بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا (يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ, وَاحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيبًا) (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولًا سَدِيدًا (70) يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا)
أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة، عباد الله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذر من الفتن التي تموج كقطع الليل المظلم بين يدي الساعة فقد ذكر أنها يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، وإن من الفتن المستشرية في هذا الزمان فتنة الاستهزاء بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كثيرا من أبناء المؤمنين وقعوا الآن في هذه الفتنة فهم يستهزئون بالله وآياته ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويعلنون على الملأ استهزاءهم من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، وهذا من المنكرات والفتن المضلة التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يقتدي هؤلاء بأسلافهم الذين سبقوهم إلى ذلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى تبوك خرج معه نفر من المنافقين لا يخرجهم إلا الاستهزاء بالله ورسوله والمؤمنين فتقدموا بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسيره فقال: بعضهم لبعض ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة و لا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) قال ابن عباس: فلقد رأيته أي صاحب هذه القصة وهو مخشي بن حمير تحت رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممسكا بقلادة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة يقول: إنما كنا نخوض ونلعب ولا يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يقول: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أرحم هذه الأمة بها وهو أرحم الخلائق بالخلائق وقد وصفه الله بذلك في كتابه إذ قال: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) لم يرحم هؤلاء ولم يستجب لما يقولون ولم يقبل عذرهم لأن الله - سبحانه وتعالى - لم يعذرهم في كتابه وبين أنه إن عفا عن طائفة منهم فلا بد أن يعذب طائفة أخرى، وذلك بأن يسلط عليهم سوء الخاتمة حتى يموتوا على الكفر فيستحقوا النار بذلك ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ إن من استهزأ بآيات الله وكتابه ورسوله لا بد أن يموت على سوء الخاتمة إن لم يهده الله - سبحانه وتعالى - ويرجع عن ما كان عليه, ولذلك فالذين يستهزئون بهذه الآيات في زماننا هذا ـ وأغلبهم من الجاهلين ـ ومنهم من ليس كذلك إنما يريدون سوء الخاتمة ويتعرضون له نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك تسمعون كثيرا منهم يستهزئون بالسنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء منها ما كان يتعلق بشأن الصلاة كالقبض والضجعة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - بين ركعتي الفجر وصلاة الفجر، وكذلك غير هذا من السنن فتسمعهم يستهزئون بمن يقبض كأن يده تؤلمه، وتسمعهم يستهزئون بالذي يضطجع الضجعة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون إنما كان يفعلها جبلة ولا يدري هؤلاء أن جبلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي خير للناس من جبلاتهم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بهذه الضجعة بقوله، فماذا تقولون في قوله؟ إن هؤلاء عندما يقدمون على الاستهزاء بالسنن يظنون أنهم يضرون الذين يطبقون هذه السنن، والواقع أنهم لا يضرون إلا أنفسهم، وقد شاهدت يوما من الأيام في مسجد من مساجد هذه المدينة أتيت وقت صلاة الفجر فجاء شاب فصلى ركعتي الفجر فاضطجع تلك الضجعة الخفيفة وقام فنظرت إليه الأعين وأنكر عليه بعض الحاضرين وزعموا أنه من الذين أتوا بدين جديد وأن هذا لم يكن معروفا قبل مجيء هذه الدعوة وبدءوا يطعنون فيه، فجاء عامل من الذين يبيعون الماء ويحملونه على الحمر الأهلية، فقال هل ثبتت هذه الهيئة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: نعم ثبتت عنه فقال: أي شيء ثبت عنه فإني سأفعله والبأس الذي فيه يجعله الله في كبدي حتى لو جعلتموه كفرا، فقطع الله ألسنتهم بكلمة هذا العامي الذي هو خير منهم في اعتقاده وفي ولائه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي قناعته بسنته فرد على أولئك الذين يدعون الفقه في الدين بكلام لا يستطيعون بعده أن يراجعوه بكلمة واحدة ولا بشطر كلمة، إن الذين يستهزئون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظنون أنهم بذلك يشنون هجوما على الداعين إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن الواقع أنهم يهاجمون شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وقد هاجمه قبلهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فما ذا حصل لهم..؟! لقد جر أولئك على وجوههم إلى القليب ثم بعد ذلك هم في النار عن يسار الداخل إلى النار يوم القيامة، إن الله - عز وجل - قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في محكم التنزيل (إنا كفيناك المستهزئين) فقد كفاه الله كل الذين يستهزئون به وبسنته، وهذا ماض إلى قيام الساعة، فلا يستهزئ أحد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا كفاه الله إياه، عباد الله إن الذين يستهزئون بالسنن الأخرى التي ترجع إلى اللباس أو غير ذلك ما هم إلا كهؤلاء الذين يستهزئون بهيئات صلاته فإنه - صلى الله عليه وسلم - مرسل إلى الناس كافة وقد جعله الله الأسوة الصالحة لجميع المؤمنين وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فالذين يسخرون من العمائم أو يصغرونها أو يسخرون ممن يبيت في المسجد أو ينام فيه أو يضع فيه متاعه إنما يسخرون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل ذلك ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - وكان - صلى الله عليه وسلم - يلبس عمامته ويصلي بالناس، وكان يلبسها في كل أوقاته حتى إنه لبسها فوق المغفر يوم الفتح كما في حديث جابر في صحيح مسلم، وكذلك فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسكن في المسجد وهو أحب البقاع إليه وعندما آلا من نسائه شهرا سكن في المسجد وعندما يعتكف فينقطع لعبادة ربه يسكن في المسجد، وأصحابه الذين انقطعوا لعبادة الله وهم ضيوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الصفة وكانوا ثلاثمائة وثمانين رجلا لم يكن لهم مأوى إلا مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يسكنون فيه ويتدارسون فيه العلم ويراجعون فيه ما سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحفظون فيه القرآن، وكذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسكن فيه من مرض من أصحابه ليعوده، فقد ثبت أن سعد بن معاذ - رضي الله عنه - لما أصابه سهم يوم الأحزاب بنى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد فكان يعوده فيها، وكذلك كان ينزل فيه ضيوفه من الوفود الذين هم من حديثي الإسلام، فمالك بن الحويرث وأصحابه وكانوا شببة حديثي عهد بالكفر لما أسلموا أنزلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وكذلك كان ينزل فيه الأسرى الذين يطمع في إسلامهم، فقد ربط فيه ثمامة بن أثال الحنفي فكان يمر عليه فيعرض عليه الإسلام فيقول يا محمد إن تمنن علي مننت على شاكر وإن تقتلني قتلت ذا دم فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض عليه الإسلام ويتجاوزه حتى من عليه يوما فخرج إلى الحرة فاغتسل فجاء وأعلن إسلامه وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يحبس فيه السبي الذين يعرض عليهم الإسلام، فقد حبس فيه سفانة بنت حاتم بن عبد الله الطائي عند ما جاء بها علي في سبي طيئ، فمر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى الصلاة، فقالت يا محمد مات الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، فقال: من والدك قالت حاتم بن عبد الله الطائي قال: ومن وافدك قالت عدي بن حاتم قال: آلفار من الله ورسوله، فمن عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجت حتى جاءت بعدي مسلما، قال عدي فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فابتسم في وجهي، فما دخلت عليه بعد إلا ابتسم في وجهي وثنا لي الوساد، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذن جعل المسجد عاصمة الإسلام فهو بيت مال المسلمين الذي لا يمكن أن تطوله أيدي المختلسين، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر في الليالي الثلاث الأخيرة من رمضان ببسط البسط في مؤخرة المسجد فيجعل الناس عليها صدقاتهم فإذا صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر يوم عيد الفطر جلس إلى ذلك الطعام فأمر به فقسم بين المستحقين فإذا انتهى خرج إلى المصلى فصلى العيد، وكذلك فإن المال الذي جاءه من البحرين وكان أكثر مال رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر به فبسط له بساط في المسجد فجعل عليه فجلس إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه ازدراء للدنيا واحتقارا لها حتى قسمه في مجلسه ذلك لم يبق منه دينار ولا درهم، وكذلك فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتخذ المسجد مكانا للجيوش وتدريبها، فالأحباش كانوا يلعبون فيه بالحراب ويتدربون عليها وعائشة تنظر إليهم من بين عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنكبه فيقول أشبعت، أشبعت، وكانت تطيل النظر وتقول ما ظنكم بجارية حديثة السن وهي تنظر إلى أمر لم تره من قبل، فذلك من استغلال المسجد لتكوين الجيوش وما دامت الجيوش تنطلق من المساجد وتتكون فيها فإن ولاءها سيكون لله ولرسوله ولدينه وللدفاع عن بيضة الإسلام، وإذا أخرجت عنها فستذلل وتخيس لأعداء الله من الطواغيت وأصحاب الجبروت والسلطان وبذلك تكون حامية للظلم وحامية كذلك للإفساد في الأرض، وهي مشاركة لمن يفعل، وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إنه يستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويكذبون في الحديث فمن أعانهم على ظلمهم أو صدقهم في كذبهم فلن يرد علي الحوض\" وكذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى عليا وهو نائم في المسجد قد انكشف جنبه فلصقت فيه التراب، فمسه برجله وقال قم أبا تراب، وكان أبو بكر وعمر وعثمان ينامون في المسجد فيجعلون أرجلهم على أرجلهم، يجعلون إحدى الرجلين على الأخرى، وكان عثمان يرتفق في مؤخرة المسجد إذا جاء ولم يتكامل الناس للصلاة فيجتمع عليه حفظة القرآن فيسألهم عما يحفظون منه كما أخرج ذلك مالك في الموطـأ وغيره، إن هذه المساجد إنما بنيت لذكر الله وإقامة الصلاة وقراءة القرآن كما بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أراد تعطيلها عن الدعوة إلى منهج الله وسبيله فهو داخل في الوعيد الشديد في قول الله - تعالى -: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وقد اجتمع ملأ من قريش بالمسجد الحرام فقالوا نحن أولى بهذا المسجد من محمد وأصحابه، فأنزل الله - تعالى -: (وما كانوا أولياؤه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) إن أهل الإيمان والتقوى الذين يعمرون المساجد بالسنة هم أولى بالمساجد ممن سواهم وهم أولياؤها وهم أهلها وأما من سواهم ف(ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) إن الاستهزاء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقراء القرآن وبالداعين إلى منهج الله - سبحانه وتعالى - صرح أهل العلم بأنه من الكفر البواح، ولذلك قال الشيخ عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي - رحمهم الله -: عميمة العالم كفر، فمجرد تصغير العمامة طعنا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكفر البين البواح، وكذلك قال ابن هلال - رحمه الله - في نوازله: إن طلبة العلم يحملون على العدالة فمن طعن فيهم فإنما يطعن في شرع الله فإنهم أمناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والطعن في رسل رسول الله كالطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن هذا مما لا يختلف فيه اثنان وهو منصوص في كتب الفقه كلها وبالأخص في كتب فقه المالكية، فلذلك علينا أن نعلم أن الذين يطعنون فيه إنما يريدون أن يخادعوا الناس وأن يجهلوهم بهذا العلم وبما فيه، ويريدون بذلك الطعن في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنما جعل الله هذا الشرع متدرجا، فإذا جاء الطعن في سنة من السنن فإن ذلك إزالة لحاجز عظيم وسور كبير دون بقية السنن، فإذا أزيل ذلك الحاجز وصل المهاجم إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأخرى ثم يصل إلى شخصه ثم يصل إلى الكتاب المنزل إليه ثم يصل إلى ربه الذي أرسله - جل وعلا - وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ولذلك نسمع المستهزئين يتمادون في غيهم في هذه الأيام حتى يصلوا إلى تعطيل صفات الله - عز وجل - وإنكار ما ثبت منها في القرآن وفي السنة، فهم ينكرون الفوقية عن رب العالمين جل جلاله، وقد أثبتها الله لنفسه في ثماني عشرة آية من كتابه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة عنه وألف فيها أهل العلم الكتب الكثيرة، فقد ألف الإمام ابن قدامة - رحمه الله - إثبات العلو للعلي الغفار، وألف الإمام الذهبي كذالك - رحمه الله - كتاب العلو للعلي الغفار، فجلبوا فيه هذه النصوص كلها من الكتاب والسنة، ولا يطعن في فوقية الله على خلقه إلا من كان من أهل البدع الذين يسود الله وجوههم يوم القيامة، وقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قول الله - تعالى -: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة، ومصداق ذلك من القرآن قول الله - تعالى -: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) إن الذين ينكرون صفات الله - سبحانه وتعالى - ويطعنون فيها يظنون أنهم أعلم بالله من الله أو أنهم أعلم بالله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تبا لهم وخزيا لهم كيف يتجاسرون على صفات الله - عز وجل - التي أثنى بها على نفسه وأثنى بها عليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقر بها المؤمنون لله - عز وجل -، إنهم بذلك يعلنون الحرب على رب العزة الملك الديان، الذي السماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه يوم القيامة يهزهن فيقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ إنهم يتجاسرون على الملك الديان الذي وصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم- بما أخرج عنه مسلم في الصحيح، إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه سبحان الملك الديان - سبحانه وتعالى -، عباد الله إن الله - سبحانه وتعالى - إذا خذل المصروفين عن سبيله سيتردون في هذا الإفك المبين، وبذلك لا يتورعون عن كذب، ولا يكفون ألسنتهم عن قول، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إذا لم تستحي فاصنع ما شئت\" وقال: \"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحيي فاصنع ما شئت\" إن الذين لا يستحيون من الله - سبحانه وتعالى - هم الذين يتجاسرون عليه بمثل هذا القول العظيم، ويتجاسرون على عباده المؤمنين بالطعن في أعراضهم والكلام فيهم بما ليس فيهم وهم يعلمون أنهم برآؤ منه وهم أبعد الناس عنه، لكنهم إنما يتملقون بذلك ويتخلقون لينالوا عرضا من هذه الدنيا الفانية، لا بارك الله لهم فيه، وهم يعلمون أنهم لن يبارك لهم فيه، إن الذين يتملقون بمثل هذا القول ويتقربون به لأوليائهم وطواغيتهم هم المحقورون المصروفون لا يباليهم الله باله، ولذلك فإن الله - سبحانه وتعالى-يقول في كتابه (يؤفك عنه من أفك) ويقول (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) وهم على ذلك يتكلمون في مسائل العلم، ويظهرون للناس بالمظاهر الخلابة على أنهم من المحامين عن الكتاب والسنة وعن مذاهب أهل العلم وعن الإمام مالك وعن غيره من أئمة الدين، و بذلك يتخلقون بما تخلق به أسلافهم السابقون، وقد أنزل الله فيهم (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جنهم ولبئس المهاد) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على تفضله وامتنانه وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وإخوانه.
عباد الله إن الذين يزعمون هذه المزاعم الخبيثة وينشرونها في وسائل الإعلام و يتخذون لها كل وسائل الترويج إنما يناطحون صخرة عظيمة تكسر قرونهم ولا يضرون الصخرة شيئا، إنهم يطاعنون صخرة دين الله التي يتحطم عليها الأعداء في كل زمان ومكان، وستبقى أبية خالدة لا يضرها هذا الطعان، إنكم تتذكرون أن بعض المستهزئين يزعمون أن الذين يدعون إلى منهج الله بالاعتدال والوسطية الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم يعرفون المعروف وينكرون المنكر، يقرون بالحق ولو كان على أنفسهم يدافعون ويصادعون عن كتاب الله و سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو أدى ذلك إلى قتلهم أوتعذيبهم إن هؤلاء من المتطرفين ومن الذين يطعنون في الأئمة ويلكم هل سمعتم من يطعن في الأئمة على المنابر قط، إنكم معشر الحاضرين والسامعين أهل المساجد وأئمتها، فهل سمعتم قط من يطعن في الإمام مالك أو فقهه أو مذهبه على منبر من المنابر، هل سمعتم هذا قط، إن الذي يقول ذلك إنما هو من المفترين الذين لا يفلحون (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) إن الأغرب والأدهى من هذا أن يتطاول بعض عملاء وكالات الأنباء والموظفين فيها، فيزعمون أنهم أولى بالإمام مالك من الأئمة والدعاة، لو قالوا حبيلات وغنيمات والطائف لصدقناهم في ذلك، لكن كيف يزعمون أنهم أولى بالإمام مالك بن أنس من الذين درسوا موطأه ودرسوا كتبه وكتب أتباعه من بعده ودعوا إليها وعلموها وأفنوا أعمارهم في تعليمها وتعليم غيرها من كتب أهل العلم، وهم الذين خدموا العلم وقاموا به وما زالت بقية أعمارهم حكرا عليه إلى أن يتوفاهم الله، إن هذا من البهتان العظيم، وقد قال الله - تعالى -: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) إن الله - سبحانه وتعالى - حذر الناس من الافتراء على المؤمنين، وقال - تعالى -: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين) فلذلك من العجيب جدا أن هؤلاء عندما يظنون أنهم أولى بالإمام مالك من أهل السنة الذين هو منهم وهم منه إنما يسلكون طريق اليهود الذين زعموا أنهم أولى بإبراهيم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكذبهم الله بسورة آل عمران وأنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ أَولَى النَّاسِ بِإِبرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيٌّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيٌّ المُؤمِنِينَ) كيف يكون من ينكر صفات الله - عز وجل - ويعطلها أولى بمالك من أهل السنة، كيف يكون من يهزأ بالسنن الفعلية التي رواها مالك وغيره من الأئمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى به من أهل السنة، كيف يكون أولى كذلك بأتباع مالك من الذين ينقلون كتبهم ويدرسونها ويدرسون أدلتها معها، إن الذين يزعمون أنهم أولى بخليل بن إسحاق - رحمه الله - من أئمة المؤمنين وطلبة العلم والدعاة إلى منهج الحق، إنما هم من المفترين، كيف وهم يناقضون ما قاله خليل ولم يدرسوه يوما من الأيام ولا عرفوه، إن خليلا - رحمه الله - ختم كتابه في الفقه المالكي بكتاب الجامع، وختم كتاب الجامع بقوله: {ولا يجوز أن تعارض السنن برأي ولا قياس} (ولا يعرف عن أحد من علماء المدينة رواية خبرين اختلفا، بل إنما يروي الذي عليه العمل)، إن هذا رد من خليل بن إسحاق - رحمه الله - على هؤلاء المتملقين المتقولين الكاذبين، وإن هؤلاء الذين يزعمون كذالك الولاية للإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني يعلمون أنه أثبت في مقدمة كتابه {الرسالة} في عقيدته:
وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه
فمن أنكر ذلك فكيف يكون أولى بابن أبي زيد من أهل السنة والجماعة السالكين لطريق الحق، وكذلك يزعمون أنهم أولى بالأخضري - رحمه الله - من هؤلاء وهم لم يدرسوا ما قاله الأخضري فمختصره المفيد يقول في مقدمته: [أول ما يجب على المكلف تصحيح إيمانه ثم معرفة ما يصلح به فرض عينه كأحكام الطهارة والصلاة والصيام]، وهؤلاء لم يفعلوا ذلك فلم يصححوا إيمانهم فهم يخالفونه في أول قول قاله، وكذلك فإنه يقول في هذه المقدمة: [ولا يحل له أن يفعل فعلا حتى يعلم حكم الله فيه ويسأل العلماء] وهؤلاء لا يفعلون ذلك فهم يخالفونه في قوله، فكيف يكونون أولى به؟ إن هذا من التناقض البين ومن الافتراء والكذب على الأئمة ولا ينطلي إلا على جاهل بهؤلاء الأئمة وبما قالوه، ولذلك لا بد أن نعلم أن الإمام مالك وأتباعه كان من صريح مذهبهم الدعوة إلى الحق والسنة، والسعي في سبيل ذلك، فإن مالكا - رحمه الله - جلد سبعين سوطا في الدفاع عن السنة، وعندما حمله أمير المدينة على حمار كان كلما مُر به على ملإ يقول: من كان يعرفني فقد عرفني ومن لم يكن يعرفني فأنا مالك بن أنس ألا لا طلاق في إغلاق ألا إن أيمان البيعة باطلة، وهو يجلد ويؤدب ومع ذلك يصمد على طريق الحق، وغير مستغرب من الإمام مالك مثل هذه المواقف الناصرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدين الله، فهو الذي لم يكن يلبس النعال في المدينة احتراما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي عندما سأله قاضي المدينة عن حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الطريق قال من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطريق اجلدوه عشرين سوطا، فجلده عشرين سوطا ثم رحمه فدعاه إلى بيته فأجلسه في مجلسه وطيبه من طيبه وحدثه عشرين حديثا، فقال القاضي ليته جلدني مائة فحدثني مائة حديث، إنه لا يستغرب منه مثل هذا الموقف ولذلك فإن الذين يزعمون أن الأئمة السابقين كانوا من المداهنين ويتمثلون بما حصل في أيام الحجاج ويزعمون أن أهل العلم سكتوا عما فعل، إنما هم من الكاذبين المفترين الذين يخيلون إلى الأمة ما لا يمكن أن يقره عقل ولا خبر، فأنتم تعلمون أن الحجاج لما ظلم وأظهر ظلمه في العراق خرج عليه علماء المسلمين جميعا وقاتلوه، منهم عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنس بن مالك - رضي الله عنه - وهو خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ختم الحجاج في عنقه بالنار، ومنهم الإمام عامر بن شراحيل الشعبي إمام التابعين، ومنهم الإمام سعيد بن جبير إمام من أئمة التابعين، من أصحاب ابن عباس، ومنهم قتادة بن دعامة السدوسي إمام من أئمة التابعين، ومنهم الإمام إبراهيم النخعي وقد مات في ملجئه مختفيا من الحجاج، وكذلك فإن الإمام مالك - رحمه الله - أفتى أيضا حين ظهر الفساد في المدينة بالخروج مع محمد النفس الزكية، عندما كان في المدينة يدفع الباطل، وكان محمد هذا من خيرة علماء المدينة من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن هؤلاء الكاذبين يزعمون أن الداعين إلى منهج الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ينتهجون نهج الخوارج وأنتم تعرفون أن الخوارج هم فرقة من الفرق الضالة التي ظهرت في بداية هذه الأمة، وقد خرجوا على أئمة الإسلام وخلفاء المسلمين بالسلاح وقاتلوهم فقتلهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والمؤمنون معه، وسلك سبيلهم بعض المفتونين من بعدهم، فكيف يكون من لم ير سلاحا إلا عن بعد ولم يباشره بيده قط يعد من هؤلاء، وإن هؤلاء إنما يبلون خروجهم على نحلة وعقيدة وهي التكفير بكل ذنب، وهي أن الإمامة ليست مختصة بقريش إلى آخر نحلهم وما هم عليه من الاعتزال وإنكار صفات الباري - سبحانه وتعالى - والمنزلة بين المنزلتين والعدل والتوحيد وغير ذلك من المبادئ التي أعلنوها فالذين يزعمون أن الذين يدعون إلى سبيل الحق هم من هؤلاء الخوارج إنما هم كذابون مفترون يخادعون الناس وهم مبطلون والغريب في الأمر أن هؤلاء يتجاسرون حتى على مذاهب أهل السنة فيطعنون في مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، فلذلك تسمعهم يتكلمون على المذهب الوهابي ما هو المذهب الوهابي.. ؟ إنه مذهب إمام أهل السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل شيخ الطائفة وإمام المحدثين وإمام أهل السنة جميعا الذي قال فيه الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث - رحمه الله -: إن موقف أحمد في الفتنة كموقف أبي بكر في الردة، وقد صمد على دين الله وصبر على أذاه في سبيل الله ثماني عشرة سنة وهو في السلاسل والحديد، وقد جلد خمسمائة سوط، فلم يرده ذلك عن السنة التي يدافع عنها، فالذين يطعنون في مذهبه إنما يريدون تحطيم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهيهات لهم أن يتحقق لهم ذلك.
عباد الله إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى فيه بملائكته وثلث بكم معاشر المؤمنين فقال جل من قائل كريما: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأوهن كيد الكافرين وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والسنة بسوء فاشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره واجعل الدائرة عليه وأنزل به المثلات وأنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين وأرنا فيه عجائب قدرتك وأنزل به الفضيحة العاجلة يا قوي يا عزيز، اللهم من عادى أوليائك ووالى أعداءك فـأنزل به القوارع وأرنا فيه سريع أخذك وعاجل عقوبتك وسريع فتكك يا قوي يا عزيز اللهم سلط عليه كلبا من كلابك، وشل أركانه أخرس لسانه وهدم سلطانه وشتت أعوانه ولا تبق له باقية يا قوي يا عزيز، اللهم اجعله أثرا بعد عين اللهم اجعله أثرا بعد عين اللهم اجعله أثرا بعد عين، اللهم اجعل ذلك نصرة للإسلام والمسلمين يا أرحم الراحمين.
عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه شكرا حقيقيا يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد