بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله - سبحانه وتعالى -.
ثم أما بعد: ففي الصحيحين أن النبي قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشدّ ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشدّ ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد رسول الله، مِن نِعَمِ اللهِ - سبحانه وتعالى - على عباده أن جعل لهم فصولاً أربعة يتقلب فيها الزمان، على حرّ مصيف، ويبس خريف، وبرد شتاء، وحسن ربيع، تبعًا لحكمته البالغة ومشيئته النافذة وقدرته الباهرة، حِكمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغنِ النٌّذُرُ [القمر: 5].
فأما المؤمن فيتذكر ويعتبر ويزداد إيمانًا إلى إيمانه، يأتي فصل الصيف بحرارته وشدته فيتذكر حرّ النار وسموم جهنم، ويتذكر قوله - تعالى -: قُل نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدٌّ حَرًّا [التوبة: 81]، فيزداد يقينًا إلى يقينه، ويسارع إلى طاعة ربه وإلى مرضاة مولاه وإلى أعمال صالحة مباعدة عن النار. ويأتي فصل الشتاء ببرده وقساوته فيتذكر زمهرير جهنم، ويعلم أنه في موسم من مواسم الإقبال على الله، فيتزوّد للقاء الله - سبحانه وتعالى -، كما قال أحد السلف: \"الشتاء جنة المؤمنº طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه\".
هذا هو حال المؤمن، وأما المنافق فلا تذكّر ولا اعتبار، وإنما لهو ولعب وغفلة وبعد عن الله - سبحانه وتعالى -، حاله كحال القائل:
إذا كان يؤذيك حر المصيف * * * ويبس الخريف وبرد الشتاء
ويلهيك حسن زمان الربيع * * * فأخذك للعلم قل لِي متى؟!
وهكذا المنافق والمعرض عن الله يبدّد حياته ويضيّع عمره في كل معصية ولهو، حتى يأتيه الأجل وهو على هذه الحالة، فيندم ولات حين مندَم، ويتمنى الرجوع إلى هذه الدنيا ليعمل ولكن هيهات هيهات، وَحِيلَ بَينَهُم وَبَينَ مَا يَشتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشيَاعِهِم مِن قَبلُ [سبأ: 54]، أَوَلَم نُعَمِّركُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُم النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ, [فاطر: 37].
معاشر المسلمين المؤمنين الموحدين، ما أعظم المؤمن وهو يستعذب الألم في سبيل الله - سبحانه وتعالى -، يوم يقوم العبد وهو يسمع النداء لصلاة الفجر: \"حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم\"، فينتفض من فراشه الدافئ، ويتخلى عن لحافه الوثير، ويعمد إلى الماء البارد، فيتوضأ في شدة البرد، ولسان حاله يقول: \"أحبّه إلى الله أحبّه إلى نفسي\"، وكما قال القائل:
إن كان سركم ما قال حاسدنا * * * فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ما أعظم المؤمن وهو في هذه الحالة، يباهي به الله ملائكته، ويقول - سبحانه - لملائكته: يا ملائكتي، انظروا لعبدي المؤمن، ترك فراشه الدافئ ولحافه الوثير، وقام إلى الماء البارد يتوضأ، وقام إليّ يناجيني ويدعوني، أشهدكم أني قد غفرت له، فأدخلته الجنة.
يا لعظمة المؤمن وهو يخرج من بيته في ظلام الليل الدامس وفي شدة البرد وهو يستحضر قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((بشّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)).
إن على المؤمن أن يستشعر هذه المعاني، فيتذكر هذه الأحاديث حتى يزداد إيمانًا إلى إيمانه ويقينًا إلى يقينه وإقبالاً على طاعة ربه وشوقًا إلى مرضاة مولاه.
يتذكر المؤمن وهو يتوضأ بالماء البارد في شدة البرد قول الحبيب المصطفى محمد رسول الله: ((إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ، حتى يخرج نقيًا من الذنوب)).
وهكذا ـ يا عباد الله ـ يستشعر المؤمن كل هذه المعاني وهو يتوضأ، فإذا أتم وضوءه رفع سبابته إلى السماء وأعلن الوحدانية: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فإذا فعل ذلك فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
وقل لبلال العزم من قلب صـادق * * * * أرحنا بِها إن كنت حقًا مصلّيًا
توضأ بمـاء التوبة اليوم مُخلصًـا * * * به ترقى أبواب الجنان الثمانية
يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء))، زاد الترمذي بعد الشهادة: ((اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين))، وفي حديث أبي هريرة ـ كما في صحيح مسلم ـ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
وإسباغ الوضوء على المكاره أن تسبغ وضوءك في شدة البرد، يوم أن لا يمس المنافق الماء البارد ويتأذى من الماء البارد، فتقوم أنت يا أيها المؤمن والموحد، فتشرشر بالماء البارد على أعضائك الدافئة طلبًا للأجر والثواب من الله، فيحط الله عنك الخطايا كما تحات الشجرة ورقها في شدة البرد.
وهكذا ـ عباد الله ـ يستحضر العبد هذه المعاني حتى يزداد إقبالاً وشوقًا إلى طاعة الله، هذه إحدى الصالحات انكسر ظفرها فقالت: أنساني حلاوة ثوابه مرارة وجعه.
وأما كثرة الخطى إلى المساجد فما من خطوة يخطوها العبد إلى بيت من بيوت الله إلا وترفع إحداها درجة والأخرى تحط خطيئة.
وأما انتظار الصلاة بعد الصلاة فكما قال الرسول - عليه الصلاة والسلام -: ((فذلكم الرباط، فذلكم الرباط))، كأنه مرابط في سبيل الله - تعالى -، وكأنه على ثغر من ثغور الإسلام، يحصل على هذا الأجر العظيم وهو باق في مكان لم يخسر جهدًا ولا وقتًا ولا درهمًا ولا دينارًا، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة))، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((تامة تامة تامة)).
كم يبذل الإنسان من الجهد والوقت والمال إذا أراد أن يؤدّي فريضة الحج أو العمرة الكثير الكثير، ولكن من فضل الله على عباده ورحمته بهم أن يسر لهم هذه الأعمال اليسيرة وجعل لهم هذه الأجور العظيمة حتى ينشط الإنسان في طاعة ربه، صحيح أن هذا لا يسقط الفرض عن الإنسان، ولكن يظفر بهذه الأجور العظيمة.
وأيسر من هذا أن ينتظر الإنسان صلاة العشاء بعد أداء صلاة المغرب، ساعة واحدة يقرأ فيها كتاب الله أو يذكر الله أو يستمع للذكر والعلم فكأنه مرابط في سبيل الله - تعالى -.
إنها جنة العبودية يا عباد الله، والتي حرمها كثير من الخلق إلا من رحم الله - سبحانه وتعالى -، إنها جنة الدنيا كما قال أحد السلف: \"إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة\"، ويقول الآخر: \"إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذًا في عيش طيب\"، إنها جنة العبودية التي يقول في وصفها أحد السلف: \"من مثلك يا ابن آدم؟ خُلِّي بينك وبين المحراب وبين الماء كلّما شئت، ودخلت على الله - عز وجل - وليس بينك وبينه ترجمان\".
إنها جنة العبودية ـ يا عباد الله ـ يوم يدخل العبد في صلاته ويناجي ربه يقول العبد: الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فيقول الله: حمدني عبدي، ويوم يقول العبد: الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ فيقول الرب: أثنى علي عبدي، ويوم يقول العبد: مَالِكِ يَومِ الدِّينِ فيقول الله: مجدني عبدي، ويوم يقول العبد: إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ فيقول الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلا الضَّالِّينَ قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبٌّكَ بِظَلاَّمٍ, لِلعَبِيدِ [فصلت: 46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد