السيرة النبوية (4) الاضطهاد في مكة


بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى

أيها الأحبة في الله

هذا الدرس في السيرة المباركة نقف فيه مع ذلك التنويع في الأذى، والتفنن في التعذيب الذي سلكه المشركون مقابلةً لمن استجاب لنداء ربه، وسارع في تلبية أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مما يبين مدى الغربة التي عاشها السابقون، ولنعلم نحن المسلمون كيف بدأ الإسلام الذي نعيش بكنفه، ونحيا في ظل سماحته.

لقد بدأ بتلك الغربة التي جعلت الأم تتبرأ من ابنها، والأخ ينفر من أخيه، والأب يصب العذاب على ابنه، والمجتمع يعلن العداء، ويرسل السخرية والاستهزاء.

ولكن وإن كان ذلك كالأعاصير شدة على النفسº إلا أن الإسلام أرسى في قلوب أصحابه من الجبال الشامخات.

وإنه لتاريخ يذهب ويجيء، تحدّث به الليالي والأيام.

فحين يكون للباطل صولةٌ يرى لنفسه فيها يدًا على الحق وأهله، فإنه يفرّغ فيها غيظه المتربع في فؤاده، نيلاً من أهل الحق سبًا وشتمًا وضربًا وتعذيبًا، وكلّ ما يراه متاحًا بين يديه.

فلا يقرع حجة بحجة، ولا يروم بصيرة يهتدي بهاº ولكنه عاش لباطله حتى مات من أجله.

أيها الأحبة في الله، لقد أعلن المشركون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العداء والإيذاء بلا تروٍّ, ولا تؤدةٍ, يتبينون بها الأمر، ويراجعون بها النفس، بل غلبت عليهم محبة الأنداد التي اتخذوها، فعادت فيهم مقولة الأمم السابقة، كما حكى الله - تعالى- عنهم (وَمَا نَحنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَولِكَ ) [هود: 53].

( قَالُوا أَجِئتَنَا لِنَعبُدَ اللَّهَ وَحدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعبُدُ ءابَاؤُنَا فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ ) [الأعراف: 70].

ولذا فقد لاقى النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ما لاقى من السب والسخرية، والضرب والخنق، والتضييق والطرد.

ولاقى أصحابه من ذلك فنونـًا، فكان وَقعُ ذلك على نفسه - صلى الله عليه وسلم - أشد، إذ يرى أن تعذيبهم وقتلهم ما كان إلا لأنهم اتبعوه، واستجابوا لهº ولكنها سنة ماضية، ليُعبدَ اللهُ وحده وتعلو رايةُ الحق، ولن يضيع لكل من بذل من أجلها صغيرًا أو كبيرًا أجره، بل له فيه الأضعاف المضاعفة.

وإذا تأمل كل من يؤذى في الله، ذلك الأذى الذي تعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدرك أنه ما بلغ معشار ما بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفضل والكرامة، وأنه أيضًا لم يبلغ معشار ما بلغه من الأذى.

أيها الأحبة في الله، وإليكم أمثلة لما كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يلقاه من قومه بعد أن صدع بالحق فيهم، أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة، وجمعُ قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم ـ وفي رواية أنه أبو جهل ـ : ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة - عليها السلام - وهي جويرية ـ فأقبلت تسعى، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبّهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قال: (( اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش))، ثم سمى: ((اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)).

قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أُتبع أصحاب القليب لعنة)).

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمدٌ وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)).

وفي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن أشد ما صنع المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فوضع رداءً في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر - رضي الله عنه - حتى دفعه عنه فقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم).

وهكذا كان المشركون لا يألون جهدًا في التعرض بالأذى للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد أُخِفتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال)) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن غريب، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (5001).

أيها الأحبة في الله، وأما أصحابه - صلى الله عليه وسلم - من رجال ونساء فقد طوّقتهم تلك السلسلة التي تفننت قريش بالأذى فيها.

وكانت مرحلة ابتلاء صبروا فيها، وكانوا على العهد الذي ما أخلفوه ولا تنازلوا عنه طرفة عين، يواجهون بإيمانهم كل أنواع التعذيب، ويثبتون عليه إلى القتل الذي يذهب بأرواحهم ولا يضرّ إيمانهم بشيء.

يقول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: (كان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يُفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبوه..) رواه البخاري.

ومما يبين مدى ما ألحق المشركون بالمسلمين من أذى ما رواه البخاري عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسدٌ بردةً وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرّ وجهه فقال: ((لقد كان من قبلكم ليمشّط بمشاط من الحديد، ما دون عظامه من لحمٍ, أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرِق رأسه فيشقّ باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه)).

وبذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل أصحابه، ويربط على قلوبهم بصبر صادق في ذات الله - تعالى -، ويقين يملأ القلوب يفتح أمامها أفق العاقبة الطيبة، والمآل الحسن.

ليعلم المؤمن ويوقن أنه مهما طال الأذى، وامتدت لياليه، فلن تقرَّ به أعين المبطلين، ولن يعود عليهم إلا غصصًا تمزق حلوقهم، وحميمًا يقطع أمعاءهم.

وتبقى أطيب الثمرة وأزكاها نعيمًا ينقلب فيها المؤمن، فغمسة في الجنة تنسي كل بؤس طال وامتد في هذه الدنيا.

أيها الأحبة في الله، لقد سام المشركون المسلمين وخاصة المستضعفين منهم ما استطاعوا من أذى، فقد كانوا يلبسونهم الحديد، ويصهرونهم في الشمس، ويجعلون الأطفال يطوفون بأحدهم بغية السخرية والاستهزاء، وأن يرجع إلى ما هم فيه من جاهلية. وهيهات هيهات.

إن النفوس التي امتلأت محبة لله - تعالى- لن يصدها الأذى عما هي فيه، كما لا تغريها مطالب الدنيا أن تنصرف عنه. وقد نطقت الأمثلة الصادقة بهذه الحقيقة.

فهذا بيت من البيوت التي استجابت لنداء ربها، آمن وأعرض عن جاهلية قومه، فعُمل فيه بالأذى ليعود في ملة الجاهلية، فنطق حاله ( قَدِ افتَرَينَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِن عُدنَا فِى مِلَّتِكُم بَعدَ إِذ نَجَّانَا اللَّهُ مِنهَا )[الأعراف: 89].

ذلك بيت آل ياسر، أبٌ وأمُّ وابنهما، كانوا يعذبون جميعًا.

قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أقبلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذًا بيدي نتمشى في البطحاء حتى أتى على عمار وأبيه وأمه وهم يُعذبون، فقال أبو عمار: يا رسول الله، آلدهر هكذا؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اصبر)) ثم قال: ((اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت)) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

فصبروا حتى مات ياسر وزوجته في العذاب، فكان الموعد غدًا في جنة عرضها السماوات والأرض.

أيها الأحبة في الله، ومع ازدياد ذلك الأذى في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا بعد يوم أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالهجرة إلى أرض الحبشة.

وقريش في عمل دؤوب في صدّ هذه الدعوة وأهلها، ورأت أنها جرّبت إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجن من ذلك شيئًا، فأرادت أن تدخل عليه من أبواب أخرى.

وهنا حديث له مقام في الدرس الخامس إن شاء الله - تعالى -.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply