قضية \" أطول مدة للحمل \" مما اختلفت أقوال العلماء فيها، ولا شك أنه قد بني على الخلاف فيها شر عظيم، ومنه: ارتكاب الفحشاء من بعض النساء بعد وفاة زوجها وحملها منه وادعاء أن ذلك كان من زوجها!! ولو فعلت ذلك بعد موته بسنوات على اعتبار القول بطول مدة الحمل وأنها قد تصل إلى خمس سنوات!!
وكنت أعجب من الأقوال هذه وأرى بعدها عن الصواب، وقد وقفت على ما يؤيد هذا من كلام أهل الاختصاص.
وسأسوقه بلفظه ليطلع عليه الإخوة راجيا لهم النفع.
* أطول مدة للحمل: وكما يمكن للجنين أن يولد قبل تمام مدة الحمل المعتادة فإنَّه قد يمكث في رحم أمِّه أطول من هذه المدة(1)، وهناك خلاف في تحديد أطول مدة للحمل بين أهل الفقه، وأهل الطب، وأهل القانون على التفصيل الآتي:
* فبعض الفقهاء يرون أن مدة الحمل قد تطول إلى سنتين (الأحناف) ويرى بعضهم أنها قد تصل إلى أربع سنوات (المالكية والشافعية وبعض الحنابلة) ويرى آخرون أنها يمكن أن تصل إلى خمس سـنوات (المالكية، ورواية عند الحنابلة)، وقد فنَّد الفقيه الأندلسي ابن حزم هذه الآراء حيث قال: (لا يجوز أن يكون الحمل أكثر من تسعة أشهر، ولا أقل من ستة أشهر، لقول الله - تعالى -: \" وحملُهُ وفِصالُهُ ثلاثونَ شهراً\" وقوله - تعالى -: \"والوالدات يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حولَينِ كاملينِ لِمَن أرادَ أن يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، فمن ادعى حملاً وفصالاً في أكثر من ثلاثين شهراً\" فقد قال بالباطل والمُحال، وردّ كلامَ اللهِ - عز وجل - جهاراً) ثم قال - رحمه الله - تعالى - عن الأخبار التي تروى عن نساء حملن لعدة سنين: (وكلٌّ هذه أخبارٌ مكذوبةٌ راجعةٌ إلى مَن لا يَصدق ولا يُعرف من هو، ولا يجوز الحكم في دين الله - تعالى - بمثل هذا)(2)
* أما الأطباء فيرون أن الحمل لا يتأخر عن الموعد المعتاد إلا فترة وجيزة لا تزيد عن أسبوعين أو ثلاثة غالباً، وأن (الولادات التي تحصل بين الأسبوعين 39 و 41 تتمتع بأفضل نسبة سلامـة للأجنة، فإذا تأخَّرت عن الأسبوع 42 نقصت وأصبح الجنين في خطر حقيقي، وكذلك إن حصلت مبكرة عن وقتها نقصت نسبة السلامة، فهي قبل الأسبوع 37 أقل منها في تمام الحمل وهي قبل الأسبوع 35 أقل بوضوح، والوليد الذي يولد قبل ذلك يحتاج إلى عناية خاصة للمحافظة على حياته)(3)، والسبب في هذا أن الجنين يعتمد في غذائه على المشيمة (Placenta) فإذا بلغ الحملُ نهايتَهُ المعتادةَ ضعفت المشيمةُ ولم تَعُد قادرةً على إمداد الجنين بالغذاء الذي يحتاجه لاستمرار حياته، فإن لم تحصل الولادة عانى الجنينُ من المجاعة (Famine) فإذا طالت المدة ولم تحصل الولادة قضى نَحبَهُ داخل الرحم (ومن النادر أن ينجو من الموت جنين بقي في الرحم 45 أسبوعاً ولاستيعاب النادر والشَّاذِّ فإنَّ هذه المدة تمدَّد أسبوعين آخرين لتصبح 330 يوماً، ولم يُعرَف أنَّ المشيمة يمكن أن تُمِدَّ الجنينَ بالعناصر اللازمة لحياته إلى هذه المدة)(4)
* أما أهل القانون فقد توسعوا في الاحتياط مستندين إلى بعض الآراء الفقهية بجانب الرأي العلمي فجعلوا أقصى مدة للحمل سنة شمسية واحدة(5)، وقد ذكرت روايات عن حالات حمل دامت أكثر من ذلك، ولكن تلك الروايات كلها روايات صحفية لا يمكن الاطمئنان إليها من الوجهة العلمية، وهي ترجع غالباً إلى توهٌّم المرأة بأنها حاملٌ وما هي في الحقيقة بحامل، وهذا ما يعرف طبياً باسم: الحمل الكاذب (Pseudocysis) وقد تبقى المرأة على ظنها الخاطئ بأنها حامل لمدة سنة أو أكثر، فإذا حملت حملاً حقيقياً بعد ذلك ظنَّت أنَّ مدَّةَ حملها من بداية وهمِها! ومن أسباب الوهم أيضاً أن المرأة قد تحمل حملاً حقيقياً ثم يموت الجنين في بطنها دون أن ينزل، وبمرور الوقت يتكلس الجنين ويبقى في بطنها مدة طويلة إلى أن ينزله الأطباء، لكنه في مثل هذه الحالات ينزل ميتاً (انظر: مولود)، ومما يعزز الاعتقاد الخاطئ أيضاً بأن المرأة يمكن أن تحمل لسنوات أيضاً، ظهور أسنان عند بعض المولودين حديثاً (Newborn) فإن كانت أعراض الحمل الكاذب قد ظهرت على المرأة قبل ذلك، ثم حملت حملاً حقيقياً ووضعت طفلاً قد نبتت بعض أسنانه، تعزَّز الاعتقاد بأن مدة حملها كانت فعلاً سنتين أو ثلاث أو أربع، وليس هذا بصحيح!
ومع تطور علوم الطب، ومتابعة الحوامل بصورة دورية فقد صار بإمكاننا التأكد من عمر الحمل بدقة وقد رصد الأطباء المتخصصون بأمراض النساء والولادة في العصر الحديث ملايين الحالات ولم تسجَّل لديهم حالاتُ حملٍ, مديدٍ, طبيعية يدوم لسنة واحدة، ناهيك عن عدة سنين! ومن هنا فإن أحكام الحمل يجب أن تبنى على الحقائق، وليس على الظَّنِّ أو الروايات التي لا أساس لها من الصِّحَّة.
----------------
(1) أطول فترات الحمل بين الحيوانات هي فترة حمل الفيل الآسيوي التي تبلغ (609 أيام) أي حوالي 20 شهراً، وقد بلغ أطول ما سجل منها (760 يوماً) أو ما يعادل مرتين ونصف طول مدة الحمل عند البشر! [جنّس: موسوعة المعلومات العامة للأرقام القياسية، ص 31، مؤسسة نوفل، بيروت 1987]
(2) المحلى لابن حزم 10/316
(3) د. مأمون شقفة: القرار المكين. ص 73، مطبعة دبي 1985.
(4) المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية: الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية، ص 759، الكويت 1987.
(5) نصت المادة (128) من القانون السوري على أن أقل مدة للحمل 180 يوماً، وأكثرها سنة شمسية، ونصت المادة (15) من القانون المصري رقم (15) لسنة 1929 على أنه لا تُسمع عند الإنكار دعوى النسب لولدِ زوجةٍ, ثبت عدمُ التلاقي بينها وبين زوجها من حين العقد ولا لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها، ولا لولد المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة [د. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته 7/678 دار الفكر، دمشق 1996].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد