أهل الدثور


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أيها المسلمون: إن جماعة من الفقراء، لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، رأوا جماعة من الأغنياء، لهم أملاك عظيمة، وأموال طائلة، فحسدت هذه الجماعة الفقيرة، تلك الجماعة الغنية، بيد أن في أمر تلك الجماعة الفقيرة عجبا، إذ إنهم لم يحسدوا الأغنياء على كثرة أموالهم أو لأن الأغنياء يملكون العمارات، والعقارات، والاستراحات، ويركبون أفخر السيارات، ويلبسون أجمل الملبوسات، ويتنعمون بأنواع المأكولات والمشروبات.

لم يحسدوا الأغنياء لأنهم كانوا يصيفون في أرقى المنتجعات، ويسافرون إلى الخارج في الإجازات، ويركبون الدرجة الأولى في الطائرات.

إن الفقراء حسدوا الأغنياء، بل واشتكوهم إلى ولي الأمر، وجاءوا بالدليل القاطع على أن الأغنياء لم ينصفوا، بل استغلوا أموالهم ليفوزوا على الفقراء، أفضل استغلال.

فلنستمع إلى شكاية الفقراء إلى ولي الأمر من الأغنياء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم. قال: كيف ذاك؟ قالوا: صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم، وليست لنا أموال. قال: (أفلا أخبركم بأمر تدركون من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله؟ تسبحون في دبر كل صلاة عشرا, وتحمدون عشرا، وتكبرون عشرا).

وفي رواية أخرى: وكلتا الروايتين في البخاري: قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، قال: ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه، إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون، خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا: نسبح ثلاثا وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبر أربعا وثلاثين، فرجعت إليه فقال: تقول سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين.

ولكن أتظنون الأغنياء يسمعون بهذا الفضل فيزهدون فيه، ويتركونه؟ لا، بل هم سمعوا ذلك فسابقوا الفقراء إليه، وعملوا بمثله، فذهب الفقراء يشكون مرة أخرى، من هذه المزاحمة من الأغنياء، فقال بأبي هو وأمي: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

معاشر المسلمين: هذه هي المنافسة الحقة، والمسابقة النافعة، وهذا هو الفرق بين فقرائنا وفقرائهم، وأغنيائنا وأغنيائهم، ففقراؤنا متذمرون، ساخطون يريدون التوسع في أمور دنياهم، وفي غالب أمورهم ما لا يحتاجونها، ولا يستعملونها، ولكن مظاهر وكماليات، وتشبه بالشكليات، حتى إن بعضا من الفقراء ركبتهم الديون، لا لحاجتهم للأكل والشراب، أو ليستروا عوراتهم بما تيسر من الثياب، ولكن ليشتروا من أمور الدنيا ما يضاهون به من فوقهم من الأغنياء، فهم لا ينظرون إلى الأغنياء إلا من جهة حسدهم على ما يملكون، وما يلبسون ويركبون، وعلى أرصدتهم الكبيرة، وغير ذلك مما من الله به عليهم، فيزاحمون الأغنياء في البذل والسرف، بطاقات متنوعة، وسيارات فارهة، وكلها أقساط وديون، ونزع لحم الوجه من التعرض للمسألة، أو الزج في السجون.

وأما بعض أغنيائنا، فانظر إلى إنفاقهم على اللاعبين، والمتسابقين، لا في الرماية والخيل، ولكن في تفاهات ما أنزل الله بها من سلطان، يتبارون في الفسق عليه ينفقون، وللمجون له ينشرون، فكل فضاء للفساد ينشر، فأغنياؤنا هم المالكون.

قارن يا عبدالله بين موقف عثمان - رضي الله عنه - وهو يجهز جيش العسرة، فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) وبين من يجهز ويتبنى برامج الخلاعة والعري، متناسيا: ما أغنى عني ماليه.

وقارن يا عبدالله بين موقف ذلك الفقير

 

يريد الجهاد ولا يملك شيئا يتجهز به، فيأتي إلى الحبيب بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - يطلب منه أن يحمله، ويسطر ذلك الموقف كتاب الله - تعالى -آيات تنير قلوب المؤمنين: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}. نعم يبكون، لأنهم لا يجدون ما ينفقون، والنفقة التي بكوا لفقدها نفقة لله، وفي سبيل الله، ولنصرة دين الله، ولإعلاء كلمة الله.

يتمنون المال، ليسهموا فيه في وجوه الخير، صدقة على الفقراء، وكفالة للأيتام، وعمارة للمساجد، ونصرة للمظلوم.

فأين أنت أيها المحروم، يمن عليك بالمال الوفير، فلا حظ فيه إلا للفاسق والحقير، ويحرم منه المسكين والفقير.

أما علمت أخي أنك ستسأل عن هذا المال يوم القيامة؟ من أين؟ وفيم؟ فهل عندك الجواب، إذا قال لك الرب- تبارك وتعالى -مقررا لك وأنت بين يديه لا ترى إلا ما قدمت عن يمينك وعن شمالك، وترى النار تلقاء وجهك، مالك هذا من أين اكتسبته، أمن حلال هو أم من حرام، هل للربا فيه نصيب؟ هل للسحت فيه نصيب؟ هل للرشوة فيه نصيب؟ هل هو مال يتيم استضعفته فأكلته؟ هل هو حق مسكين استغفلته فسرقته؟ ثم فيم أنفقته؟ أعلى أهل الفجور والخنا؟ أعلى أهل التمثيل والغنا؟ هل سررت بأهل الفسق يستقبل استقبال الأبطال والفاتحين؟ ثم تأتي أنت فتقول مثل قول سلفك: أهلكت مالا لبدا. يقولها افتخارا، ومباهاة واغترارا، حتى إنه يعبر عنه بالإهلاك، ولا يقول أنفقت مالا، ولكن يقول أهلكت مالا، لأنه أنفقه غير مكترث به، وغير راج لمنفعته، فضياع ماله وهلاكه عنده سواء، فافتخر هذا الدعي بإهلاكه ماله في غير وجهه، ولم يضعه في مواضعه، فلو وضعه في مواضعه لقال أنفقت، أو تصدقت، والتعبير بالهلاك للمال مناسب من جهة أخرى، فلن ينفعه ماله ذلك أبدا في الآخرة، ما أغنى عني ماليه، فلم يطعم جائعا، ولم يفك رقبة، أو يواسي به مسكينا، وعبر عنه باللبد: أي الكثير، تلبد الشيء إذا اجتمع، أيحسب أن لم يره أحد؟ أيظن هذا الإنسان المتفاخر بالإنفاق في وجوه الشر والفسق أن أعماله تخفى على عالم السر والنجوى؟ أو يظن أنه لن يحصى عليه إنفاقه، ولن يحاسب على اكتسابه؟ فالله - تعالى -يراه وهو عليه رقيب، ويوم القيامة له حسيب، يوم لا ينفع المال ولا الحبيب.

أيها الأحبة: إن الله - تعالى -سمى المال خيرا فقال: وإنه لحب الخير لشديد، وقال: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية. وذلك لما يمكن صاحب المال الوفير من بذله في وجوه الخير، جهادا في سبيل الله، وحجا وصدقة، وبرا وصلة، ويذر ورثته أغنياء، ويجري العمل به من بعده إذا انقطع عمله، فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية...،) الحديث. فهو زينة الحياة الدنيا، لمن أحسن استعماله، واتقى الله في أصله ومكسبه، وإلا فإنه يصبح نوعا من العذاب يعذب به صاحبه شعر بذلك أم لم يشعر. فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، فاستبقوا الخيرات عباد الله، وليكن لكم في أبي الدحداح - رضي الله عنه - أسوة حسنة، فإنه لما نزل قول الله - تعالى -: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة}، قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح. قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني أقرضت ربي حائطي، وحائطه فيه ستمئة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح فناداها، يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي - عز وجل -. أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود.

فاتقوا الله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، واعملوا لتدخلوا في قوله - تعالى -: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. وتذكروا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون.

وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق،،، الحديث. وحين قال: ما نقص مال من صدقة، وحين قال: أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله الجنة، أخرجه البخاري. فيا ليت شعري أين أغنياؤنا يسمعون هذا الوعد، ويؤمنون به، ويتبعون هديه، ويعملون بمقتضاه، فليتهم يعلمون أن الله قد من عليهم بمنة زادت على غيرهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وحقا حقا، وصدقا صدقا، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم}.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله ذي الفضل والإحسان، البر الكريم المنان.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يختص برحمته من يشاء والله واسع عليم، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، فمن رفعه أعطاه خير ما يعطاه إنس أو جان، جنة عليا ورحمة ومغفرة ورضوان. ومن وضعه فله الخزي والعار، ومستقره النار، وبئس القرار، وذلك أعظم الخسران.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، كان أجود الناس، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، حتى عاتبه ربه فقال له: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}، فيا له من كريم النفس بعيد عن السرف والطغيان.

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أولي البذل والعطا، والجود والإحسان، خرجوا من ديارهم، وأموالهم، وآثروا على أنفسهم فاستحقوا بذلك البذل والإنفاق أعالي الجنان، وسلم تسليما.

أما بعد،،، فأوصيكم بتقوى الله، فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل على الله كفاه، ومن سأل الله أعطاه، ومن اكتفى به أعزه وأغناه، ونصره وآواه.

أيها المسلمون: قالت عائشة - رضي الله عنها -: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئا غير تمرة، فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا فأخبرته، فقال: (من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار).

فانظر يا رعاك الله كيف لا يوجد في بيت النبوة إلا تمرة؟ وانظر يا رعاك الله كيف جادت بها الصديقة - رضي الله عنها - وهي لا تجد غيرها!! وانظر يا رعاك الله كيف كانت تلك التمرة سترا لتلك المرأة من النار! وانظر يا رعاك الله إلى نفسك واسألها: هل تصدقت في شهري هذا؟ في يومي هذا؟ هل عودت أبنائي على الصدقة من خير ما أجد؟ هل تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخاف الفقر وتأمل الغنى؟ هل وقفت يوما متأملا قوله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}. هل حاولت أن تتبع قراءتك لهذه الآية بالعمل؟ هل جربت في يوم أن تجمع تلك الخصال التي ما اجتمعت في عبد إلا دخل الجنة: أن تصبح صائما، وتتصدق على مسكين، وتتبع جنازة، وتعود مريضا؟ أتعجز عن فعل ذلك؟ أم تراك فيما قيل لك من الزاهدين؟ عجل أخي الحبيب فإن مما يتمناه المحتضر أن يؤخر إلى أجل قريب: ليصدق ويكون من الصالحين. {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}، وتأمل كيف عبر هنا بالخسران لمن فعل ذلك، فإنه لما انشغل بماله فإنه كان يريد الربح، وتنمية المال فأخبره مولاه أن ذلك خسران مبين، وليس ربحا ولا تنمية، فإن من عصى الله فقد خسر خسرانا مبينا، ومن أطاعه فقد فاز فوزا عظيما، وتأمل كيف قال المسكين: فأصدق، ولم يقل فأتصدق، وطلب المهلة لأجل قريب، ليفعل ذلك مبالغة في الإكثار من الصدقة في أجل قصير، فبادر ما دمت في زمن المهلة، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان،،،

{إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}.

هذا، وصلوا على المبعوث رحمة للعالمين، امتثالا لأمر مولاكم، واقتداء بالملائكة المقربين: {إن الله وملائكته يصلون على النبي...}

من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply