استقبال رمضان


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتقوا الله وابتَغوا إليه الوسيلةَ، واحرِصوا على الاستزادةِ من الباقيات الصالحات، وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلاً [الكهف: 46].

أيّها المسلمون، إنَّ جمالَ المناسَبةِ وجلالَها وثيقُ الصّلَةِ بحسنِ استقبالها وكمالِ السّرور وغامِرِ السعادةِ بها، وإنَّ مِن أجمل المناسباتِ وأجلِّها في حياةِ المسلم مناسبةَ استقبال هذا الشهرِ المبارك رمضان الذي أكرَمَ الله الأمّةَ به وجعلَ صيامه وقيامَه واستباقَ الخيراتِ فيه من أعظم أبوابِ الجنة دارِ السلام. وحريُّ بأولي الألباب وقد أظلّهم زمانُ هذا الشهرِ العظيم، حرِيُّ بهم أن تبيَّنوا حقيقةَ استقبال رمضان. إنّ هذا الاستقبالَ لا يكون بالاجتهادِ في جمعِ ما يُشتهَى وما يستطرَف من ألوان الطعامِ والشراب، ولا يكون بتهيِئَة النّفس للهرَب مِن رهَق الحِرمان بالنّوم المستغرِق معظمَ ساعاتِ النهار، فإن كان ثمَّةَ عملٌ فبصبرٍ, نافِد وتبرٌّمٍ, ضجَر وسوءِ خلُق، يصحبُه سِباب وطَعن ولَعن، بل وقذفٌ موجِب للحدّ أحيانًا، ولا يكون أيضًا بتفقٌّد أجهزةِ الاستقبالِ للقَنَوات الفضائيّة وتعهٌّدها بالإصلاحِ أو التّجديد حِرصًا على عدَم فواتِ شيءٍ, مما تبثٌّه في أيّام هذا الشهرِ ولياليه ممّا تُحشَد له من برامِج وما تُرصَد له مِن أموال وما تُنفَق فيه من أوقات وما تُصرَف فيه من جهود، لا توافِق غالبًا ما يرضِي اللهَ ربَّ العالمين ولا تنتفِع به جماعةُ المؤمنين، ولا يكونُ الاستقبال كذلك بالعَزم على قضاءِ لياليه في جولاتٍ, عابِثة في الأسواقِ استجابةً للشّطحاتِ والنّزَوات وإضاعةً للأوقات وإعراضًا عن الصّلوات وإيذاءً للمسلمين والمسلمات.

إنَّ رمضانَ لا يستَقبَل بهذا ولا بأمثالِه مما يعظُم ضررُه ويقبح أثرُه، وإنما يستَقبَل بالتّشمير عن سواعِدِ الجدّ في استباقِ الخيرات وبِعقدِ العزمِ على اغتنامِ فرصته، في تزكيةِ النفس وتهذيبها وإِلزامها بسلوكِ الجادّة وقطعِ الصّلَة بماضي الخطايَا وسابقِ الآثام وانتهاج السبيلِ الموصِل إلى رضوان الله والحظوَة عنده بالدرجات العُلى والنعيمِ المقيم.

وإنَّ مِن أظهر ما يعين على حُسن استقبالِ هذا الشّهر فَهمَ المقصودِ من الصيام الذي هو كما قالَ العلامة الإمام ابن القيم - رحمه الله -: \"حبسُ النفس عن الشهواتِ وفِطامها عن المألوفات وتعديلُ قوّتها الشهوانيّة لتستعدَّ لطلَب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها ولقَبول ما تزكو به مما فيهِ حياتها الأبديّة، ويكسِر الجوعُ والظّمَأ مِن حِدّتها وسَورتها ويذكِّرها بحالِ الأكبادِ الجائعة من المساكينِ، وتُضيَّق مجارِي الشيطان من العبدِ بتضييق مجاري الطّعام والشّراب، وتُحبَس قوَى الأعضاء عن استرسَالها لحكمِ الطبيعة فيها يضرٌّها في معاشِها ومعادِها، ويُسكَّن كلّ عضوٍ, منها وكلّ قوّةٍ, عن جماحه وتُلجَم بلجامه، فهو لِجام المتّقين وجُنّة المحارِبين ورياضة الأبرارِ والمقرَّبين، وهو لربّ العالمين من بين سائِر الأعمالº فإنّ الصائمَ إنما يترُك شهوتَه وطعامَه وشرابه من أجلِ معبودِه، فهو تركُ محبوباتِ النّفس وتلذٌّذاتها إيثارًا لمحبّة الله ومرضاتِه، وهو سِرّ بين العبدِ وربّه لا يطَّلع عليه سواه، والعِبادُ قد يطّلِعون مِنه على تركِ المفطّرات الظّاهرة، وأمّا كونه ترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلِ معبودِه فهو أمرٌ لا يطَّلع عليه بشرٌ، وتلك حقيقةُ الصوم، وهي التي أشار إليها رسول الله في الحديث الذي أخرجَه البخاريّ ومسلمٌ في صحيحَيهما واللفظُ لمسلمٍ, عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنّه - عليه الصلاة والسلام - قال: (كلٌّ عملٍ, ابنِ آدمَ يضاعَفº الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله - عز وجل -: إلاَّ الصّومَ فإنّه لي وأنا أجزِي به، يدَع شهوتَه وطعامَه من أجلي) الحديث[1].

وللصّومِ تأثيرٌ عجيب في حِفظ الجوارِح الظاهرةِ والقوَى الباطنة وحِميتِها عن التخليطِ الجالبِ لها الموادَّ الفاسِدة التي إذا استولَت عليها أفسدتها، فالصوم يحفَظ على القلب والجوارِح صحَّتَها ويعيد إليها ما استلَبته منها أيدِي الشهوات، فهو مِن أكبر العونِ على التّقوى كما قال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُم الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال النبيٌّ في الحديثِ الذي أخرجه الشّيخان في صحيحَيهما عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: (الصومُ جنّة)[2].

والمقصودُ أنّ مصالحَ الصوم لما كانت مشهودةً بالعقول السليمةِ والفِطَر المستقيمة شرَعه الله لعِبادِه رحمةً بهم وإحسانًا إليهم وحِميةً لهم وجُنّة، وكان هديُ رسول الله فيه أكملَ الهديِ وأعظمَ تحصيلاً للمقصود وأسهلَه على النفوس.

فاتّقوا الله عبادَ الله، واستقبِلوا شهرَكم بما يليق به من جِدّ واجتهادٍ, واستباقٍ, للخيرات ومسارعةٍ, إلى مغفرةِ من ربِّكم وجنّةٍ, عرضها السموات والأرض.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ, مِن الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُم الشَّهرَ فَليَصُمهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ, فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ, أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُم العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ} [البقرة: 185].

نفَعني الله وإياكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيّه، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الحكَم العدلِ اللطيفِ الخبير، أحمده - سبحانه - وهو العلِيّ الكبير، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسولُه البشير النذير والسّراج المنير، اللهمَّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه.

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنه لا مندوحةَ للمؤمن عند استقبالِ رمضان عن تذكٌّر أولئك الذين كتبَ الله لهم إدراكَ صيامِ شهر رمضانَ المنصرم، وكانوا منّا مِلءَ السّمع والبصَر، لكنّنا لا نراهم اليومَ، فقد قعَد بهم الأجلُ عن بلوغِ الأمل في الحظوةِ باستقبال هذا الشهرِ وبصيامِه وبقيامِه، فسكَنوا الأجداث، وغيّبَتهم المقابِر، ووجب علينا شُكرُ ربِّنا لما حَبانا به من دونهم، وتعيَّن علينا أن نسألَه - سبحانه - القبولَ والمعونة وحسنَ التوفيق إلى محابِّه ومراضيه في رمضانَ وفي جميع الأزمان، وأن يختمَ لنا جميعًا بخيرٍ,، وأن يصرفَ عنَّا من الشرور والفِتَن والبلايا ما لا يصرِفه غيره، وأن يجعل عاقبةَ أمرِنا رشدًا.

ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واذكروا على الدّوامِ أنّ الله - تعالى - قد أمَركم بالصلاةِ والسلام على خيرِ الأنام، فقالَ في أصدقِ الحديثِ وأحسَن الكلام:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...

 

–––––––––––––––––––––––––––––––

[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1894، 1904)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151).

[2] هو جزء من الحديث السابق.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply