سلسلة يوميات مسلم ( 9 ) الخشوع في الصلاة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله القاهر فوق خلقه بلا مدافع، والحاكم في خلقه بلا ممانع، أحمده - سبحانه - وأشكره يحب ويرفع صاحب القلب الخاشع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا منازع، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى كل تابع وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله أمركم بذلكم ربكم بقوله: {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللّهَ وَإِن تَكفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً}[النساء: 131]. معاشر المؤمنين الصادقين عشنا خلال ثمان خطب سابقة رحلة المؤمن منذ استيقاظه من نومه وحتى وضوءه وإيقاظه لأهله لصلاة الفجر وخروجه للمسجد وإغلاقه لجواله قبل دخول المسجد وحرصه على نظافة المسجد والعناية به ثم حرصه على الترديد مع المؤذن والدعاء المأثور بعده وتحية المسجد والحرص عل الصف الأول واليوم نقف مع حدث عظيم ألا وهو الوقوف بين يدي فاطر السماوات والأرض، فبمجرد أن يكبر الإمام تكبيرة الإحرام وتكبر الصفوف من خلفه بتكبيره هنا يشعر المؤمن الصادق صاحب القلب الحي بأن نقلة عظيمة حدثت بهºانقطع بها عن كل الدنيا ومشاغلها واتصل بالملكوت الأعلىºوقف بين يدي رب العالمين، فيستشعر هذا الموقف وكأنه يرى ربهºأخرج الإمام البخاري في صحيحه عَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - من حديث جبريل الطويل الذي جاء فيه: ((..قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الإِحسَانُ قَالَ الإِحسَانُ أَن تَعبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِن لَم تَكُن تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ..))(البخاري، تفسير القرآن، ح(4404)). فإن لم تكن تستشعر كأنك ترى ربك، فاعلم أن ربك يراك، فياليت شعري على أي حال يرانا ربنا في صلاتنا؟. أيسرنا أن يرى العظيم منا أجساداً مقبلة وقلوباً عياذاً بالله معرضة؟. أيسرنا أن يرى العظيم منا أجساداً مصفوفة واقفة وقلوباً بالدنيا والشهوات مشغولة ذاهلة؟. أحبتي في الله لو وقف أحد منا أمام ملك أو عظيم من عظماء الدنيا هل يستطيع أن يلفت وجهه إلى غيره أو أن يظهر عدم الاهتمام به؟. فكيف بالله؟. كيف بالعظيم؟. كيف بمن ينظر لقلبك لا إلا جسدك؟ºأخرج الإمام مسلم في صحيحه عَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنظُرُ إِلَى صُوَرِكُم وَأَموَالِكُم وَلَكِن يَنظُرُ إِلَى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم))(مسلم، البر والصلة، ح(4651)). وعندما تستشعر أخي المسلم ذلك الموقف المهيب ينكسر قلبك خشوعاً وذلاً لله، وينكسر بصرك فلا يتعدى موضع سجودك، فإذا استشعرت الخشوع في صلاتك بين يدي ربك فأبشر بالفلاح في الدنيا والآخرة بشرك بذلك ربك في محكم التنزيل بقوله: {قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ()الَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]. ابشر يا صاحب القلب الخاشع واستمع لتلك البشرى من ربك الذي لا يخلف الميعاد حيث قال: {إِنَّ المُسلِمِينَ وَالمُسلِمَاتِ وَالمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُم وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغفِرَةً وَأَجراً عَظِيم}[الأحزاب: 35]. ابشر أيها الخاشع فإن الخشوع طريقك الممهد لخلود في جنة عرضها السموات والأرض فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال ربك في محكم التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخبَتُوا إِلَى رَبِّهِم أُولَـئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ}[هود: 23]. الخشوع في الصلاة يجعل لها لذة ونعيماً حتى إن المرء الخاشع يشتاق لها كما كان - صلى الله عليه وسلم - يشتاق لها حتى قال فيها فيما أخرجه النسائي عَن أَنَسٍ, - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((.. وَجُعِلَ قُرَّةُ عَينِي فِي الصَّلَاةِ))(النسائي، عشرة النساء، ح(3878)). فقلي بربك كم مرة في عمرك شعرت بشوق عارم يتملك عليك مشاعرك نحو الصلاة؟. أتدري أن الصلاة تكون ثقيلة كبيرة على من لم يخشع في صلاته أخبرك عن ذلك ربك بقوله: {وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ}[البقرة: 45]. أخي الحبيب قلي بربك ما آخر مرة خشعت فيها لله في صلاتك؟! هل تذوقت حلاوة السجود مرة حتى تمنيت ألا تقوم أبدا؟! ما آخر مرة وقفت فيها بين يدي الله فخشع قلبك وسكنت جوارحك واضطرب فؤادك؟!. إني أخاف ألا نشعر بأهمية هذا الكلام.. لأن بالقلوب بعض القسوة، نحن نأكل ونشرب ونتزوج وننجب ونموت وننسى لماذا خلقنا؟ لقد خلقنا لغاية تخالف هذه الأشياء التي فعلناها ونفعلها ونهتم بها ونحرص عليها أكثر من اهتمامنا وحرصنا على الخشوع!. خلقنا لنكون في كنف الله الرحمن وفي عبادة الواحد المنان.. وكفى بك عزاً أن يكون لك رباً، وكفى بك فخراً أن تكون له عبداً.

أخي الخاشع الحبيب تعال واستمع معي لكلمات معطرة بعطر النبوة المحمدية، دعاء كان يدعو به نبيك وحبيبك وقدوتك - صلى الله عليه وسلم - فيقول فيه: ((.. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ, لَا يَنفَعُ وَمِن قَلبٍ, لَا يَخشَعُ وَمِن نَفسٍ, لَا تَشبَعُ وَمِن دَعوَةٍ, لَا يُستَجَابُ لَهَا))(مسلم، الذكر والدعاء، ح(4899)).

فأي دعوة تستجاب خرجت من قلب لاه ساه ما عرف طعم الخشوع، وأي علم ينفع في قلب ما عرف الخشوع، وأي نفس تشبع أو تقنع والقلب معلق بالدنيا ما عرف الخشوع. فهل.. هل لي أخي الحبيب أن أدعوك ونفسي أن نكثر من هذا الدعاء عل الكريم أن ينظر لحالنا وذلنا فيرحمنا ويرزقنا قلوباً خاشعة منيبة مخبتة، يقول الإمام ابن القيّم(- رحمه الله -): \" في القلب شعث(أي تمزق)لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق لا يذهبه إلا الفرار إلى الله\". فهل أحسست مرة بهذه المعاني؟! هل شعرت أخي الحبيب أنك تريد أن تفر إلى لله - عز وجل -؟! وتقول بلسان حالك: أنا محتاج لدينك يا رب! محتاج إلى أن آنس بك يا رب! هل أحسست أن في قلبك شوقا وتطلعا لا يطفئه ولا يشبعه إلا الرضا بالله - عز وجل -؟! فإلى كل من يعاني من الضيق والطفش، إلى كل من يعاني من الخوف والقلق إلى كل من حرم لذة الحياة أقول له هنا علاجك وبغيتك في الخشوع، ويقول الإمام ابن القيم أيضا: \" إذا استغنى الناس بالدنيا فاستعن أنت بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنس الناس بأحبابهم فأنس أنت بالله، وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى الله\". أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِّنهُم فَاسِقُونَ}[الحديد: 16].

 

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وحبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا رحمني الله وإياكم أن أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوعº أخرج الإمام الترمذي عَن أَبِي الدَّردَاءِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُختَلَسُ العِلمُ مِن النَّاسِ حَتَّى لَا يَقدِرُوا مِنهُ عَلَى شَيءٍ, فَقَالَ زِيَادُ بنُ لَبِيدٍ, الأَنصَارِيٌّ كَيفَ يُختَلَسُ مِنَّا وَقَد قَرَأنَا القُرآنَ فَوَاللَّهِ لَنَقرَأَنَّهُ وَلَنُقرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبنَاءَنَا فَقَالَ ثَكِلَتكَ أُمٌّكَ يَا زِيَادُ إِن كُنتُ لَأَعُدٌّكَ مِن فُقَهَاءِ أَهلِ المَدِينَةِ هَذِهِ التَّورَاةُ وَالإِنجِيلُ عِندَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغنِي عَنهُم قَالَ جُبَيرٌ فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ قُلتُ أَلَا تَسمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ فَأَخبَرتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّردَاءِ قَالَ صَدَقَ أَبُو الدَّردَاءِ إِن شِئتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلمٍ, يُرفَعُ مِن النَّاسِ الخُشُوعُ يُوشِكُ أَن تَدخُلَ مَسجِدَ جَمَاعَةٍ, فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا))(الترمذي، العلم، ح(2577) [قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ]).

أيها الأحبة في الله احرصوا على غرس الخشوع في قلوبكم وقلوب أزواجكم وأبنائكم تفوزوا في دنياكم وأخراكم جعلني الله وإياكم من الخاشعين القانتين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply