أيها الأحبة في الله:
وهذا هو الدرس الحادي والعشرون في سلسلة السيرة المباركة، نتدارس فيه مسك الختام لتلك الحياة الطيبة التي قضاها نبينا بعد دعوة وجهاد سخر لهما أيامه ولياليه.
أيها الأحبة في الله:
بعد أن رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك في رمضان من العام التاسع للهجرة، وقد دانت له الجزيرة، بدأت تتوافد عليه القبائل تترا، كل قبيلة يقدمها أشياخها يعلنون الدخول في دين الله - تعالى -، فكان في ذلك العام يستقبل الوفد بعد الوفد حتى سمي عام الوفود.
ولانشغاله بتلك الوفود أمر على الحج في ذلك العام العام التاسع أبا بكر الصديق.
ثم دخل العام العاشر، والوفود تترا عليه. فأقرّ الله - تعالى -عينه بتلك الجموح الجمعاء وهي تدخل في دين الله، طارحةً كل معبود سواه، بعد أن كانت الجزيرة تغصٌّ بالأصنام والأوثان.
وهنا جاء النعي إلى النبي في نفسه بعد أن بلغ ما أرسل إليه من ربه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً.
وكانت أمارات قرب الرحيل قد تكاثرت في تلك السنة.
ففي رمضانها عرض عليه جبريل القرآن مرتين بعد أن كان يعرضه عليه مرة واحدة.
وفي تلك السنة بعث معاذاً إلى اليمن فخرج معه يودّعه، ومعاذ راكب، وهو يمشي تحت راحلته يوصيه، فلما فرغ قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري)).
فبكى معاذ خشعاً لفراق النبي، ثم التفت النبي إلى المدينة وقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)) [رواه الإمام أحمد].
أيها الأحبة في الله:
وفي آخر تلك السنة العاشرة أذّن في الناس بالحج، فقدم المدينة بشرٌ كل يلتمس الاقتداء بالنبي.
فأحرم من ذي الحليفة، ثم ركب القصواء، والناس بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله مدّ البصر، فأهلّ بالتوحيد ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
حتى إذا أتى البيت طاف وسعى، ثم أتم مناسكه في أيام الحج، وهو يقول للناس: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
وخطب الناس في عرفة خطبة عظيمة بيّن فيها أصول الإسلام، وأوصى فيها بالحقوق، وأسقط فيها عادات الجاهلية.
وأنزل عليه في ذلك اليوم قوله - تعالى -: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
وبعد أن قضى مناسكه وطاف بالبيت الوداع، وقفل راجعاً إلى المدينة، وفي طريقه وقف بماء يدعى غدير خم، فقام في الناس خطيباً، فحمد الله وأنثى عليه ثم قال: ((أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)) [رواه مسلم].
ولما رجع إلى المدينة بدأ في تجهيز جيش ليُسيِّره إلى الشام، وأمّر عليه أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -.
ولما سمع أن أناساً طعنوا في إمرة أسامة، قال على المنبر: ((إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لها لخليقاً يعني زيداً، وأيم الله إن كان لأحب الناس إلي، وأيم الله إن هذا لها خليق يعني أسامة وأيم الله إن كان لأحبّهم إليّ من بعده، فأوصيكم به فإنه من صالحيكم)) [متفق عليه].
وكان الجيش توقف عن المسير لاشتداد المرض برسول الله ثم وفاته بعد ذلك.
فكان من أول أعمال أبي بكر لما بويع بالخلافة إنفاذ جيش أسامة.
أيها الأحبة في الله:
وفي أواخر شهر صفر من السنة الحادية عشرة، وفي جوف الليل بعث النبي مولاه أبا مويهبة فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أُمرت أن أستغفر لأهل ذا البقيع فانطلق معي)).
قال: فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنيء لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرُها أوّلها، الآخرة شر من الأولى. ثم أقبل عليّ وقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)).
قال: فقلت بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فقال: ((لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة)) ثم أستغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ برسل الله وجعُه الذي قبضه الله فيه. [أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
ثم إنه صلى على شهداء أحد كالمودّع للأحياء والأموات.
فعن عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات.
ثم طلع المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فرط أي سابق وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) [متفق عليه].
وبدأ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعه فدخل على عائشة وهي تشكو صداعاً وتقول: وارأساه، فقال: ((بل أنا والله يا عائشة وارأساه))، قالت: ثم قال: ((وما ضرك لو متِّ قبلي، فقمت عليك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك)) فقالت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم.
وحدّث أصحابه بقرب أجله فلم يفقه ذلك إلا أبا بكر.
فعن أبي سعيد قال: خطب النبي فقال: ((إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)) فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ، إن يكن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله؟ فكان رسول الله هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، ثم قال: ((يا أبا بكر لا تبك، إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقيّن في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر)) [متفق عليه].
وكان يدور على نسائه، فشق ذلك عليه لاشتداد المرض، فجعل يسألهن: ((أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟)) ففهمن مراده، فأذنّ له أن يكون حيث شاء.
فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعليّ بن أبي طالب عاصباً رأسه، تخط قدماه في الأرض حتى دخل بيت عائشة.
وكان يوعك وعكاً شديداً، حتى قال ابن مسعود دخلت على رسول الله وهو يوعك، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: ((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)).
وكان يشكو من أثر السم الذي أصابه من شاة اليهودية يوم خيبر، فقد قال لعائشة: ((يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)) [متفق عليه].
وقبل وفاته بأيام، اشتد به الوجع فأغمي عليه، ثم قال: ((هريقوا عليّ من سبع قِرب لم تُحلل أو كيتهن لعلي أعهد إلى الناس))، فأجلسنه نساؤه في مِخضب كان لحفصة، ثم طفقن يصببن عليه الماء حتى أشار بيده أن قد فعلتن.
ثم خرج إلى الناس معصوب الرأس، ونعى إليهم نفسه كما سبق، ففقه ذلك أبو بكر.
ثم..استغفر لشهداء أحد.
ثم أوصى بالأنصار خيراً فقال: ((إن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئاً يضر فيه قوماً وينفع آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) فكان ذلك آخر مجلس جلس فيه النبي – صلى الله عليه وسلم - .
وكان آخر ما صلى بالناس صلاة المغرب وقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
ولما جاء وقت صلاة العشاء ثقل واشتد به الوجع، فقال: أصلى الناس؟ قيل: لا هم ينتظرونك، فقال: ((ضعوا لي ماءً في المخضب))، فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: ((أصلى الناس؟)) قيل: لا هم ينتظرونك، يا رسول الله، فقال: ((ضعوا لي ماءً في المخضب فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس، قيل: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، وهكذا كلما ذهب لينوء أغمي عليه، فقال: بعد ذلك: مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فراجعته عائشة في ذلك، فأبى إلا أبا بكر، فصلى أبو بكر تلك الأيام.
ثم إنه وجد في نفسه خفه، فخرج وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي أن لا يتأخر، فصار الصديق يصلي بصلاة رسول الله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
ثم رجع إلى بيت عائشة ونساؤه مجتمعات عنده، فدخلت عليه ابنته فاطمة - رضي الله عنها -، لا تخطيء مشيتها مشية أبيها، فسارها بحضور أجله، وأنها أول أهله لحوقاً به، فبكت، ثم سارها بأنها سيدة نساء هذه الأمة فضحكت.
وفي يوم الاثنين الذي قبض فيه، والمسلمون في صلاة الفجر، لم يفجأهم إلا ورسول الله قد كشف ستر الحجرة، فنظر إليهم ووجهه يتلألأ نوراً وضياءً، ثم تبسم ضاحكاً، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، يظنون أن النبي قد شفي، وأنه سيعود ليصلي بهم، ويسيّرهم في الغزوات، ويتلو بينهم أي الكتاب.
وما دروا أنها نظرت الفراق والوداع.
نظرات المحب لأحبابه، والصاحب لأصحابه.
وما دروا أنها النظرة الأخيرة في هذه الحياة بعد صحبته تلك السنين.
فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، ثم أرخى الستر.
وبدأ الوجع يراجعه اشتداده حتى ارتفع الضحى، واشتدت عليه حماه، ورأت ابنته فاطمة ما يتغشاه، فقالت: واكرب أبتاه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)).
وبدأ الاحتضار وقد عانى من سكرات الموت ما عانى، حتى أنه يدخل يده في الإناء ويصب الماء على وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)).
وكان من آخر وصاياه في التحذير من اتخاذ القبور مساجد.
وكذلك قوله: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)).
وبدأ به الاحتضار، فسندته عائشة - رضي الله عنها - إلى صدرها وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)) ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى)).
قالت عائشة: فعرفت أنه لا يختارنا، ثم قبض ومالت يده.
وهنا وقع الفراق في هذه الدنيا، واشتد الأمر على الأصحاب، وكان حالهم كمن قال:
وكنت أرى كالموت من بين ساعة *** فكيف ببين كان موعده الحشر
فظهر خبر وفاته، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها.
وجعلت فاطمة - رضي الله عنها - تقول: يا أبتاه، أجاب رباً دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مآواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
وعظم الخطب على المسلمين، والناس بين مصدق ومكذب، وعمر يهدد كل من يقول: إن الرسول قد مات.
حتى جاء أبو بكر، ودخل على النبي، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتـّها.
ثم خرج وخطب في الناس فقال: أيها الناس فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان من كم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله - تعالى -: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين.
وكأن الناس لم يسمعوا بالآية إلا يوم أن تلاها أبو بكر.
ثم غسل يوم الثلاثاء، ودفن ليلة الأربعاء.
تقول عائشة - رضي الله عنها -: ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف ليلة الأربعاء.
تهيل عليـه الترب أيـدٍ, وأعينٌ *** عليه وقد غـارت بذلك أسـعد
وراحوا بحزن ليس فيه نبيهم *** وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السموات يومه *** ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
وهل عدلت يومـاً رزيـة هالك *** رزيـة يـوم مـات فيـه محمد
تقطع فيـه منزل الوحي عنهـم *** وقد كان ذا نـور يغـور وينجد
فبيناهم فـي نعمـة الله بينهـم *** دليل بـه نهـج الطريقـة يقصد
عزيز عليه أن يجورا عن الهدى *** حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
إلى نورهم سهم من الموت يقصد *** فبيناهم فـي ذلك النـور إذ غدا
فاصبح محمود إلى الله راجعاً *** يبكيه حـق المرسـلات ويحمد
وأمست بلاد الحرم وحشاً بقاعها *** لغيبة من كانت من الوحي تعهد
أيها الأحبة في الله:
لقد مات رسول الله ولكن دعوته لم تمت، هذه هي بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
لم تصل إلينا بطول السباب، ولا بكسل النفوس.
ولكنه جهاد يتبعه جهاد، ودعوة تسخر لها الليالي والأيام.
فما أغفل النفوس حين تعرض عن هديها صفحاً، وتقابل أمرها بالمخالفة الظاهرة.
اللهم إنا نشهدك أن نبينا قد بلغ الرسالة..
الخطبة الثانية
أيها الأحبة في الله:
هذه وقفات ودروس مع أصدق سيرة، أعز طريقة، تنقلنا في جنباتها، وعشنا في آفاقها، ونحن على يقين لا يعتريه شك أنا لم نوفها عشر معشارها، ولا أدنى من ذلك.
ولكنها إشارات نتواصل بعدها مع معين معانيها العذاب، لتنهل طيب حياة لا يعكر صفوها شوائب الكدر، ونمضي في طريق تطهر من كل عثرة تعيق السالك فيه.
أيها الأحبة في الله:
تلك سيرة نبينا ناطقة بخير أسوة يتبع سبيلها، وأصدق قدوة يقتفى أثرها، كما قال - تعالى -: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
فتلك الأسوة التي لا يضل من كان وراءها ملء الفؤاد واللسان والجوارح تصديقاً للخبر واتباعاً للأثر.
وما أعمى الأعين حين تغيب عنها مصالحها، وما أصمّ الآذان حين لا تصغي لدعائها، وما أقسى القلوب وأضلّها حين تغفل عن معانيها.
وما عانت الأمة شقوة الذل، وما تجرعت مرارات الهوان إلا يوم أن غابت عنها معالم الرسالة، وغشيتها سحب الباطل تحجب عنها أنوارها، فذهبت تلتمس رقياً موهوماً، وحضارة مزعومة بتبعية بعد غورها، ممتدة الأسماع والأنظار إلى مواطن ما رفعت بالتوحيد رأساً، ولا طهرت بالاتباع نفساً، ولكن صوت الخنا يدوي في أرجائها ونار الكفر تشتعل في نواصيها، فعادت خلو اليدين من أصدق المعاني وأصفاها، ملأى بلهب العار والعوار.
فيا حسرة على العباد حين يشرون الضلالة بالهدى، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
أيها الأحبة في الله:
إن الأجيال المتعاقبة في شرق الأرض وغربها تموج بها أعاصير الفتن، وترمي عليها بسواد ليلها.
ولا خلاص من مغبتها وسوء عاقبتها إلا بأن تنشأ تلك الأجيال في أقوم سبيل، وتتربى على كريم الأقوال والأفعال، بعيداً عن سبل الغواية ومواطن الردى.
وإن هذا لا يكون إلا حين تقام معالم الأسوة الحسنة لتحث الخطا في هداها، وتلهج الألسنة بذكراها.
- وهل ترون في الخلق أحسن أسوة من محمد.
- وهل ترون في الخلق أصدق قولاً من محمد.
- وهل ترون في الخلق أكرم فعلاً من محمد.
- وهل ترون في الخلق أرقى خلقاً، وأعز نفساً، وأجمل سيرة، وأنقى سريرة، وأهدى طريقة، وأشرف مجداً، وأرأف قلباً، وأندى راحة، وأسد رأياً، وأحلم فؤاداً، وأعظم ناصحاً من محمد.
زانتك في الخلق العظيـم شمائل *** يُغـرى بهن ويولع الكرمـاء
أما الجمـال فأنت شمس سمـائه*** وملاحة الصـديق أنت أيـاء
فإذا سخوت بلغت بالجـود المدى *** وفعلت ما لا تفعـل الكرمـاء
وإذا عفـوت فقـادرٌ ومقــدّرٌ ***لا يسـتهين بعفوك الجهـلاء
وإذا رحـمـت فأنـت أم أو أبٌ *** هـذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبـت فإنما هي غضبـة*** في الحق لا رضغن ولا بغضاء
وإذا رضـيت فذاك في مرضاته *** ورضـى الكثيـر تحلّمٌ ورياء
وإذا خطبت فـللمنـابر هـزّة *** تعـرو النديّ وللقلوب بكـاء
أيها الأحبة في الله:
هذا ما يسّره الله - تعالى -من تسطير هذه السيرة المباركة في تلك السلسلة التي قضيناها فما كان فيها من صواب فمن الله وحده فله الفضل من قبل ومن بعد، وله الحمد في الأولى والآخرة.
وما كان فيها من خطأ أو زلل فمني، ومن الشيطان، وأستغفر الله - تعالى -وأتوب إليه.
هذا وأسأل الله - تعالى -أن يجعل ما تدارسناه فيها حجة لنا لا علينا، شاهداً لنا لا علينا، وأن يرزقنا صدق الاتباع لنبيه، وأن يحشرنا في زمرته ويوردنا حوضه، إنه سميع قريب. والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد