الصادقون سماتهم وجزاؤهم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الله صلي وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آل محمد الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين وراقبوه واعملوا بطاعته وأسالوه القبول والتوفيق ((فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلاَمِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)) (الأنعام: 125).

إخوة الإسلام: وسبق الحديثُ عن طرف من الصدق بمفهومه الواسع ومجالاته المتعددة، ونماذج من سير الصادقين، ومع أهمية الحديث في ذلك فيبقى الأهمٌّ من ذلك امتحانُ النفس على الصدق، واكتشافُ مكمن الداء والوقوفُ على الدواء، وعرضُ واقعِ النفس على سمات الصادقين ومدى قربها أو بعدها من واقع المجاهدين الصادقين.

وليس يخفى إن محاسبة النفس بشكل عام ومع الصدق بشكل خاص أمرٌ ليس بالهين، وقد يخفق فيه كثيرٌ من الناس لكن ذلك هو الطريقُ الأقوم لعلاجها واستصلاحها، فمن الناس من لا يعرف عيوب نفسه، ومنهم من يعرفها لكن يصعب عليه علاجُها، فإذا توفر العلمُ وأمكن العلاج سار المرءُ في ركاب المتقين وانضم إلى زمرة الصادقين، وزمرُة الصادقين من خيار خلق الله أجمعين، وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون عليهم أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم، يقول - تعالى -: ((وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِدرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * وَرَفَعنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً)) (مريم: 56، 57).

ويقول - جلّ ذكرهُ- : ((وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِبرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيّاً)) (مريم: 41).

وقال - جلّ ثناؤه- : ((وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِسمَاعِيل إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)) (مريم: 54).

واشتهر يوسف - عليه السلام - بالصدق كما قال - تعالى -: ((يُوسُفُ أَيٌّهَا الصِّدِّيقُ)) (يوسف: 46).

وجاء محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بالصدق وعُرف به وبغيره من محاسن الأخلاق كما زكاه ربٌّه وقال في وصفه: ((وَإِنَّكَ لعَلى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,)) (سورة القلم: 4).

وفوق ذلك كلِّه فالصدق قد تسمى به الُله - عز وجل -، ونسبه إلى نفسه، فقال: ((وِإِنَّا لصَادِقُونَ)) (الأنعام: 146). ((قُل صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُوا مِلةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا)) (آل عمران: 95).

هذه المكانةُ العليّةُ للصدق، حريةٌ بالبحث عن أسبابها، وهذا الذكرُ الحسنُ للصادقين موجبٌ لمعرفةِ سمات الصادقين، فما هي يا تُرى أبرزُ السمات التي يُعرف بها الصادقون؟ وما هي الأسبابُ الجالبةُ للصدق مع الله والمعينةُ عليه بإذن الله.

وقبل الحديث في هذا وذاك أعتذر إلى ربي صادقاً، وأعتذر إليكم ثانياً وكل منّا أدرى بنفسه وتقصيره ولئن لم نبلغ درجة الصادقين فنشهد الله على محبتهم ونسأل الله أن يحشرنا معهم فقد سُئل النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الرجلُ مَعَ مَن أَحَبَّ)) اللهم لا تحرمنا فضلك وجودك بسبب ضعفنا وتقصيرنا.

السمة الأولى للصادقين: فهي الصدقُ في الأداء والعمل بمجالات الصدق السابق ذكرُها، كالصدق في القول دائماً، والوفاء بالعهود أبداً، والالتزام بالوعود تعبداً، والصدق في النوايا وتجريد الأعمال خالصةً لوجه الله، وثمة مجالٌ مهمٌ من مجالات الصدق هو أعلاها وأعزٌّها ألا وهو الصدق في مقامات الدين وهو باختصار: الصدقُ في الخوف والرجاءِ، والتعظيم، والزهدِ، والرضا، والتوكل، والحبِّ، وما شابه ذلك، قال أبو سعيد القرشي: الصادقُ الذي يتهيأ له أن يموتَ ولا يستحي من سره لو كشف، قال - تعالى - مُعرِّضاً بطائفةٍ, من الكاذبين: ((فَتَمَنَّوُا المَوتَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ)) (البقرة: 94).

وقيل: حقيقةُ الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه - ظاهراً- إلا الكذب (الصدق والصادقون، أحمد خليل جمعة/42).

السمة الثانية: الإقبالُ على الطاعات، والمسارعةُ في الخيرات والضربُ بسهم في شتى القربات، يقول الإمام ابنُ القيم - رحمه الله - في معرض حديثه عن صدق التأهب للقاءِ الله وهو يتحدث عن همم الناس واختلافهم في الإكثار من أنواع الطاعات، \"ومنهم جامعُ المنفذ، السالكُ إلى الله في كل واد، الواصلُ إليه من كل طريق، قد ضرب مع كل فريق بسهم فأين كانت العبوديةُ وجدتّه هناك: إن كان علم وجدته مع أهله أو جهاد وجدته في صفوف المجاهدين، أو صلاة وجدتَه في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبةٌ وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدينُ بدين العبودية أنّى استقلت ركائبها، ويتوجهُ إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له ما تريد من الأعمال؟ لقال: أُريدُ أن أُنفّذَ أوامر ربي حيث كانت، وأين كانت، جالبةًّ ما جلبت، مقتضيةً ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، قد سلمتُ إلى ربي المبيع منتظراً منه تسليم الثمن\"(طريقة الهجرتين 167-171، عن: وكونوا مع الصادقين/98، عبد العزيز الجليل).

إخوة الإيمان: وإذا كانت الطاعات منها الفرضُ الواجب، ومنها المشروعُ المسنون، ومنها الطارئ ومنها المستديم، فلاشك أن قبول السنة مرهون بأداء الفرض الواجب، وأن المحافظة على ما يتكرر في اليوم والليلة خمسة مرات دليل على القدرة على فعل ما يتكرر دون ذلك من القربات، أجل إن من علامات الصدق مع الله محافظة العبد على الصلوات المكتوبة بأوقاتها وخشوعها مع جماعة المسلمين، قال الله - تعالى -في بدء صفات المؤمنين: ((قَد أَفلحَ المُؤمِنُونَ * الذِينَ هُم فِي صَلاتِهِم خَاشِعُونَ))، وقال في نهايتها: ((وَالذِينَ هُم عَلى صَلوَاتِهِم يُحَافِظُونَ)) (سورة المؤمنون: 1، 2، 9).

ولك أن تفهم قيمة الخشوع والمحافظة على الصلاة من هذه الآيات وغيرها.

وتأمل العلاقة بين الصدق والصلاة في قوله - تعالى -: ((فَلا صَدَّقَ وَلا صَلى * وَلكِن كَذَّبَ وَتَوَلى)) (القيامة: 31، 32).

يا أخا الإسلام: ومع حرصك على عمل الصالحات والإكثار من القربات فكن وقافاً عند حدود الله منتهياً عن محارم الله، وإياك واستسهال الذنوب، وعالج نفسك عن الاجتراء على محارم الله في حال خلوتك، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - محذراً أمته من هذا الصنف وموضحاً حالهم: ((لأَعلمَنَّ أَقوَاماً مِن أُمَّتِي يَأتُونَ يَومَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ, أَمثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بيضاء فَيَجعَلُهَا اللهُ - عز وجل - هَبَاءً مَنثُورًا، إِنَّهُم إِخوَانُكُم وَمِن جِلدَتِكُم وَيَأخُذُونَ مِن الليلِ كَمَا تَأخُذُونَ، وَلكِنَّهُم أَقوَامٌ إِذَا خَلوا بِمَحَارِمِ اللهِ انتَهَكُوهَا))[1].

يا أخا الإيمان: وكلما أخفيت ما يمكن إخفاؤه من عبادتك فهو بالصدق أولى وبالإخلاص أحرى، فصدقةُ السرِّ تطفئُ غضب الرب، وصاحبُها أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلهٌّ، والصلاة في جوف الليل من سيما الصادقين، وأفضل الصلاة صلاةُ المرء في بيته إلا المكتوبة (صحيح الجامع 3/245).

وتذكرُ عظمة الله في حال الخلوة والخشوع بين يديه، وسكب العبرات حين الوِحدة من علائم الصدق، وأنت خبير بجزاء من ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وهاك طرفاً من سير الصادقين في ذلك، يقول عبدُ الله بن المبارك عن مبارك، عن فضالة عن الحسن قال: \"إن كان الرجلُ لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجلُ لقد فقه الفقه وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزورُ وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون عليه أن يعملوه في السرِّ فيكون علانية أبداً...(تفسير ابن كثير لآية الأعراف 55، عن الجليل 108، 109).

السمة الثالثة: سلامةُ القلب من الشرك والفساد، والغلِّ والحقد والحسد ومثيلاتها من أمراض القلوب، ورديء الأخلاق، ويا فوز من ينام حين يجنٌّ المساء وليس في قلبه غلٌّ أو كره أو غش وحسد لأحدٍ, من المسلمين وكفى بهذه الخصلة فخراً أن تكون سبباً في دخول صاحبها الجنة، كما في خبر المبشرِّ بالجنة عن الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام -، ومع هذه البشارة في الدنيا، فليس ينفعُ يوم القيامة مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وفي مقابل ذلك: ((الإِيمَانُ وَالحَسَدُ لا يَجتَمِعَانِ فِي قَلبِ عَبدٍ,))[2] كما صح الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَن غَشَّنَا فَليسَ مِنَّا، والمكرُ والخِداع في النار)) (صحيح الجامع 5/326). ((والمؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف))[3].

فأصلحوا قلوبكم وعالجوا أمراضها تكونوا من الصادقين.

ومن علامات الصدق وسيما الصادقين حفظ الأوقات واستثمارها في ما يقرب إلى الله وعدمُ إضاعة الأعمار في اللهو واللعب، يقول أحدُ العارفين: \"فإذا عرف العبدُ أن الحياة ما هي إلا أنفاسٌ تتلاحق، ودقائقُ تتسابق، وأنه لو أحصى حظهَّ منها لوجده ينقص كثيراً عن عُمِر بعض الطيور والزواحف والأشجار فضلاً عن أعمار الكواكب والنجوم، فضلاً عن عمر الكون كلهِّ، فضلاً عن مدى عالمي الغيب والشهادة مجتمعين، وعلم مع هذا أنه مخلوق لحكمةٍ, واضحة وغايةٍ, محددة هي عبادة ربه - سبحانه - وحده لا شريك له، فلابد أن يحرص أشد الحرص على حفظ الوقت وإشغاله بالعبودية وإعمال البدن في الطاعة، وإلا اعتراه النقصُ في إيمانه بقدر ما يعتريه من نقص في ذلك\"(د. سفر، ظاهرة الأرجاء في الفكر المعاصر ص111، عن الجليل/ 100، 101).

وشعور الصادقين بأهمية الوقت واستثماره مبعثُ شعورهم بقصر الأمل وغيرُ الصادقين يتثاقلون في أعمالهم ويستبطئون بطول آمالهم وأولئك ذمهم الله في كتابه وتوعدهم فقال: ((ذَرهُم يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوفَ يَعلَمُونَ)) (الحجر: 3).

وقال علي - رضي الله عنه -: إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطولُ الأمل، فأما اتباع الهوى فيصدٌّ عن الحق، وأما طولُ الأمل فينسي الآخرة (فتح الباري 11/236)

طول الأمل لما يتولد منه من الكسل عن الطاعة، والتسويف في التوبة والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والقسوة في القلب.

قال - تعالى -: ((فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِّنهُم فَاسِقُون)) (السابق /237 عن ظاهرة ضعف الإيمان للمنجد صفحة 30)

السمة الخامسة: الزهدُ في مدح الناس وثنائهم، فإذا وجدت من يعمل الخير ولا ينظر إلى مدح الناس وثنائهم، بل قلبه معلقُ بالله وعمله خالصاً له فاعلم أنه من الصادقين.

يقول ابن القيم - رحمه الله -: (لا يجتمع الإخلاص في قلب ومحبةُ المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماءُ والنار والضبٌّ والحوت، فإذا حدثتك نفسُك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمعُ أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، ويُسَهِّلُ عليك ذلك يقينُك أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنُه لا يملكه ولا يهبه سواه، ويقينُك كذلك أنه ليس أحد ينفع مدحُه ويزين، ويضر ذمٌّه ويشين إلا اللهُ وحده)[4].

السمة السادسة: الاهتمامُ بأمر هذا الدين والشعورُ بقضايا المسلمين، فليس الصدقُ مع الله كلماتٍ, تقال باللسان، أو مجرد أمانٍ, ليس لها من رصيدٍ, في واقع الحياة، والصادقون همهُم نصرةُ هذا الدين والجهادُ في سبيله، والقولُ بالحق والعملُ به في حال السراءِ والضراء، إذ من الناس من يقول الحقَّ وينتصر له في حال غلبة الحق ونصرة أهله، فإذا خُنق الحقٌّ أو ضُيق على المحقين تراجع وآثر السلامة في ظنّه، والسلامةُ في الصدق مع الله والثبات على الحقِّ أو قال بغير ما يعتقد أنه الحقٌّ مجاراةً للآخرين، وتلك الطامةُ الكبرى والبليةُ العظمى.

إخوة الإسلام: وليس من لوازم الاستمساك بالحق والاهتمام بهذا الدين تعريضُ النفس للبلاء فوق ما تستطيع، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يَنبَغِي لِمُؤمِنٍ, أَن يُذِل نَفسه: يتعرض للبلاء لما لا يطيق))[5].

ألا وإن من لوازم الإيمان وسيما الصادقين الاهتمام بقضايا المسلمين، وتأمل هذا التصوير البديع لعلاقة المؤمن بإخوانه المؤمنين يجُليه محمد - صلى الله عليه وسلم - حين يقول: ((إن المُؤمِنُ من أَهلِ الإِيمَانِ بِمَنزلة الرَّأسِ من الجَسَدُ، يَألمُ المُؤمِنُ لأَهلِ الإِيمَانِ كمَا يَألمُ الجسد لِمَا فِي الرَّأسِ))[6].

فامتحن إيمانك بهذا وكن مع الصادقين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ * وَلقَد فَتَنَّا الذِينَ مِن قَبلِهِم فَليَعلمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَليَعلمَنَّ الكَاذِبِينَ)) (العنكبوت: 1-3).

أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين قال في محكم التنزيل: ((هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ)) (المائدة: 119).

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حكم بنصرة الحق ونصرة المؤمنين، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أوصى بالصدق ونهى عن الكذب، والحسد والبغضاء فقال: ((عَليكُم بِالصِّدقِ فَإِنَّهُ مَعَ البِرِّ وَهُمَا فِي الجَنَّةِ، وَإِيَّاكُم وَالكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الفُجُورِ وَهُمَا فِي النَّارِ، وَسَلُوا اللهَ اليَقِين وَالمُعَافَاةَ فَإِنَّهُ لم يُؤتَ أَحَدٌ بَعدَ اليَقِينِ خَيرًا مِن المُعَافَاةِ، وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَقَاطَعُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا كَمَا أَمَركَم الله))[7].

اللهم صلي وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد أيها المسلمون: فاكتفي بذكر بعض هذه السمات للمتقين وليس هذا حصراً لها، وهذه السماتُ منها ما يصلح أن يكون سبباً للصدق مع الله، ومنها ما يصلح أن يكون ثمرةً للصدق، ومع ذلك أشير إلى بعض ثمار الصدق الأخرى، فإن الصدق يورث في الحياة الدنيا طمأنينة النفس، وراحة القلب، فليس ينتابُ الصادق أكثر من شعور ولا تتوزع نفسهُ بين مسايرة الخلق وإرضاء الخالق، مهمٌّته واحدة وظاهره وباطنه، وسريرته وعلانيته سواء وكم يُعذّب الكاذبُ نفسه؟ وكم يؤلم قلبه وهو يحتاج للظهور في هذا الموقف بمظهر، وللموقف الآخر بمظهر آخر حتى وإن كان في أحدهما مخالفةٌ لشرع الله، وحين يكسب الصادق ثقة الناس ويكون محلاً للقبول والمحبة عندهم، يكون الكاذب بعكس ذلك فيستوحش الناسُ منه ويستوحش هو منهم، بل ربما استوحش من نفسه في النهاية، وما باله لا يستوحش إذا قلاه الناسُ، فحديثهُ غير مصدق، وليس له من قبول أو محبة بين الصادقين بل وحسبه أن يكذبه الناس ولو كان صادقاً وصدق الشاعر:

حسبُ الكذوب من البليةِ *** بعضُ ما يُحكى عليه

فإذا سمعت بكـــذبةٍ, *** من غيره نُسبت إليه

 

(الصدق والصادقون168)

ومن ثمار الصدق: الخيرُ والبركةُ والنماء في النفس والمال والولد ويكفيك أن تعلم حديث المصطفى في البيعين الصادقين أو الكاذبين: ((فَإِن صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لهُمَا فِي بَيعِهِمَا وَإِن كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَت بَرَكَةُ بَيعِهِمَا))[8].

ومن آثار الصدق: تفريجُ الشدائد وكشف الكربات فإن من يصدق مع الله حال الرخاء يكن الله معه في حال الشدة، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، وفي صدق الثلاثة الذين خلفوا درس بليغ في ثمار الصدق العاجلة في الدنيا، وفي كذب المنافقين واعتذاراهم ما هو جدير بإقلاع الكاذبين عن كذبهم لو فقهوا.

ومن ثمار الصدق: الهداية للحق قال - تعالى -: ((وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لنَهدِيَنَّهُم سُبُلنَا وَإِنَّ اللهَ لمَعَ المُحسِنِينَ)) (العنكبوت: 69).

ومن ثماره أيضاً: التوفيق لحسن الخاتمة وتلك التي شّمر لها المشمرون، وأقضت مضاجع الصالحين، وأوجلت قلوب العارفين، أجل إن الصدق مع الله طريق موصل إليها بإذن الله وتأمل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ حَتَّى يُكتَبَ عِندَ اللهِ صِدِّيقاً))[9].

وإذا كانت هذه بعض ثمار الصدق في الدنيا، فيكفي الصادقين منزلة في الآخرة أن يقول الله بشأنهم: ((هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ)) (المائدة: 119).

قال القرطبي - رحمه الله - معلقاً على هذه الآية: وإنما ينفع الصادقين صدقُهم في ذلك اليوم وإن كان نافعاً في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه (7/142).

إخوة الإسلام: وربما تساءل البعض منكم وكيف يسلك الإنسانُ بنفسه مسلك الصالحين، وما هي الأسباب الجالبة للصدق؟

وللإجابة على ذلك أقول - كما سلف - إن التخلق بأخلاق الصادقين وتدريب النفس على سمات الصادقين السابقة خير معين على ذلك وأضيف هنا أسباباً معينة أخرى ومنها:

مصاحبة الصادقين والاقتداءُ بهم والانضمام إلى قافلتهم، قال - تعالى -: ((يَا أَيٌّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) (التوبة: 119).

روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ((لولا ثلاث لما أحببت البقاء في الدنيا، لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوامٍ, ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايبُ الثمر))[10]

أما الصادقون السابقون فإن قراءة سيرهم والتعرف على أخبارهم تعين على الاقتداء بهم وتروض النفس على مسايرتهم.

ومما يعين على الصدق ويلحقُ بركب الصادقين النظر بتمعن في عواقب الصدق العاجلة والآجلة ومن كانت له بصيرة فسيختار الباقي على الفاني ولن يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة.

ومما يعين على جلب الصدق والعمل به، الدعاءُ لله بقلب خاشع أن يكون الإنسان في زمرة الصادقين والله - تعالى -لا يخيب الرجاء، ولا يرد أكفاً صادقة رفعت للسماء فارغة.

وهل علمت يا أخا الإيمان أن الإيمان يزيد وينقص، وإن النفس في إقبال وإدبار، وإن مما يضبط مسيرتها دوامُ الصلة به والدعاء.

وتأمل حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله - تعالى -أن يجدد الإيمان في قلوبكم))[11].

اللهم جدد الإيمان في قلوبنا... اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من الصادقين في أقوال وأعمالنا ونياتنا وسائر أحوالنا، إنك سميع الدعاء..

 

----------------------------------------

[1] رواه ابن ماجة، وقال في الزوائد إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وهو في صحيح الجامع 5/3، وانظر: ظاهرة ضعف الإيمان/المنجد/17).

[2] (صحيح الجامع 6/216).

[3] رواه أحمد وصححه شاكر 18/17، عن الجليل وكونوا مع الصادقين/ صفحة100) والمؤمن يألف ويؤلف، صحيح الجامع 6/7).

[4] (الفوائد/149، عن الجليل/102).

[5] رواه أحمد والترمذي وابن ماجة بسند صحيح(صحيح الجامع الصغير 6/253).

[6] رواه أحمد في مسنده، وهو في السلسلة الصحيحة (1137). المنجد/ظاهرة ضعف الإيمان(19).

[7] رواه أحمد وغيره بسند صحيح، صحيح الجامع الصغير (4/49).

[8] متفق عليه.

[9] وانظر: الجليل صفحة 154).

[10] (الجليل/163).

[11] رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح، صحيح الجامع(2/56).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply