من مظاهر إتباع الهوى وانتشار الجهل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أبان معالم الحق وأوضحه وأنار مناهج الدين القويم وبينه، أحمده جل جلاله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بيّن السبيل ودعا إلى الصراط المستقيم حتى ترك الأمة على بيضاء نقية فالحلال بيّن والحرام بيّن والسنة ظاهرة والبدعة بينة فـ: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(1) فصلى الله على نبينا محمد...أما بعد.

 

فاتقوا الله عباد فإنه قد (اقتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ. وَإِن يَرَوا آيَةً يُعرِضُوا وَيَقُولُوا سِحرٌ مُستَمِرُّ. وَكَذَّبُوا وَاَّتَبُعوا أَهوَاءَهُم وَكُلٌّ أَمرٍ, مُستَقِرُّ. وَلَقَد جَاءَهُم مِنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزدَجَرٌ)(2). إن لاقتراب الساعة علامات كثيرة منها أن يقل العلم ويظهر الجهل ويكثر القراء ويقل الفقهاء ويتخذ الناس رؤوساً جهالاً فُيسألون فيفتون بغير علم فيَضلون ويُضلون كل هذا مما جاءت به الأخبار الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم – (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ)(3).

 

أيها المؤمنون:

إن مما يؤرق أصحاب القلوب الحية الذين يغارون على شريعة رب العالمين ظهور هذه العلامات في واقع كثير من الناس اليوم فإن قطاعاً عريضاً من المسلمين يعيشون جهالات عظيمة جهلوا فيها كثيراً من أصول الدين وقواعده مع كثرة القراء وتوفر أسباب العلم وقد صدق ابن مسعود حيث قال: \"كيف بكم إذا قل فقهاؤكم وكثر قراؤكم؟ \". أيها المؤمنون إن ظهور هذه العلامات نذير شر يوجب على كل ناصح للأمة مشفق على الملة أن يحذر من الجهل وأن يبين صوره وينبه على مظاهر هذه العلامات وصورها في حياة الناس ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة. أيها الناس إن في حياة الناس اليوم صوراً عديدة ينظمها سلك واحد وهو صدق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من قلة العلم وظهور الجهل واتباع الهوى وإعجاب كل ذي رأي برأيه.

 

 فاتقوا الله عباد الله فقد قال الله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجعَل لَكُم فُرقَاناً وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ)(4). (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ)(5).

 

أيها المؤمنون:

إن من صور قلة العلم وظهور الجهل إعراض كثير من الناس عن تعلم ما يجب عليهم تعلمه من أحكام الدين التي يحتاجونها في عباداتهم أو معاملاتهم أو غير ذلك من شؤون حياتهم فكثير من المسلمين يعيش حياته ويزاول نشاطه وأعماله دون مراجعة لكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليعلم حكم الله فيما يأتي ويذر فكثير من الناس يقدم على فعل ما يشك في تحريمه أو صحته أو حكمه دون بحث ولا سؤال عن حكم الله - تعالى -في ذلك فيقع في آثام عديدة وأزمات كثيرة قد لا يحسن الخروج منها ولو أنه أخذ بقول الله - تعالى -: (َاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ)(6) لجنب نفسه الإثم والردى ولكن الشيطان زين له ترك السؤال ليبقيه في مستنقع الجهل والظلمات وليكثر عليه من الآثام والسيئات.

 

أيها المؤمنون:

 إن بعض الناس ممن ضعف قدر الدين في قلوبهم يسوغ لنفسه ترك السؤال عما يحتاجه من مسائل العلم والدين بحجة أن الدين يسر أو بأن الله قد قال: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسأَلوا عَن أَشيَاءَ إِن تُبدَ لَكُم تَسُؤكُم)(7) أو غير ذلك من الشبهات الباردة والأوهام الفاسدة التي تدل على ضعف الإيمان وخفة قدر الدين في القلب. أيها المؤمنون إن الدين ولله الحمد والمنة دين يسر لا حرج فيه ولا ضيق لكنه دين شامل عظيم شرع الله فيه ما تحصل به مصالح العباد في دينهم ودنياهم وفرض على أهله أن يتعلموا ما يقوم به دينهم فطلب العلم فريضة على كل مسلم: (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ) فلا يسوغ لمؤمن صادق الإيمان أن يعرض عن السؤال والتعلم بحجة أن الدين يسر. أيها المؤمنون إن من صور ظهور الجهل أن يعتذر بعض الناس عن ترك السؤال بقوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسأَلوا عَن أَشيَاءَ إِن تُبدَ لَكُم تَسُؤكُم)(8) فإن هذه الآية نزلت في أقوام كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - تعنتاً واستهزاءً فنهى الله - عز وجل - أهل الإيمان عن ذلك لعدم نفع هذه الأسئلة وشؤم عاقبتها أما السؤال عن الأحكام الشرعية والعلوم الدينية فإنه مما أمر الله به وحث عليه في قوله - تعالى -: (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ).

 

فيا أيها الأخ المبارك إياك وترك السؤال عما تحتاجه من أمور دينك فإنه لا عذر لك عند الله - تعالى -إذا تركت السؤال عما تحتاجه مع وجود من يجيبك ويدلك على الحق والهدى. أيها المؤمنون إن من صور ظهور الجهل واتباع الهوى ما يقع فيه بعض الناس من تبرير ما هم عليه من المعصية والإثم وتسويغ ما هم عليه من الخطأ بأن فيما يواقعونه من المعاصي خلافاً بين أهل العلم، فإذا قيل للواحد من هؤلاء: اتق الله واترك المعازف والغناء أجاب بأن العالم الفلاني يرى جواز الغناء والموسيقا. وإذا قيل له: اتق الله ودع الربا قال: إن العالم الفلاني أباح الفوائد الربوية. وإذا قيل له: اتق الله وصل مع الجماعة قال: في المسألة خلاف بين أهل العلم والأثر. فله حجة على كل سيئة (أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلمٍ, وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُون)(9).

 

فلا شك عندي أن هذا ممن اتخذوا دينهم هزواً ولعباً لم يقصد اتباع الدليل وإنما يفتش عما يسوغ له معصية الله الجليل ولذلك فهو مجتهد في جمع الهفوات وتتبع الزلات التي يقع فيها هذا العالم أو ذاك ليحل بها لنفسه المحرمات أو يسقط عنها الفروض والواجبات فيختار في كل مسألة ما يوافق هواه. أما علم هذا المتهوك أن الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ فليتق الله كل واحد منا فإنه لا يجوز لنا العمل بقول من أقوال أهل العلم في إباحة محرم اشتهر الإفتاء بتحريمه أو ترك واجب شاع القول بوجوبه بلا بينة ولا برهان: (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ)(10).

 

أيها المؤمنون: \"إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات\" فالواجب في الحلال إحلاله والواجب في الحرام تحريمه واجتنابه، والواجب في المشتبهات اجتنابها فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام: (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ).

 

الخطبة الثانية:

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واحذروا أن تقولوا في دينه وشرعه ما ليس لكم به علم فإن من الناس من إن قيل له: افعل أو لا تفعل كذا قال: إن هذا حلال أو ذاك حرام بلا بينة ولا برهان أو: إن العالم أو الشيخ الفلاني يبيحه أو لا يوجبه وهو كاذب في قوله. فاتقوا الله عباد الله واحذروا الكذب على الشرع أو على أهل العلم فإن الكذب على الشرع أو على أهله ليس كالكذب على غيرهما فلا تنسب إلى الشرع حكماً أو إلى عالم قولاً إلا إذا كنت قد علمته وعقلته عنه قال الله - تعالى -: (وَلا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسؤُولاً)(11).

 

(فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ). أيها المؤمنون إن من صور ظهور الجهل واتخاذ الناس رؤوساً جهالاً ما يقع فيه كثير من الناس من سؤال كل من هب ودب عن أحكام الشرع ومسائل الدين فتجد الواحد من هؤلاء إذا وقعت له واقعة احتاج إلى السؤال عنها سأل أي أحد ولم يتحر في سؤاله أن يسأل أهل العلم الأثبات الذين قال الله فيهم: (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ).

 

فكثير من الناس يسأل أئمة المساجد والجوامع أو من يتوسم فيهم صلاحاً أو يسأل من قرأ شيئاً يسيراً من العلم لم يبلغ به درجة الفقه والإفتاء ومثل هؤلاء إن لم يكونوا من أهل العلم المشتغلين به فإن الذمة لا تبرأ بسؤالهم فلابد للمسلم مع كثرة المدعين للعلم المتصدرين للإفتاء من أن يميز بين العالم والقارئ بين الفقيه والمفكر أو الواعظ فإننا في زمن كثر خطباؤه وقراؤه وقل علماؤه وفقهاؤه فاتقوا الله أيها المؤمنون فإن الأمر دين فلينظر أحدكم عمن يأخذ دينه (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ).

 

وإنني أحذركم أيها المؤمنون من دعاة فقه التيسير ممن يتكلم في بعض القنوات أو يكتب في الصحف والمجلات الذين يطالعوننا بين وقت وآخر بغثّ الفتاوى وساقط الآراء بدعوى التسهيل والتيسير فإن التسهيل والتيسير لا يجعل الحرام حلالاً وليس صواباً أنه إذا اختلف العلماء فلنا الأخذ بأسهل الأقوال وأخفها دون النظر إلى أدلتها بل الواجب أن يطلب المؤمن أقرب الأقوال إلى الحق والصواب?(يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) (فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ).

 

----------------------------------------

(1) متفق عليه: البخاري(2697)º ومسلم (1718) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة.

(2) سورة: القمر: آية (1ـ4).

(3) سورة: النحل: آية (43). 

(4) سورة: الأنفال: (29). 

(5)سورة: النحل: 43

(6)سورة: النحل: (43).

(7)سورة: الأنبياء (7)

(8)سورة: المائدة: (101).

(9) سورة: الجاثية (23).

(10) سورة: النحل (43).

(11) سورة:الإسراء: آية (36).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply