بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الغني عن عباده، المبدع لمخلوقاته، المطلع على عبده في جميع أحواله وأوقاته، أحمده - سبحانه - وأشكره وعد بالأجر العظيم للخاشعين من عباده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له متفرد بعظمته وسلطانه وعطائه، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله تفوزوا بجنة عرضها السموات والأرض وعدكم بذلكم من لا يخلف الميعاد بقوله: {تِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِن عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّ} (مريم: 63). أيها الأحبة في الله إني داع فأمنوا من قلب صادق: ((..اللَّهُمَّ إنَِّا نَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ, لَا يَنفَعُ وَمِن قَلبٍ, لَا يَخشَعُ وَمِن نَفسٍ, لَا تَشبَعُ وَمِن دَعوَةٍ, لَا يُستَجَابُ لَهَا))(مسلم، الذكر والدعاء، ح(4899)).لقرب الامتحانات كان الطالب يذاكر إلى جوار نافذة وكان بجوار تلك النافذة شجرة كبيرة يأوي إليها الكثير من الطيور وتحدث أصواتاً تشوش على الطالب مذاكرته فأحضر عصاة وأخذ كلما أوت الطيور إلى الشجرة يضرب في الشجرة لتطير ولكنها ما تلبث أن تعود، فقال له أبوه: إن هذه الطريقة تأخذ منك وقتاً والأولى أن تقطع الشجرة لترتاح بمجهود واحد فحاول الطالب قطع الشجرة فلم يستطع لكبرها وتغلغلها في الأرض، فأشار عليه الأب أن يقطعها غصناً غصناً فكل ما قطع غصناً خف عدد الطيور على الشجرةº وما أظن إلا أن هذا حالي قبل حال بعض الإخوة في الصلاة يوم أن تمكنت من قلوبنا الدنيا وتغلغل حبها في قلوبنا فبدأت تأوي إليها الوساوس في الصلاة فتشوش علينا صلاتنا وخشوعنا حتى أن البعض قد يخرج من الصلاة وهو لا يدري كم صلى!.أو ماذا قرأ الإمام!. فهل لي أن اقترح عليك وعلى نفسي أخي الحبيب أن نبدأ في قطع أغصان تلك الشجرة قبل أن تستعصي علينا حتى الأغصان؟. هل سمعت أخي لأمثلة حية من البشر قطعوا تلك الشجرة بالكامل من قلوبهم فنبتت في تلك القلوب شجرة عظيمة من حب الله والدار الآخرة فما عادت تلك الوساوس تستطيع القرب منها بل آوى إليها الخشوع والإخبات ولذة المناجاة وعلى رأس أولئك القوم نبيك وحبيبك وقدوتك - صلى الله عليه وسلم - أخرج الإمام النسائي عَن مُطَرِّفٍ, عَن أَبِيهِ قَالَ: \" أَتَيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرجَلِ يَعنِي يَبكِي \"(النسائي، السهو، ح(1199)). فقلي بربك أخي متى آخر مرة قمت تصلي وكان لصدرك أزيز كأزيز المرجل متأسياً برسولك وقدوتك - صلى الله عليه وسلم -؟. وكان الصديق - رضي الله عنه - لا يتمالك نفسه إذا وقف بين يدي ربه من البكاء، وهذا الفاروق - رضي الله عنه - الذي عُرف بشدته وهيبته كان يقرأ الآية فيمرض من شدة التأثر حتى يعوده الناس أياماًºفمتى مرضت أنت أو أنا أو هي أو هو من التأثر بآية، وهذا عبد الله بن الزبير قائمٌ يصلي في الحرم كأنك تنظر إليه والحجاج يقذف بالمنجنيق من الجبل فيمر الحجر من فوق كتفه ويلامس لحيته حتى يقول أصحابه إنه هلك وما يشعر هو بذالك! هاهي الطيور تقف عليه تظنه شجرة من شدة خشوعه واتصاله بالله، وهذا أخوه عروة تعمل المناشير في رجله فتقطع اللحم والعروق والعصب وتكسر العظم حتى تبتر رجله بلا مخدر وهو لا يشعر لأنه مستغرق في الصلاة والمناجاة! (ابن كثير، البداية والنهاية، ج9، ص3). وقد يقول قائل: حسبك.. حسبك.. فأنت تسبح في بحر من الخيال فأولئك قوم مختلفون. فأقول: مهلاً ما وجه الاختلاف؟. هم من بني آدم مثلك وليسوا من الملائكة، أجسادهم من لحم ودم مثلك؟. بل أنت تجد من أطايب الطعام والشراب ما لم يجدوه، أنت تجد من وسائل الراحة في المنزل والمواصلات ما لم يجدوه. إذاً أنت أولى بالخشوع منهم لأنك تجد من الراحة والدعة ما لم يجدوه، ولكن أتدرون أحبتي ما وجه الاختلاف بيننا وبينهم؟. إنهم قوم وجدوا من الإيمان في القلب وحلاوة ولذة المناجاة ما لم نجده، عَظُم الله في قلوبهم فكان رضوانه عندهم أهم من الدنيا وما عليها وما بها من نعيم زائل أو جمال زائف، أخي الحبيب إن أس الخشوع في الصلاة لذة المناجاة ولا تكون تلك اللذة إلا إذا استشعرت عظم من تناجي، أخي الحبيب إني لأخشى والله أن أكون أوتيت أنا وأنت وهو وهي من تلقاء ذنوبنا، ألم ترى إلى ذاك الذي حُرِمَ دخول المسجد و حُرِمَ الصلاة مع الجماعة قعدت به ذنوبه وحرمه الله أن يفد إلى بيته؟. وهناك من دخل البيت ولكنه حُرم لذة المناجاة بذنوبه فوقف بين يدي ربه كجلمود صخر جامد لا حياة ولا شعور فيه يسمع الإمام يقرأ بقول الله - تعالى -: {لَو أَنزَلنَا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ, لَّرَأَيتَهُ خَاشِعًا مٌّتَصَدِّعًا مِّن خَشيَةِ اللَّهِ وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر: 21). فما يهتز له قلب ولا يرجف له جنان وكأن قطعة اللحم المضغة التي في جسده أشد صلابة من تلك الجبال الرواسي.
فيا من ينشدون لذة المناجاة وحلاوة العبادة فزعاً إلى الله.. فراراً إلى الله.. توبة إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي عل الكريم أن يلين قلوباً منا قست وأعيناً منا جفت. وإن مما يعين على الخشوع في الصلاة تجديد الوضوء لكل صلاة ففيه غسل للجسد من الخطايا التي ألمت به، ومنها الحضور المبكر للصلاة لأن فيه تهيئة نفسية وقلبية للوقوف الأعظم بين يدي اللهºوقد يلمس كل واحد منا الفارق بين صلاة حضر لها مبكراً وبين صلاة انتزع فيها نفسه من مشاغل الدنيا ووقف بعدها مباشرة في صلاة الفريضة لأن في الحالة الأخيرة لازالت بقايا من مشاغل الدنيا تشوش عليه صلاته، وبعض الناس قد يحضر للمسجد مبكراً ولكنه يتحدث في المسجد بكلام الدنيا، والأولى أن لا ينشغل إلا بذكر الله والدعاء وقراءة القرآن، ومما يعين على الخشوع استحضار عظمة الموقف، والتدبر في الآيات التي تقرأ والأذكار والتسبيحات التي تقال وليسأل أيها الأحبة في الله كل واحد منا نفسه هل يدعو ربه ويتذلل يسأله الخشوع في صلاته قبل كل صلاة؟.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِّنهُم فَاسِقُونَ}(الحديد: 16).
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي المتقين، محب الخاشعين المخبتين، أحمده - سبحانه - وأشكره على نعمة الهدى والدين وأسأله جل شأنه المزيد من التوفيق لخدمة الإسلام والمسلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صادق الوعد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا رحمني الله وإياكم أن الواحد منا ليس بملاك وأنه مسلط عليه عدو من أعدائه تخصص في أفساد صلاته شيطان اسمه خنزب وقد أرشدنا معلمنا وحبيبنا - صلى الله عليه وسلم - إلى طريق الخلاص من شرهº اخرج الإمام مسلم عَن أَبِي العَلَاءِ أَنَّ عُثمَانَ بنَ أَبِي العَاصِ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيطَانَ قَد حَالَ بَينِي وَبَينَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلبِسُهَا عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (ذَاكَ شَيطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنزَبٌ فَإِذَا أَحسَستَهُ فَتَعَوَّذ بِاللَّهِ مِنهُ وَاتفِل عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا)(مسلم، السلام، ح(4083)). قَالَ فَفَعَلتُ ذَلِكَ فَأَذهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي. وأقل مراتب الخشوع أن يعقل المرء ما يقوله في الصلاة فإنه يكتب له من صلاته بقدر ما عقل منها، ومن وجد أن في صلاته نقص، فليكثر من التطوع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ مِن عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِن صَلُحَت فَقَد أَفلَحَ وَأَنجَحَ وَإِن فَسَدَت فَقَد خَابَ وَخَسِرَ فَإِن انتَقَصَ مِن فَرِيضَتِهِ شَيءٌ قَالَ الرَّبٌّ - عز وجل - انظُرُوا هَل لِعَبدِي مِن تَطَوٌّعٍ, فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انتَقَصَ مِن الفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ)(الترمذي، الصلاة، ح(378)[قَالَ: أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ]).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد