للباطل صولة فيضمحل والحق يعلو ولا يعلا عليه


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا (يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ, وَاحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيبًا) (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولًا سَدِيدًا يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا).

أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة، عباد الله إن الله - سبحانه وتعالى - له ملك السماوات والأرض وهو مدبر هذا الكون وقيومه لا يتحرك فيه متحرك ولا يسكن ساكن إلا بأمره وإنه - سبحانه وتعالى - جعل الغلبة والعزة والمكانة لحزبه، وبين ذلك في محكم التنزيل وجعل العاقبة للمتقين وبين ضمانه لرسله بالغلبة على أعدائهم في كل زمان ومكان، فقد قال - تعالى -: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) وقال - تعالى -: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) فالعاقبة للمتقين، ولا يمكن أن يستمر الظلم والعدوان على هذه الأرض بحال من الأحوال، بل ذلك إنما هو من صولات الباطل، وللباطل صولة فيضمحل، والحق يعلو ولا يعلا عليه، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وما على وجه الأرض إذ ذاك من يناصره ويدعو إلى ما يدعو إليه، فرماه العرب عن قوس واحدة وتألبوا عليه جميعا، وساعدهم على ذالك أمم الشرك والكفر المحيطة بهم من كل جانب، وكاد له اليهود وكانوا أشد أعدائه وكادوه وأظهروا له العداء فنصره الله على الجميع، ولم يبق لأحد منهم باقية وأعز الله جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، فكتب الله له الغلبة ولأتباعه ناواه قوم بعد ذلك من المنافقين، فكانت الدابرة عليهم ولم تبق لهم باقية، ناواه الكذابون الدجالون فخرج الأسود العنسي في اليمن ومسيلمة الكذاب وغيره في جزيرة العرب فأذابهم الله كما يذوب الملح في الماء ولم تبق لهم باقية، وهذه سنة الله - سبحانه وتعالى - في كل من ناوى دعوته وناوى سبيله، فقد سبق إلى ذلك الأمم من قبله وفيهم أيام الله التي لا تخلف، وقد حقق الله لرسله هذا النصر المبين، وبين أن العاقبة للمتقين، وذلك باق إلى قيام الساعة، إن الذين يقفون في وجه هذا الدين إنما يضربون في حديد بارد ويعلمون في قرارة أنفسهم أنهم إنما يكيدون لأنفسهم، ولا يضرون الله ورسوله شيئا، إن على جميع السامعين أن يتذكروا أن الله - سبحانه وتعالى - ناداهم نداء كريما، فقال فيه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين), هذه سنة الله الماضية (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) لذلك لا بد أن تستجيبوا لنداء الله وأن تعلموا أنه حين ناداكم بأن تكونوا أنصارا له فهو الغني عنكم وهو الحميد، هو الغني لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وهو الحميد لمن نصره، فإنه يضاعف له الأجر ويعلي له الذكر، وإنه - سبحانه وتعالى - حين يرسل رسولا من الرسل فإنما يبتلي به أهل الأرض فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن الله - عز وجل - قال له إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك\" فهو - صلى الله عليه وسلم - ممتحن بهذه الرسالة، والناس ممتحنون ببعثته - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولذلك فإن الناس قبل بعثة الرسل كانوا أمة واحدة، وكانوا يدا واحدة على محبة هذه الدنيا والإقبال على ما فيها من الزخارف، فلما جاء الرسل فرقوا بين الناس فأصبح الناس فريقين فريقا يريدون الله والدار الآخرة، وفريقا يريدون هذه الدنيا الفانية المنقطعة، وقد كتب الله الغلبة لمن يريده ويريد ابتغاء سبيله ووجهه، ولذلك قال الله - تعالى -: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق) فلما جاء الرسل اختلف الناس في دعوتهم، فمنهم من صدق بهذه الدعوة وآمن بها واتبعها، وأولئك الذين امتحنوا وأوذوا في سبيل هذه الدعوة أذى شديدا يمثله حال الذين آمنوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم - في بداية الدعوة، فإنهم في جمهورهم كانوا شبابا ليس لهم مكانة اجتماعية ولا لهم مال ولا لهم نصرة ولا لهم مدد خارجي ومع ذلك صمدوا وصبروا على ما أوذوا في سبيل الله، وتقربوا إلى الله - سبحانه وتعالى - بالصمود والصبر فكتب الله لهم ما كتب لأسلافهم من الذين سلكوا طريق الله واختاروا سبيله على سبيل الشيطان، ونصرهم الله نصرا مبينا، فهذا مصعب ابن عمير لم يكن بمكة فتى أحسن حالا منه في حال شركه، فقد كانت أمه غنية وقد كان أحب أولادها إليها، فكانت تغدق عليه من أنواع المال، فلما أسلم حبسته بين أربعة جدر وكلفت أربعة أعبد يضربونه في الصباح والمساء ويؤذونه بأنواع الأذى لعله يرجع عن دينه، فصمد وصبر، وكان أول سفير للإسلام أخرجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل المدينة يدعوهم بدعاية الله، فآمن بهذه الدعوة شباب أهل المدينة وكفر شيوخهم فكان شبابهم يسعون لهداية الشيوخ بكل الوسائل وكان ذالك سبب إسلام من أسلم من الشيوخ وعندما أوذوا في المدينة صبروا ونقل لهم مصعب تجربته في مكة وما حصل للمؤمنين بها من الأذى وبين لهم حالهم هنالك فاستحلوا كلما ذاقوا من الهوان والأذى في سبيل الملك الديان، وحينئذ نصرهم الله - عز وجل - بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وبالتمكين لدين الله في المدينة فأصبحت عاصمة الإسلام ومنها انبثق النور في الأمصار كلها حتى وصل إلى مجلسكم هذا الذي أنتم فيه، فما أنتم فيه من النور والهدى كله مستورد من تلك المدينة المطهرة وكله جاء من آثار صمود أولئك الرجال وكل بقاء لهذا الدين فإنما ثوابه وأجره لأولئك السلف السابق الذين صمدوا وصبروا على دعوة الله ولم يبالوا بما لاقوا في سبيل الله وعرفوا أن العاقبة للمتقين وأن المستقبل لهذا الدين حينئذ هان عليهم ما يلقون من الكدر الذي يعرفون أنه منقطع لا يبقى فأخذوا الأمور بجدها وأنزلوها في نصابها فحقق الله لهم وعده، إن أولئك النفر قد بايعوا الله - سبحانه وتعالى - بيعة أكدها الله في الكتاب المبين وفي التوراة والإنجيل وفي الزبور، وهذه البيعة لا يمكن أن يتراجعوا عنها ولا أن ينقضوها بوجه من الوجوه، قال الله - تعالى -: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) فقد وفوا لله بما بايعوه عليه (وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) بقوا على منهج الله صامدين صابرين لا يستفزهم المستفزون، فما لقوا من الأذى لم يكن ليصل بهم إلى حد التطرف والغلو والشذوذ عن منهج الله، ولم يكن ليصل بهم كذلك إلى الرعب من المخلوق ولا من التنازل عن المبادئ التي أخذوها بالحق، فهم على السبيل السوي الوسط المستقيم، ليسوا أهل تطرف ولا غلو، ولا أهل تنازل ولا خوف ولا خشية من غير الله - عز وجل - يمسكون الكتاب بقوة ويأخذون به على أحسن الوجوه، وهم بذلك قد حققوا رضوان الله على أنفسهم، فحققه الله لهم، أقاموا دولة الإسلام في صدورهم فأقامها الله على أرضهم، إن الله - سبحانه وتعالى - لا يخلف الميعاد، وإن من انتصر على نفسه في معركة الإصلاح حري أن ينتصر على غيره في معركة السلاح، وإن المستقبل لهذا الدين، فقد شاهدتم ما حصل في زماننا هذا من الانتشار لهذه الدعوة، ومن الانتصار لها كذلك، فالناس يدخلون اليوم في دين الله أفواجا كما كان في العام السابع والثامن والتاسع من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أقبل الكفار من اليهود والأمريكان والأوربيين على دين الله يدرسونه وعرفوا أن كل ما سواه إنما هو من نسج العنكبوت، فأسلم كثير منهم الذين أراد الله بهم الخير، ولا زالوا يدخلون في هذا الدين أفواجا وما زالوا يستجيبوا لدعوة الله كلما دعا داع إلى سبيل الله ولو كان أضعف خلق الله، ليس له أية وسيلة لا بد أن يجد مستجيبا، ولا بد أن يستجيب له أنصار الله الذين يسمعون نداء الله وهو يناديهم (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا الله) إنكم يا عباد الله ممتحنون بما تجدون من الضيق على سبيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقه، وعليكم أن تعلموا أن الناس ما عادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذاته ولا على أساس أي أمر تقدم به يضر بهم، بل ما عادوه إلا على أساس الحق الذي جاء به من عند الله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل أحدا من المشركين في فترة الدعوة المكية ولم يظلم أحدا قط، ولا خاطب أحدا بما يكره قط، إنما خاطب اليهود بما يكرهون عندما حل عليهم عقاب الله وأنزل الله الوحي في ذلك، أما من سواهم فلم يخاطبهم قط بما يكرهون، وقد كان يخاطب المشركين بأحب الأسماء إليهم ليدعوهم إلى الإسلام، فقال لعتبة ابن ربيعة يا أبا الوليد، اسمع أبا الوليد، فخاطبه بأحب أسمائه إليه، ومع ذلك فقد عادوه وآذوه وأخرجوه وتألبوا عليه وزعموا المزاعم التي زعمها أسلافهم من قبل، زعموا أنه سيشتت جمعهم ويسفه أحلامهم، ويضلل أسلافهم ويكفر آباءهم، ويسب آلهتهم، وكل ذلك من الكبائر والموبقات التي لا تغتفر، ولا بد أن يرد صاحبها إلى أسفل سافلين، لكن هيهات أن يطفئوا نور الله بأفواههم، لا بد أن يتم الله هذا النور بعز عزيز أو بذل ذليل، ولذلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قام المشركون في وجهه وآذوه بأنواع الأذى كان الناصحون يأتونه فيقولون يا محمد هدئ خطابك لهؤلاء، خفف من لهجتك، لا تخاطبهم بما يكرهون، هل خاطبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يكرهون....؟ إنما خاطبهم بالحق الذي لا غبار عليه، والذي لو جردوا عقولهم و سمعوه لقبلوه، ولذلك فإن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عندما أسلم متأخرا قال له عمر بن الخطاب يا عمرو والله إن كنا لنعدك من أعقلنا في الجاهلية فما الذي قعد بك عن الإسلام، قال: يا أمير المؤمنين إنه كان معنا شيوخ ـ كبار السن ـ فكنا لا نعدل عن رأيهم ونراهم أهل صواب، فلما ماتوا نظرنا فإذا الحق واضح، فلذلك لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سببا فيما حصل من المضايقة للمؤمنين إنما كان ذلك بسبب طغيان الطاغين المنكرين لمنهج الله، ولم يكن يوما من الأيام هذا المنهج ليسعى لإرضاء اليهود والنصارى والمشركين بوجه من الوجوه، ولذلك قال الله - تعالى -: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال - تعالى - في المشركين: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) إن هذا الخطاب ليس لأولئك فحسب بل هو خطاب لكم جميعا، ولذلك خاطبكم الله - عز وجل - بقوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرٌّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أَعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيئًا وَسَيَجزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) فكل يوم من أيامكم هذه هو يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب ويوم حنين كل يوم من أيامكم يوم معركة من معارك الإسلام الفاصلة، إنما تتفاوت الأيام بحسب رجالها، ولكن لا بد أن تعلموا أن المعركة قائمة وأنها على منهج الله، وأن المعادى ليس أشخاص الداعين إلى سبيل الله، فهؤلاء لا يساوون شيئا من المجتمع، وانظروا إلى عددهم في كل مجتمع، فلا يساوون أية نسبة معتبرة من ناحية العدد ولا من ناحية المكانة الاجتماعية، ولا ينظر إليهم ناظر لو جردوا عن دعوتهم فليس لهم أي وزن ولا أية مكانة إنما المحارب هو دين الله - عز وجل - وهو باق خالد، وهو الذي تتكسر على صخرته كل العداوات وكل الكيد يرتد دونه، وللبيت رب سيمنعه، إن دين الله - سبحانه وتعالى - لا يضره تمالؤ المتمالئين ولا كيد الكائدين وإنما يبتليكم الله بذلك ليعلم أيكم أحسن عملا، وقد قال - تعالى -: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) أي ليمتحن بعضكم وهم المؤمنون ببعض أي بالمخالفين لهم في منهج الله، إن الذين يظنون أن الداعين إلى الله - سبحانه وتعالى - قد يضعفون أو يتنازلون إنما يضربون في حديد بارد ويتصورون أمورا لا يمكن أن تقع ولن تقع فيما سيأتي من الزمان ولم تقع فيما مضى منه إنهم لا بد أن يصبروا على منهج الله وأن يستمروا على طريق الحق، ومن تراجع منهم فسيأتي الله بخير منه، ولذلك قال الله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) وقال - تعالى -: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) إن لله - سبحانه وتعالى - جنودا لا تعرفونهم ولا تحصونهم، (وما يعلم جنود ربك إلا هو) فإذا تراجع أي أحد عن نصرة دين الله خوفا أو طمعا من غير الله، فإن الله - سبحانه وتعالى - سيأتي بخير منه وسيريه ذلك، وإن أبلغ الحوافز التي يحفز بها العامل على أداء وظيفته، أن يقال له إذا لم تؤد وظيفتك على أحسن الوجوه فسنعزلك ونأتي بمن هو خير منك يأخذها بحقها ويؤديها على أحسن الوجوه فلذلك لا بد أن تتذكروا خطاب الله - سبحانه وتعالى - لكم وأن تعلموا أن العاقبة للمتقين وأن المستقبل لهذا الدين وأن ما نشاهد من انتشار هذه الدعوة وإقبال الناس عليها في كل مكان في داخل البلاد الإسلامية وفي خارجها ومن التزامهم بها هو من المؤشرات والمبشرات التي تقتضي نصرة الدين، وعليكم أن تعلموا أنه ما عليكم إلا أن تصبروا ساعة، فتكونوا من الذين يرفعون لواء الإسلام ويقيمون دولة الله - سبحانه وتعالى - في الأرض ويوصلوا إلى أهل الأرض حظهم من عدل الله - سبحانه وتعالى - وهو شرف عظيم لا يستحقه إلا الصابرون، ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله - سبحانه وتعالى - حين كلفكم بهذه التكاليف قص عليكم ما يثبتكم عليها من أخبار السالفين والسابقين، فقد قص الله عليكم قصة موسى وهارون حين أرسلهما إلى أعتا طغاة الأرض و ما آمن معهما إلا ذرية من قومهما، فقد قال - تعالى -: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) وهنا قال: على خوف من فرعون وملئهم، أي ملأ بني إسرائيل، ولم يقل ملئه أي ملأ فرعون، فأولئك تبع لفرعون و قرارهم قراره، لكن قال: على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، ولا يذوق الإنسان طعم هذه الدعوة إلا إذا آذاه الأقربون في سبيلها فأنتم تذكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آذاه الأقربون فكان عمه أبو لهب يكذبه في الملأ ويرميه بالحجارة حتى يدمي عقبيه بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت زوجته جميلة بنت حرب تأتي بالشوك والخشب فتضعه على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجمع الأوساخ والأقذار فترميها في طريقه - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله في ذلك (تَبَّت يَدَا أَبِي لَهَبٍ, وَتَبَّ (1) مَا أَغنَى عَنهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ, (3) وَامرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبلٌ مِن مَسَدٍ, (5) ).

 بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم).

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على تفضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وإخوانه، عباد الله إنما يتجدد من المكر للدين لا ينبغي أن يوليه المسلم أي اعتبار ولا أن يحس فيه بأي ضيق فما هو إلا تكرار لما سبق في الأمم السالفة وفي هذه الأمة في عصور التمالئ على دين الله فيها، فالذين يتمالئون على الدين في هذا الزمان إنما يسلكون طريق فرعون، وقد قص الله علينا أخبار فرعون لكن المتمالئين على الدين في هذا الزمان لم يقرؤوا الحواميم ولم يقرؤوا الطواسين، لو قرأوا الحواميم والطواسين لكانت مؤامراتهم محبوكة محكمة لكنهم حين هجروا القرآن وتركوه ظهريا لم يستفيد من قصص الماضين، لو سلكوا طريق فرعون لكان على الأقل ما يقدمونه للناس معقولا مقبولا، ولو لدى أواسط الناس في الإدراك والتصور، إن الله - سبحانه وتعالى - قص علينا قصة فرعون إذ قال: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) وإنه عندما طغى وبغى أنكر على موسى دعوته، وقال في إنكاره عليه (إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد) إني أخاف أن يبدل دينكم فانطلق من مبدأ الحفاظ على الدين والنصيحة له، وأظهر للناس أنه إنما يريد قتل موسى خشية أن يظهر في الأرض الفساد، والناس يكرهون الفساد بطبعهم وفطرتهم، فلذلك أتى بما هو معقول، لكنه عندما أراد أن يظهر ذلك للناس نسبه إلى نفسه وأنه من رأيه ولم ينسبه إلى مذهب معروف مدروس لئلا يكذبه الناس، فمن نسب مثلا اليوم إلى مذهب مالك أو غيره شيئا من المكر لدين الله والكيد له فإن الناس سيكذبونه لأن المذهب مدروس معروف وليس فيه شيء من ذلك، لكن فرعون لم ينسب ذلك إلى أحد بل نسبه لنفسه، وقال ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) لم يقل ما أريكم إلا يرى فلان أو إلا مذهب فلان لأنه يخاف أن يكذبه الناس حين ينسب إلى مذهب من المذاهب ما ليس فيه، وبالأخص إذا عرف الناس أن هذه المذاهب الفقهية الإسلامية قامت على الدعوة إلى سبيل الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن المؤسف أن كثيرا من الذين يتذرعون ببعض المذاهب ويجعلونها وسيلة لإغلاق المساجد وتوقيف الدعوة وإسكات الداعين إلى الله يجهلون ما في هذه المذاهب جملة وتفصيلا، فمذهب مالك - رحمه الله - فيه كثير من النصوص التي تخالف هذا بالكلية، ولو اطلع عليها من يكيد للإسلام لحرم المذهب المالكي وجعله من محظورات المساجد بالكلية، فقد صح عن مالك - رحمه الله - أن رجلا من أهل العراق أتاه فقال يا أبا عبد الله لو نازع رجل إمامنا أفندفع عن إمامنا؟ قال إن كان مثل عمر بن عبد العزيز فادفع عنه وإلا فدعه وما يطلب منه ينتقم الله من الظالم بالظالم ثم ينتقم من كليهما، وكذلك فإن سحنونا وهو شيخ المالكية يقول - رحمه الله -: إذا كان الإمام غير عدل فقام عليه عدل وجب القيام معه لينصر دين الله، فإن كان غير عدل فدعه وما يطلب منه، ويسعك الوقوف، فهذا مذهب مالك - رحمه الله -، ولو قرأه الكائدون لهذه الدعوة ولدين الله لجعلوه من محظورات المساجد والممنوعات التي لا ينبغي أن تدرس ولا أن تقرأ، لكنهم يجهلون مذهب مالك - رحمه الله -، ولذلك فإن عليكم عباد الله أن تعلموا أن الذين سبقوا كانوا أقوى وأعتى من كل الكائدين للدين في آخر الزمان، فلم يدرك المتأخرون شيئا من قوة السابقين، فالسابقون إنما كانوا يخرجون الأمور المعقولة التي يجمعون بها الأنصار، والمتأخرون يخرجونها على وجه غير معقول يشتت أنصارهم ويبطل كيدهم، فلذلك لا تحزنوا ولا تهنوا واعلموا أن الكيد المقابل لدين الله لا بد أن يضمحل، (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) ولهذا فمن الغرائب ما يحصل من التناقضات المثيرة حيث تسمعون من يدعو إلى مذهب مالك ويرى الخروج عنه خروجا من الإسلام وفي نفس الوقت يستدل بكلام الماوردي والماوردي ليس مالكيا بوجه من الوجوه ولا ارتأى مذهب مالك بل يخالفه في كثير من المسائل التي يقدمها وهو من أئمة الشافعية وقضاتهم المشاهير، فهذا التناقض يدلكم على أن مكر المتأخرين لا يساوي شيئا من مكر السابقين، فما عليكم عباد الله إلا أن تأخذوا بكتاب الله ما يثبتكم على طريق الحق، وأن تعلموا أن نداء الله - سبحانه وتعالى - لكم يبين لكم أنكم أنصاره، والذين اختارهم لسلوك طريقه ونصرة أنبيائه فاستجيبوا لنداء الله وحققوا ما حققه أسلافكم على هذا الطريق، يحقق لكم الله ما حقق لهم، تذكروا يا عباد الله أن الله - سبحانه وتعالى - خاطب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) فحققوا ما حققه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحقق لكم الله هذا الذي حققه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى فيه بملائكته وثلث بكم معاشر المؤمنين فقال جل من قائل كريما: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد عبدك و نبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه شكرا حقيقيا يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون يغفر الله لنا و لكم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

مصدر هذا الخبر

-

أحمد

16:45:08 2023-12-29

يا عمرو والله إن كنا لنعدك من أعقلنا في الجاهلية فما الذي قعد بك عن الإسلام، قال: يا أمير المؤمنين إنه كان معنا شيوخ ـ كبار السن ـ فكنا لا نعدل عن رأيهم ونراهم أهل صواب، فلما ماتوا نظرنا فإذا الحق واضح أين أجد هذا الخبر؟