الكبر من أعظم معوقات الاستقامة


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله أكرم جباهنا بالسجود لعظمته, ونور قلوبنا بالإيمان به وبمعرفته وطاعته, وأرغم أنوفنا بالرضا بقدره والتسليم لحكمته, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بأسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته شهادة أرجو بها نيل مرضاته, والنظر إلى وجه, والفوز بالدرجات العلا من جنته, وأشهد أن محمدً عبده ورسوله شهادة مصدق به متبع لسنته راجيا شربة هنية من حوضه ودخولا في شفاعته, صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سلك سبيلهم واتبع نهجهم والصالحين من أمته وسلم تسليما.  

أما بعد فتقوى الله ملاك كل خير, وهي الزاد لمن جد به إلى الآخرة السير,{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ولباس التقوى ذلك خير}.

أيها المسلمون: يود كثير من الناس أن يستقيم على الطريق السوي وربما منى نفسه بذلك وواعدها ولكن هناك معوقات تحول بينه وبين الهداية, إما مجتمعة أو متفرقة, ومن تلك المعوقات ما سنحاول أن نتحدث عنه إن شاء الله باختصار لعل الله أن ينفع بذلك, ونقول إن أول هذه المعوقات وأهمها \"الكبر\" والكبر والتكبر والاستكبار هو الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره, وأفضل وأعظم أنواع الكبر أن يتكبر على ربه بأن يمتـنع عن قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة, أما المتكبر فيكون متكلفا متشبعاً ما ليس فيه قال الله-تعالى- حاكياً عن فرعون {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق}  فالاستكبار بحق لله- جل وعلا- فقط, ومن الآيات الدالة على هذا المعوق قوله-جل وعلا-: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون},  وقوله {فاستكبروا وكانوا قوما عالين}, وقوله: {إلا إبليس أبى وأستكبر}, وقوله: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها}, وقوله- جل وعلا-: {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}, وقال-جل وعلا-: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا}, وقال- جل وعلا- أيضا: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}, والآيات في هذا المعنى كثيرة, وما الأحاديث فقد قال- صلى الله عليه وسلم-: (ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبره, ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر) رواه البخاري, وقد أكل رجل عند النبي- صلى الله عليه وسلم- بشماله فقال: كل بيمينك. قال: لا أستطيع! قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر. قال: فما رفعها إلى فيه) , وورد في الصحيحين ذكر احتجاج الجنة والنار والشاهد منها قول النار: (أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين), وجاء عنه- صلى الله عليه سلم-أنه قال: (الكبر السفه عن الحق وغمس الناس. فقيل: يا نبي الله! و ما هو؟ قال: السفه أن يكون على رجل مال فينكره فيأمره رجل بتقوى الله فيأبى, والغمس أن يجيء شامخا بأنفه وإذا رأى ضعفاء الناس وفقرائهم لم يسلم عليهم ولم يجلس إليهم محقرة لهم), وقال-صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا, ونعله حسنا. فقال: (الكبر بطر الحق وغمر الناس) أي ازدرائهم واحتقارهم, وعنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذر يطأهم الناس لهوانهم على الله- عز وجل-). قال سفيان بن عيينة: \"من كانت معصيته في شهوة فارجوا له التوبة فإن آدم -عليه السلام- عصى مشتهيا فغفر له, ومن كانت معصيته في كبر فاخشوا عليه اللعنة فإن إبليس عصى مستكبرا فلعن\"

عباد الله: الكبر آفة عظيمة, وفيه يهلك الخواص والعوام, والعباد, والزهاد, بل والعلماء كل بحسبه, وقد جعله النبي- صلى الله عليه وسلم- حجازا من الجنةº لأنه يحول بين المرء وبين أخلاق المؤمنين, وصاحب الكبر لا يقدر أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه, فلا يقدر على التواضع, ولا على ترك الحسد, ولا على ترك الحقد والغضب, ولا على ترك الغيظ, ولا على قبول النصح, ولا يسلم من الازدراء بالناس واغتيابهم, فما من خلق ذميم إلا وهو مضطر إليه, يقول- جل وعلا-: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل و ما ملكت أيمانكم), ثم تأمل بما ختمت هذه الآية ختمت بقوله تعالى: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا}º لان المختال الفخور يعجب بنفسه ويحتقر غيره فلا يحب أن ينسب إليه أقاربه الفقراء, أو ذوي العاهات, أو الجيران إذا كانوا ضعفاء, فلا يحسن إليهم لئلا يلموا به فيعير بهم فيأنف من معاشرة الفقراء والمساكين فلا يمنع من بر المذكورين في الآية إلا الكبر والخيلاء.

ألا وإن شر أنواع الكبر ما يمنع استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له, فقد تحصل المعرفة للمتكبر ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا}.

ومن أنواع الكبر الدعاوى والمفاخر وتزكية النفس وحكايات الأحوال في معنى المفاخرة للغير والتكبر بالنسب, فمن له نسب شريف يحتقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملا. قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: (يقول الرجل للرجل أنا أكرم منك وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى), و كذلك التكبر بالمال والولد {أنا أكثر منك مالا وولدا}, {أنا يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}, التكبر بالجمال, والقوة, وكثرة الأتباع ونحو ذلك: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} ,{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي}, وفي الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالا وإن لم يكن كمالا في نفسه أمكن أن يتكبر به حتى إن الفاسق ليفتخر بكثرة شربه للخمر مثلا ولفجوره لظنه أن ذلك كمالا.

أيها الأحبة: يظهر التكبر في شمائل المرء كصعر وجهه ونظره, شزرا في أقواله حتى في صوته و صيغة إيراده الكلام, و في مشيته وتبختره وتشدقه, وربما لم يزر أحد تكبرا أو يستنكف أن يجلس أحد بجواره, أو أن يمشي معه, والمتكبر لا يتعاطى شغلا بيده في بيته ولا يحمل متاعه من السوق إلى البيت.

عباد الله: هذه أمثلة من تواضعه- صلى الله عليه وسلم- بعدا عن الكبر وإثباتا لضده, وامتثالا لقوله- جل وعلا-: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا},  ولقوله- عز وجل-: { واخفض جناحك للمؤمنين}, وليس ذلك البعد عن الكبر إلا جبلة فيه- صلى الله عليه وسلم- , أليس قد وصفته عائشة- رضي الله عنها- بأن كان خلقه القرآن؟ فهاهو صلوات ربي وسلامه عليه يخبر عن نفسه فيقول: (لا آكل متكئا), وكانت مشيته-عليه الصلاة والسلام- كأنما ينحدر من صبب, وكان يجلس حيث انتهى به المجلس, وقال- صلى الله عليه وسلم-: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله), ولما أراد أحدهم أن يحدثه أخذته هيبة فارتعد فقال له- صلى الله عليه وسلم-: (هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة), وفي البخاري من حديث أنس- رضي الله عنه- قال:\" كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت, وكان الرجل إذا دخل على أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- يسأل أيكم محمد, وهذا خليفته ورفيق درب دعوته الصديق- رضي الله عنه- يودع جيش أسامة وأسامة- رضي الله عنه-على فرسه وهو يسير على قدميه فيقول أسامة: لتركب أو لأنزل. فيقول الصديق ومالي لا أغبر قدمي ساعة في سبيل الله, ثم يستأذن أسامة وهو الخليفة يستأذن أسامة في عمر فيقول أتأذن لي بعمر أستعين به على أمور المسلمين, وهذا الفاروق الملهم- رضي الله عنه وأرضاه- لبس ثيابه يوم الجمعة وكان قد ذبح للعباس فرخان, وكان للعباس ميزاب على طريق عمر, فلما وافى عمر الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر عمر بقلعه أي الميزاب, ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثيابا غيرها, ثم جاء وصلى بالناس, ثم أتاه العباس فقال والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ففعل ذلك.

 

أيها المسلمون : وإن للمتكبرين قصصا كثيرة: منها قصة أبي جهل, والوليد بن المغيرة, وغيرهم من أشراف قريش المشركين, وانظر قصة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين فلم لم يسلموا ؟ ولم لم يتبعوا النور الذي أنزل مع محمد- صلى الله عليه وسلم- ؟ ستجد أن السبب هو الكبر!!!!

أيها المسلم: إن الكبر داء قد لا تشعر أنك مصاب به فتغفل عن علاجه فيستشري فيك فيمنعك عن قبول الحق أو سماعه أو الاستفادة منه فابحث عن الفائدة وخذها من فم كل أحد أكان أصغر منك أو أجل, فهاهو الهدهد يقول لسليمان النبي- عليه السلام- أحطت بما لم تحط به فما كان من سليمان-عليه السلام- إلا أن قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين, ولم يعنفه ولم يقل له كيف تحيط بما لم أحط به, وأنا النبي المرسل, وابن النبي المرسل, وهاهو سليمان أيضا حين رأى عرش بلقيس أمامه تواضع لله واعترف بقصوره وبما أنعم به عليه فضل من ربه وبلاء: {قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر}, ويوسف الصديق- عليه السلام- بعد أن مكنه الله في الأرض قال {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}, ولما دخل نبي الله- صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحا طأطأ رأسه على بعيره حتى كادت لحيته أن تمس ظهر راحلته تواضعا لله.

أخوة الدين والعقيدة : إن الكبر يقود للطغيان وهو الوقود الرئيس للعصيان {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}, { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم } فالكبر من أخطر الانحرافات الخلقية وأسوأها, فكان جزاء صاحبه أنه أبعد الناس من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منزلا يوم القيامة إذ هو على الضد منه قال-عليه الصلاة والسلام-: (وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون, والمتشدقون, والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون, و المتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) أخرجه الترمذي, وقال- تعالى- في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي, والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار) رواه مسلم, وعلى العكس من ذلك تماما فمن تواضع لله رفعه الله وهذه صفات المؤمنون.

فاتقوا الله عباد الله: واجتنبوا الكبر, والتزموا التواضع, فلا يزال الرجل يتكبر ويستكبر حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابه, فالزم طريق المؤمنين وكن هينا لينا متواضعا, قال- صلى الله عليه وسلم- :(إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي احد ولا يفخر أحد على أحد) أخرجه مسلم.

ولا يستعذب بطاعة الله وترتاح لعبادته نفسه إلا إذا وطأ نفسه على الخضوع والذل له- سبحانه- قال- سبحانه وتعالى-: { إِنَّمَا يُؤمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرٌّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمدِ رَبِّهِم وَهُم لا يَستَكبِرُونَ}, ووصف المقربين من عباده فقال: {فان استكبروا } أي الكفار { فَإِن استَكبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَهُم لا يَسأَمُونَ}, وقال-جل من قائل-: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لا يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسجُدُونَ}, فدلت هذه النصوص على أن الكبر أهم صارف عن قبول الحق والانقياد له والتسليم لحكمه, فكانت عاقبته في الآخرة جهنم وبئس المهاد, قال- عليه الصلاة والسلام-: (لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال ذرة من خردل من إيمان, ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من خردل من كبر) فتأمل رحمني الله وإياك كيف قابل الإيمان بالكبر لا بالكفر إذ أن الكبر والكفر قرينان لا ينفكان فبئس القرين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { لَن يَستَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبداً لِلَّهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَستَنكِف عَن عِبَادَتِهِ وَيَستَكبِر فَسَيَحشُرُهُم إِلَيهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم وَيَزِيدُهُم مِن فَضلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ استَنكَفُوا وَاستَكبَرُوا فَيُعَذِّبُهُم عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيهمن الآيات والذكر الحكيم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply