعنا وأبصاراً: ((وَاللّهُ أَخرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لاَ تَعلَمُونَ شَيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)) (النحل: 78).

وأشهد أن لا إله إلا الله ـ وحده لا شريك له هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ, عليم لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بيده الضَرُ والنفع، والخفضُ والرفع، وبيده الملك ومقاليدُ السماوات والأرض وهو عليمٌ بذات الصدور.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أزكى البرية، ومُعَلِّمُ الإنسانية ختم الله به النبوةَ والرسالة، وأعطاه الحوض والكوثَر والشفاعة صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله وأصحابه وجميع السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.

ثُمَّ أَمَّا بَعدُ:

فيا أيها الأخوة المسلمون: اتقوا الله - عز وجل - واخشوه - سبحانه - فإن هذا هو الفوز والفلاح وهو العلم والنجاة، بالخشية والتقوى يحصل الرزق والفرج، وتكفيرُ السيئات ورفع الدرجات.

 

أيها المسلمون:

إن أفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب ونال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان ولهذا قرن الله - سبحانه - بينهما في قوله: ((وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَالإِيمَانَ لَقَد لَبِثتُم فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَومِ البَعثِ فَهَذَا يَومُ البَعثِ وَلَكِنَّكُم كُنتُم لَا تَعلَمُونَ)) (الروم: 56).

وقوله: ((يَرفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ, وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرٌ)) (المجادلة: 11) (الفوائد لأبن القيم ص 138).

إن العلم إمام العمل وقائد له والعمل تابع للعلم ومؤتم به فكل عملٍ, لا يكون خلف العلم مقتدياً به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه كما قال بعض السلف:

من عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح (أ. هـ مفتاح دار السعادة).

ولقد أخبر الله - سبحانه - بأن العلم النافع سبب لخشيته - سبحانه - فقال جَلَّ ذكره: ((نَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)) (فاطر: 28).

فأهل العلم العاملين هم أكثر الناس خشية لله وتعظيماً له وهذه هي ثمرة العلم والفقه.

قال مجاهد - رحمه الله -: (الفقيه مَن يخاف الله - عز وجل -).

نعم (فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يَقذف في القلب يفهم به العبدَ الحق ويميز به بينه وبين الباطل) (فضل علم السلف).

وقال سفيان الثوري - رحمه الله -: ليس طلب العلم فلان عن فلان إنما طلب العلم الخشية لله - عز وجل -، وقال أيضاً: إنما يطلب العلم ليتقى الله به فمن ثم فُضِّلَ. فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء، إن العلم إن لم ينفعك ضرك) (الحلية)

إنه لا شيئاً أفضل من طلب العلم وتعليمه لمن خلصت نيته لله وصلح قصده.

أما من تعلم العلم للريا والمفاخرة والوصول إلى المناصب وأكل الأموال والتطاول على الناس فهو متوعّد بوعيد مناسب لقصره السئ.

روى أبو داود وابن ماجه عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من تعلّم علماً مما يبتغى به وجه الله - تعالى -لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة))[1]يعني ريحها.

ومن هذا الفعل ونحوه حَذّر أسلافنا فقال سفيان يوصي رجلاً: (إياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله أو ينشر قوله فإذا ترك ذاك منه عرف فيه، وإياك وحب الرئاسة فإن الرجل يزهد في الدينار والدرهم وتكون الرئاسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء والسماسرة والحمار).

ولهذا ضرب الله في القرآن مثلاً لعالم السوء في موضعين شَبهّهه في أحدهما بأخس الحيوانات فقال - عز وجل -: ((وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذِيَ آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ)) (الأعراف: 175-176).

وقال في الآخر: ((مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّورَاةَ ثُمَّ لَم يَحمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحمِلُ أَسفَاراً بِئسَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ)) (الجمعة: 5).

أيها المسلمون: تعلّموا علم القرآن والسنة واعملوا بما تعلّمتم فإن المرء لا يزال عالماً ما طلب العلم واجتهد في تحصيله فإذا ظن أنه قد استغنى من طلب العلم وجمعه فقد جهل وَدَبَّ إليه داء الغرور الكاذب، والعجب المهلك والعاقل لا يمنعه من طلب العلم كبر السن أو الخجل فإن هذا من أساليب الشيطان والعلم لا يقاس بالعمر ولا بالمنصب ولكنه نورٌ يقذفه الله في قلب من شاء وعلى هذا فلا يجوز للمرء أن يحتقر من هو أصغر منه سناً إذا وهبه الله علماً بل عليه أن يتعلم منه وأن يجلس إليه وإن يسأله وأن يجانب الحسد والاحتقار فإنهما خلقان مذمومان فهكذا يصنع الجهل بأصحابه.

عباد الله: مَن عرف العلم وفضله لم يقض نهمته منه، ولم يشبع من جمعه طول عمره كيف لا وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وَقُل رَّبِّ زِدنِي عِلماً)) (طه: 114).

كيف لا؟ وقد استشهد الله - سبحانه - ـ بأولي العلم ـ على أجل مشهودٍ, عليه وهو توحيده فقال عَزَّ من قائل: ((شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَآئِمَاً بِالقِسطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)) (آل عمران: 18).

وطلب العلم الشرعي بصدقٍ, وإخلاص من أسباب دخول الجنة فلقد صَحَّ عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سَهَّل الله له طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له مَن في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورشةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ, وافر))[2]

وقوله: ((وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)) معناه أنها تدعو له وتعطف عليه [3]

وتتواضع لطالب العلم تعظيماً له أو أنها تنزل عند مجالس العلم وتترك الطيران (ذكره الخطابي كما في منهاج القاصدين).

ومَن أراد الله به خيراً وَفّقه لتعلم ما ينفعه ويِّبصره بأحكام دينه.

وروى البخاري ومسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن يرد الله به خيراً يفقه في الدين)).

بالعلم يصلح الإنسان زيفه وفاسده، ويرغم عدوَّه وحاسده ويقوّم عوجه ومَيلَه ويصحح نيته وأملَه.

ومن وصايا لقمان لأبنه قال:

يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحي القلوب الميتة بالحكمة كما يحي الأرض الميتة بمطر السماء.

إن من العلم أيها المسلمون: ما هو واجب لا عُذر لأحدٍ, بتركه كمعرفة الأحكام الضرورية من العقائد والعبادات والمعاملات ومنه ما سوى ذلك واجب كفاني ينوب فيه بعض المسلمين عن بعض.

أيها الأخوة:

إننا ونحن نستقبل عاماً دراسياً جديداً ليحسن بنا أن نتذكر سرعة مرور الليالي والأيام وأنها هدمٌ لأعمارنا، وتقريبٌ من آجالنا فما أسرع مرورَ الأيام وانقضاءَ الشهور والأعوام وإن في هذا لذكرى لكل لبيبٍ, حازم بأن لا يَغترَّ بشبابٍ, ولا بصحة إن الأيام قُلَّبٌ ن والموتُ يأتي بغتةً، ورأس مالك هو عملك الصالح ممن قَدّم شيئاً عليه ((وَمَن عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ)) (الروم: 44).

أيها المدرسونَ والطلابُ والآباء: ليتذكر كل منكم واجبه، وليجاهد نفسه على أداء الأمانة بإخلاص وإن من القيام بأمانة العلم:

مجاهدةَ النفس على العمل به فهذا هو ثمرة العلم وذلك بلزوم التواضع وإساءةِ الظن بالنفس، والمحافظة على الجمعة والجماعة، وبر الوالدين والحرص على نوافل العبادات والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون ممن فتح الله بصيرته وأنار قلبه وزاده علماً وهدى ومن عمل بما علم أورثه الله علم مالم يعلم، وحفظ علمه من النسيان، وأصبح كلامه وتوجيهه مقبولاً.

أَمَّا من كان يجيد التوجيه بالقول فقط وفعله ومظهره يخالف ذلك فإنما يؤبخّ نفسه، ويقيم الحجةَ على شخصه (وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ((من علمٍ, لا ينفع))[4].

إذا العلم لم تعمل به كان حجةً * * * عليك ولم تُعذر بما أنت حاملُ

فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما  * * * يصدِّق قول المرء ما هو فاعلُ

فعلى مَن تصدّر لتعليم أبناء المسلمين: إن يتقي اللهَ فيهم، وأن يتعاهد هم بالتوجيه وأن يغرس في قلوبهم العقيدة الصحيحة وأن يذكرهم بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -  وأصحابه وما فيها من دروسٍ, وعبرٍ, وأن يكون قدوة لطلابه في مظهرة ومخبره وأن يحذر طلابه ـ دائماً ـ من جلساء السوء ومن فتن الشهوات والشبهات فإنهم عنده أمانة والله المسئول أن يوفق أهلَ العلم وشبابَ الأمة وجميع المسلمين إلى أحسن الأقوال والأعمال وأن يرزقهم الفقه في الدين والبصيرةَ فيه وأن يعيذ الجميع من فتن الشبهات والشهوات إنه هو السميع العليم هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شيء قبله ولا شيء بعده..وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى اللهُ وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

 أما بعد: فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واجتهدوا في تَعلِّم الأحكام الشرعية عن طريق السؤال والمذاكرة، والجلوس إلى أهل العلم في المساجد والمعاهد والجامعات وعن طريق القراءة والاستماع فلقد توفّرت في هذا العصر ـ بحمد الله ـ وسائل التعلّم التي كان يرحل من أجلها سلفنا الصالح شهوراً وسنوات، ويقطعون الفيافي والقِفار، ويتعرضون للجوع والأخطار ومَن أراد تحصيل علمٍ, غزير فليهجر الراحةَ وتضييعَ الأوقات فإن العلم لا يستطاع براحة الجسد

وهو لا يعطيك بعضَه حتى تعطيه كُلَّك.

 فيا هذا:

إن كنت ترغب في عظيم الأجر وسمو القدر ونباهة الذكر وارتفاع المنزلة بين الخلق وتلتمس عزاً لا تثلِمُهُ الليالي والأيام فعليك بالعلم الشرعي فاطلبه في مظانه تأتك المنافع عفواً واجتهد في تحصيله مدة من الزمن ثم تَذَوّق حلاوة الكرامة مدة عمرك وتمتّع بلذة الشرف فيه بقية أيامك واستَبِق لنفسك الذكرَ به بعد وفاتك (الحث على طلب العلم لأبي هلال العسكري).

ما الفخرُ إلا لأهل العلم إنهُمُ  * *  *على الهدى لمن استهدى إدلاءُ

وقدر كلِّ أمرئٍ, ما كان يحسنُهُ * * *  والجاهلون لأهل العلم أعداءُ

فَفُـز بعلـمٍ, تعش حياً به أبداً * * * الناسُ موتى وأهل العلم أحياءُ

 

أيها الطلاب: تأدبّوا بآداب العلم وأقرءوا ما كتب عن فضل العلم وآداب الطلب، واعرفوا للمعلِّم قدره، واحترموا مَن تتعلمون منه واحتملوا قسوته للمصلحة:

ممن لم يحتمل ذُل التعلّم ساعةً تجرع كأس الجهل طول حياته

وحذارِ من العجب والكبر فهما خلقان ذميمان ولكنهما في أهل العلم وطلبته أقبح وأشدٌّ ذماً.

والعلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حرب ٌللمكان العالي

وعلى طالبِ العلم أن يثبّت علَمه بالعمل ومما أُثر عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: (هتف العلم بالعمل فإن إجابة وإلا أرتحل).

وطالب العلم قدوةٌ لغيره فعليه أن يصون نفسه على مجالس المنكر ومن يهتكون أستار الأدب

ويجتمعون على اللهو المحرم.

أيها الآباء: شجعوا أبناءكم على التحصيل العلمي وحفّظوهم كتاب الله فإنه أساس العلوم، وحَذِّروهم من جلساء السوء، واسألوا عنهم في المدرسة وامنعوا عنهم وسائل الشر والفساد، وادعوه بالصلاح والهداية لتقرَّ أعينكم بهم وتنتفع الأمة منهم.

وإياكم - أن تركّزوا في أذهان الطلاب والطالبات بأن الرزق والوظيفة من الدراسة فحسب

بل علّموهم التوكل على الله - عز وجل - فكم من دارس مقير وكم من عامي غني.

إن الدراسة سببٌ لطلب العلم ورفع الجهل لمن استطاعها ووفّق إليها، أمَّا من لم يستطيع مواصلة الدراسة ووجدَ له عملاً فلينصرف إليه بعدما أخذ من العلم الشرعي ما يقيم به دينه كما قيل: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ.

أن من أولياء الأمور من يقيس أبناءه بدراستهم لا بمحافظتهم على صلاتهم.

لذا ترى اهتمامهم بدراسة الأولاد وأعظم من اهتمامه بصلاحهم وصلاتهم وعفتهم وهذا انتكاس خطير وبلاٌ كبير، فنعوذ بالله من علماً لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع.

اللهم صل على محمد وآله وصحبه.

 

----------------------------------------

[1] (ورداه أبن حبان والحاكم وصححه وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 46).

[2] رواه أبو داوود والترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترغيب ص 33.

[3] هذا ما ذهب إليه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ص 5 ـ 6.

[4] رواه مسلم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply