بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله يهدي من يشاء ون يُضلل اللهُ فما من هاد، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له كتب الفناءَ على هذه الدنيا، والخلودَ في دار النعيم والجحيم في الأخرى، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه أمر ونهي ونصح وجاهد، وترك الأمةَ على محجة بيضاء، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن صحابته أجمعين، والتابعين ومن تعبهم بإحسان إلى يوم الدين ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)).
((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ )).
أيها المسلمون:
نحن في هذه الحياة في مركبٍ, واحدٍ,، ولكنا مسئول عن سلامة هذا المركب، ولا ريب أن ثمة مخاطر تُهدد المركب، وهذه المخاطرُ خارجيةً لا دخل لأهل المركب في إيجادها وإن كان بإمكانهم أن يخففوا منها وأن يصمدوا لرياحها ومخاطرُ داخليةٌ تعودُ إلى من هم بداخل المركبة، ويُساهم رُبَّانُ المركبةِ وراكبوها في عطبها أو إنقاذها وتلك هي الأهمُ في الحديث عن المركبة وسلامتها والحديثُ عن هذه المركبة يَهمنا جميعاً، والرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، وصف لنا سفينةَ المجتمع، وكشف عن أسباب سلامتها، وحذر من خرق السفينة ومن يخرق السفينة، والنتيجة المرّة لغرف السفينة..موضحاً بذلك أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر مثال يعقله العالمُ والعامي والرجلُ والمرأة، والصغيرُ والكبيرُ فتعالوا بنا نقرأ هذا المثل النبوي، ونسترشدُ بالهدي الرباني، في تشخيص بديع للقائم على حدود الله، والواقع فيها، وحُماةِ السفينة والخارقين لها.
يقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه (2361) عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: ((مثلُ القائمِ على حدودِ اللهِ، والوقعُ فيها كمثل قومٍ, استهموا على سفينةٍِ,، فأصاب بعضُهم أعلاها ويعضُهم أسفلها فكان الذين في أسفلِها إذا استقوا من الماء مّرُوا على من فَوقَهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا إن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).
أيها المسلمُ والمسلمةُ:
إن من الأسئلةِ المهمة تجاه هذا الحديثِ سؤالاً يقول: هل أنت من حُماة السفينة أو من الخارقين فيها؟
وقبل أن تُجيب لا بد أن تستيقن انه ليس من طرقٍ, ثالثٍ, غر هذين الصنفين يتحكم في مصير السفينة، فأما قيادةُ حُماةِ السفينة حيث تكون سلامةُ المركب، وإما قيادةُ الخارقين لها حيث يكون الغرق، ومن هنا فلا مجال للصمت والسلبية في وقت يتحرك فيها الخارقون وينشطون لإفسادها وإن زعموا الإصلاح أو ظنوا خطئاً أنهم يريدون الإنقاذ؟
إن المتأمل في أي مجتمع من المجتمعات لا يراه يخرج عن حالاتٍ, ثلاث، فإما أن ينتشر المعروف ويكثر المصلحون، وإما أن يشيع المنكرُ ويتطاول المبطلون، وأما أن يكون دُولةً بين الأخيارِ والأشرار، ويَشيع فيه المعروفُ والمنكرُ على حدٍ, سواء.
ولكن الشيءَ الذي ينبغي أن يُدرك جيداً، أن ضعفَ الأمر بالمعروف وانحسارَ النهي عن المنكر في مجتمع ما من المجتمعات ذو خطورةٍ, بالغةٍ, ومضاعفةٍ, فليست المشكلةُ في ضعف الأمر والنهي وقلة الخير وضعف الأخيار، بل فوق ذلك قوةُ المنكر وسيطرةُ الأشرار والنهيُ عن المعروف وغيابُ الأخيار وحين يبلغ الفسادُ بالمجتمع هذا المبلغ فقل على الفضيلة السلام، وصلّ صلاةَ الغائب على الأخيار، إلا أن يتداركهم اللهُ برحمته، ويبعثَ من يوقظُهم من رقدهم؟
عبادَ الله وإذا اختلف الناسُ في أسبابِ الفلاح وعواملِ البقاءِ، وأسبابِ الشفاءِ، وعواملِ الفناء، فالحكمُ لله، والمرجعُ شرعُ الله، واللهُ يقصُ الحقَّ وهو خيرُ الفاصلين، ويقول في محكمِ التنزيل (موضحاً أسباب النجاة والهلاك).
((وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ, مِّنَ السَّمَاء وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ)) (سورة الأعراف: 96).
ثم قال في نهاية هذه الآيات ((أَوَلَم يَهدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرضَ مِن بَعدِ أَهلِهَا أَن لَّو نَشَاء أَصَبنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَنَطبَعُ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُم لاَ يَسمَعُونَ)) (سورة الأعراف: 100).
ويقول - تعالى -في سورة أخرى: ((وَأَلَّوِ استَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسقَينَاهُم مَّاء غَدَقاً لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَمَن يُعرِض عَن ذِكرِ رَبِّهِ يَسلُكهُ عَذَاباً صَعَداً)).
أيها الناس:
ومنذُ القدم والناسُ منهم مؤمنون ومؤمناتٌ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. ومنافقون ومنافقات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وفضلُ الله يؤتيه من يشاء فمنهم مفتاحٌ للخير مغلاق للشر، وآخرون مغاليق للخير مفاتيحُ للشرِ، يَضَعَفَ إيمانُهم باللهِ ويستبعدون الجزاء في اليوم الآخر فتنتكس فطرُهم ويزعمون أنهم مصلحون وهم مفسدون، ويحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً، وهم يجنون على أنفسِهم وعلى مجتمعهم شروراً وفتناً، والمنافقون بلا ريب ممن يَخرق السفينة ويغرقُ أهلها على أننا جين نستقرأ الواقع نجدُ أصنافاً أخرى غيرَ هؤلاء المنافقين يسهمون في خرق السفينة.. ولذا لا بد أن نفتشَ عن مَن يخرقون السفينة، ونحددَ ملامحهم ونحذر صنيعَهم ومن هؤلاء المُتبعون للشهوات الغارقون في الملذات سواءً صح طريقُها أم لم يصح، وسواء كانت شهوات مباحةً أو محرمة، أولئك ينقبون في السفينة، ولو مالت بأهلها ميلاً عظيماً، وصدق الله ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيماً)) (النساء: 27).
البطالون الضائعون الذين لا يريدون أن يبذلوا جُهداً لمدافعة الشر ولا يدفعوا مالاً لنصرة الحق، بل ربما سرقوا مالاً، أو روجوا مّخدراً، أو ارتكبوا محظورات أخرى، فأولئك يخرقون في السفينة ولا يصلحونها.
أهلُ الغرورِ والكبرياء الذين يرون الرشدَ بعقولهم وحدهم دون أن يلتفتوا إلى عقول الآخرين، بل ربما حكموا على عقول غيرِهم قبل أن يعلموها، وربما صادروا آراء الآخرين قبل أن يستبيتوها، وقد عاب القرآنُ على فرعون مقولتَه ((مَا أُرِيكُم إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهدِيكُم إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد)) (غافر: 29).
وما نفعه الوعيُ حين جاء الغرق: ((حَتَّى إِذَا أَدرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَت بِهِ بَنُو إِسرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسلِمِينَ)) (يونس: 90).
قال الله له: ((آلآنَ وَقَد عَصَيتَ قَبلُ وَكُنتَ مِنَ المُفسِدِينَ* فَاليَومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَن خَلفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَن آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)) (يونس: 92، 91).
ويَخرق السفينة عالمون آكلون بعلمهم، يستفيدون لأنفسهم مضللون لأمتهم، ينسلخون من العلم، ويتخلون عن نُصح الخلق إنهم لا يَجهلون لكن يتجاهلون، وهم لا يُخدعون لكنهم يَخدعُون يعرفون الحق ولا يدعون إليه، ويعرفون المنكرَ ولا يستنكرونه أولئك خَرقهم في السفينة عظيم، وفتنُهم للناس كبيرة، ونماذجُهم في الأمم السالفة: ((إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحبَارِ وَالرٌّهبَانِ لَيَأكُلُونَ أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدٌّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ)) (سورة التوبة: 34).
((وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذِيَ آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * َلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ)) (الأعراف 175، 176).
وتتكرر هذه النماذجُ في أمة الإسلام ويكون أحدُ الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النارُ يوم القيامة رجلٌ جمع القرآن فيقولُ اللهُ له يومَ القيامة: ألم أُعلِّمك ما أنزلتُ على رسولي؟ فيقول: بلى يا ربِّ، قال: فما ذا عَملت فيما عَلمت؟ قال: كنتُ أقومُ به آناء الليل وآناء النهار، فيقول اللهُ له: كذّبت وتقول له الملائكةُ كذبت، ويقول اللهُ له: بل أردتَ أن يقال فلانٌ قارئ وقد قيل ذلك.. أخرجه الترمذي (جامع الأصول: 4/540)
وعند مسلم إن أولَ الناسِ يقضى يوم القيامة.. ورجلٌ تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن إلى قوله: تعلمتَ العلمَ ليقال عالم، وقرأت القرآن ليُقال هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار (السابق: 4/541]
وفي محكم التنزيل بيانٌ ووعيدٌ: ((مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدٌّنيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لاَ يُبخَسُونَ *أُولَـئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعمَلُونَ)) (هود: 14، 15).
اللهم انفعنا بهدي القرآن وسنة محمد - عليه الصلاة والسلام -، اللهم إنا نستغفرك فاغفر لنا، ونستهديك فاهدنا، أنت الهادي وأنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين نصر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلَّ يوم هو في شأن وله الحكمُ وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه قام في ذات الله، وبلغ رسالةَ ربِّه، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإيمان:
ويخرق السفينة أنانيون لا يشعرون إلا بأنفسهم ولا يفكرون إلا بذواتهم وإن لاحت لهم بوادرُ الخطوب لا يهمهم صلاح المجتمع أو فسادُه، ولا تتمعرُ وجوههم للمنكرات وتشيع هنا وهناك دائرةُ تفكيرهم ضيفة، ومساحةُ الغيرةِ عندهم محدودة.
ويُسهم في خرق السفينة سطحيون لا يدركون حجمَ الخطر ولا يتصورون ضخامةَ المصيبة النازلة، ولا ينظرون إلى مستقبل الأيام بعمقٍ, وروّية، لا تسمعون للنداءات المحذورة، وإن سمعوا لم يستجيبوا إذا علا صوتُ النذير رأوه مبالغاً، وإذا اتضح هدفُ المفسدين لم يحركوا ساكناً ولم يدفعوا باطلاً.
ويخرق السفينة أحمقٌ متهور يريد أن ينتقم لنفسه أو ينتقم من الآخرين، فيحاولُ بكل وسيلة إغراق أهل المركبة وإن كان هو ضمن قائمة الغرقى، وتضيق به مساربُ الحياة فيختارُ تحطيمَ نفسِه والآخرين.
ويُسهم في غرق السفينة متعجلٌ وإن كان هدفُه خيراً وغيرُ حكيم وإن كان قصدُه حسناً، فقد يقودُه اجتهادُه إلى نزع خشبة في السفينة ليسدّ بها خرقاً خر، فإذا الخرقُ الذي أحدث أشدُ ضرراً وأدعى للغرق؟ وما فاته أن يستشيرَ غيرَه قبل أن يُحدث الضرر الذي أحدث.
أيها المسلمون:
أما حماةُ السفينة.. ومن يقف في وجه هؤلاء الخارقين فهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، الذين يُتعبون أنفسهم من أجل أن يطمأن غيرُهم، والذين يُخاطرون بأنفسهم من أجل أن يأمن غيرُهم، بل من هؤلاء الحماةُ المنقذين للسفينة ومن عليها من قد لا يجد لسدِ خرق السفينة إلا رجلَه أو يدَه، تنهشه الأسماكُ، وتُزعجه دوابُ البحرِ، ومع ذلك لا يتحرك حرصاً على سلامة الآخرين، وهؤلاء الناصحون المترابطون قد يسخر منهم بعضُ الجهال في المركب لطولِ وقوفهم على خروق السفينة، وعظيم تضحيتهم بل قد يؤذونهم خارقو السفينة، وقد يشوهون سمعتَهم ويشككون في مصداقية حراستهم للسفينة، وما يضيرهم إذا كان اللهُ معهم يعلمُ قصدَهم، وهو المطلعُ على حسن نواياهم، والمقدر لجهدِهم وجهادِهم.
إن هؤلاء المنقذين أصناف كثيرةٌ منهم الرجالُ والنساء، ومنهم العلماءُ والعوام، ومنهم الدعاةُ وطلبةُ العلم، فيهم الأغنياءُ والفقراءُ وفيهم المجاهدُ بنفسِه وماله، ومن لا يملكُ إلا الدعاء، منهم من يعمل بنفسه ومنهم من لا يملك إلا المشورة والرأي، منهم من يتصدى لمن يخرق السفينة، ومنهم من يرصد ويكشف عورات هؤلاء الخارقين، ومن المنقذين للسفينة أصحابُ العقولِ المقدرة لعواقبِ الأمور، وإن كانوا ظالمين لأنفسهم مسبوقين في عمل الصالحات، ففرق بين من يأتي المنكر وهو له كاره، ويودٌّ ألا يقع غيرُه فيما وقع هو فيه، وبين من يُقدم على المنكر كما لو أقدم على معروف، بل يود أن يكون هذا المنكرُ سلوكاً شائعاً في المجتمع كلِّه نعم فرق بين الانتهاكات السلوكية، والانتهاكات القيمية.
إن أرقى المجتمعات مجتمع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم من ممارسة المنكر، لكن فرق بين من يقول: زنيتُ يا رسول الله فطهرني، وبين من يزني وهي يرى الزنا سلوكاً حضارياً أو حريةً شخصيةً يتهم من ينكرها؟.
أيها المسلمون:
ليجعل كلٌّ واحدٍ, منكم نفسه منقذاً للسفينة، لا خارقاً فيها، وليس يخفى انه ما من منكرٍ, يتصدى له الناسُ بالإنكار، إلا توارى هذا المنكرُ أو جلٌّه، أو دفع اللهُ بهذا الإنكار منكراً خراً سيترتب على المنكر قبله، ولو لم يكن من ذلك شيءٌ فتكفي المعذرة ((قالُوا مَعذِرَةً إِلَى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ)) (الأعراف: 164).
وإذا كان الناسُ كلٌّهم إذا مُسَّت مصالحُهم الدنيوية ثاروا واستنكروا دون أن يُنيب أحدٌ منهم غيرَهم، فأصحابُ الغيرة والذين تتّمعر وجوهُهم للمنكر هو الذين يستنكرون ويتحركون إذا اعتدى على الدين واستخف بالقيم والأخلاق والسلوكيات الحميدة.
وتلك شهادةٌ لهم عاجلةٌ لهم بالإيمان في الدنيا وأجرُهم على الله يوم يلقونه، وقد قاموا بأمرِه.
: ((وَمَا يَفعَلُوا مِن خَيرٍ, فَلَن يُكفَرُوهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ)) (آل عمران: 115).
إخوة الإيمان
دعوني أختم لكم بقصة واقعية تبين أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إزالة المنكر واستصلاح المخطئين حدّث صاحبي وقال:
في صالة المطار كان الشابان يستعدان للسفر، إذ أبصرهما ناصحٌ مشفقٌ عليهما، وسائلهما قائلاً: إلى أين السفرُ يا أحبائي؟ فتلعثما في الإجابة فسبقهما قائلاً كأنكما تريدان السفرَ إلى بلاد كذا حيث تشيع الفاحشة وتنتشر الرذيلة، وتوضع المصائدُ للشباب؟ وإني لكما ناصحٌ وعليكما مشفق، إلا راجعتما أنفسَكما واستخرتما اللهَ عن هذا السفر، فهل تعتقدون أن الله غافلٌ عنكما أينما كنتم؟
وما رأيكما لو وافتكما المنيةُ على حالٍ, لا ترضون أن تكون خاتمةً لحياتكما؟ أليس وارداً أن تذهبا أحياءً وتعودون في التوابيت أمواتاً؟ ما حجمُ فضيحتكم في الدنيا؟
وكيف بكم إذا قدمتما على الله تحملان أوزاركما على ظهوركما يوم القيامة؟
وما زال الناصح يقرعُ أسماعهما بالحديث ويضربُ لهم الأمثال حتى التفتَ أحدُهما إلى صاحبه قائلاً: ما رأيك في إلغاء السفر؟ فتردد الآخر ثم وافقه على إلغاء السفر. أما الناصحُ لهما فقد تشجع رغم أن وقتَ سفرِه قريب فما كان منه إلا أن يذهب بهما إلى صديق له صالح وأوصاه فيهما خيراً، فاستقبلهما صاحبُه وأكرم ضيافتَهما، ثم عرض عليهما أن يذهبوا سوياً للطائف للمتعة والأنس جميعاً فوافقها ثم قال لهما وما رأيُكما لو أخذنا عمرةً في طريق ذهابنا، فوافقا، وكان الوقتُ ليلاً قال إذا فاستريحا حتى إذا كان الصباحُ تحركنا.. فتركهما الضيف في المجلس وذهب إلى غرفة نومه، ولكن الشابين استطالا الليل وربما عاودهما الشيطانُ بنزعة فخرجا من البيت وقرعا الجرس في ساعةٍ, متأخرة من الليل ليستأذنا مُضيفهما في الانصراف، وحين استيقظ وسمع كلامَهما، قال ما رأيكم أن نبدأ الرحلة الآن فوافقا، فأحرم الثلاثة كلٌّهم ولبوا بالعمرة مخلصين لله، وكانت آخرُ كلماتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك ويا لها من كلمات لو تأملها المحرمون وكان المنيةُ تنتظرُهم وهم محرمون على بضع كيلوات وقع الحادثُ المؤلم وتوفي الثلاثةُ قبل وصولهم إلى مكة.. وحملوا إلى المستشفى ثم إلى المقبرة وأكفانهم ثيابُ الإحرام، وآخرُ عهدِهم بالدنيا الذكرُ والطاعةُ، وفرق بين من يبعث يوم القيامة مُلبياً، ومن يموت في بلاد الخنا والفجور مُجرماً فاسقاً، وبعد حين اتصل صاحبُهما الأول على صاحبه ليسأل عن حال الشابين.. فأجهش محدثُه بالبكاء وهو يقص عليه نهايةَ الثلاثة، فما تمالك نفسه عن البكاء، لكن حمد الله إن كان سبباً في هدايتهما وحسن خاتمتها؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد