الأمانة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

معاشر المسلمين، الأمانةُ خلُقٌ مِن أخلاق الأنبياءِ والمرسَلين، وفضيلةٌ من فضائل المؤمنين، عظَّم الله أمرَها ورفع شأنها وأعلى قدرَها، يقول - جل وعلا -: ((إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً )) [الأحزاب: 72]، ويقول - سبحانه - في وَصفِ عبادِه المفلحين المؤمِنين: (( وَالَّذِينَ هُم لأَمَانَاتِهِم وَعَهدِهِم رَاعُونَ )) [المعارج: 32].

الأمانةُ أمر الله بحفظِها ورِعايَتِها، وفرَض أداءَها والقِيامَ بحقِّها: (( فَليُؤَدِّ الَّذِي اؤتُمِنَ أَمَانَتَهُ ))[البقرة: 283]، ويقول - جل وعلا -: (( إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدٌّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا )) [النساء: 58]، ونبيٌّنا يقول: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائتَمَنك، ولا تخُن من خانك)) رواه أبو داودَ والترمذيّ وسنده صحيح[1]. وفي قصّة هرقل مع أبي سفيان - رضي الله عنه - قال هِرَقل: سألتُك عن ماذا يأمركم ـ أي: النبي ـ فزعمتَ أنه يأمُر بالصلاة والصِّدق والعفاف والوفاءِ بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صِفَة نبيّ. متّفق عليه[2].

معاشرَ المسلِمين، تضييعُ الأمانة ذنبٌ عظيم وجُرم جسيم، يَقول ربٌّنا - جل وعلا - ناهيًا عن الخيانة في الأمانةِ: (( يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم )) [الأنفال: 27]، ورسولنا يبيِّن لنا أنَّ الخيانةَ في الأمانة علامة من علاماتِ المنافق، فيقول - عليه أفضل الصلاة والسلام -: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان)) متّفق عليه[3].

إخوة الإسلام، والأمانة المطلوبة تشمَل عِفّةَ الأمين عمّا ليس له بحقٍّ,، وتتضمَّن تأدِيَةَ الأمين ما يجِب عليه من حقٍّ, لغيره سواء لله أو لخلقِه، وتشمَل كذلك اهتمامَه بحفظِ ما استُؤمِن عليه من ودائعَ وأموال وحُرَمٍ, وأسرار. وقال العلماء: \"والمجالات التي تدخل فيها الأمانةُ كثيرةٌ، قاعدتها وأصلُها التكاليف والحقوقُ التي أمر الله - جل وعلا - بِرعايتها وصِيانتها، ممّا هو متعلِّق بالدِّين أو النّفوس أو العقول أو الأموال أو الأعراض\".

إخوةَ الإيمان، ومِن الأمانة الواجِب مراعاتُها والقِيام بحقِّها إسداءُ النصيحةِ لمن استَنصَح وإبداءُ الرأيِ السديد المتجرِّدِ من كلِّ غَرَض لمن استشار، فنبيٌّنا يقول: ((المستَشار مؤتَمَن)) حديث حسن[4]، ويقول: ((ومَن استشارَه أخوه المسلمُ فأشار عليهِ بغيرِ رشدٍ, فقد خانَه)) رواه أحمد وأبو داود بسند حسن[5].

ومن الأمانات العامّةِ التي يجب تقوَى الله - عز وجل - فيها الوظائفُ بشتَّى أنواعها والمسؤوليَّات بمختَلفِ صوَرِها، فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسولَ الله، ألا تستعمِلُني؟! قال: فضَرَب بيدِهِ على منكِبي ثم قال: ((يا أبا ذرّ، إنّك ضعيف، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامة خِزيٌ وندامة، إلاّ من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها)) رواه مسلم[6]، وروى مسلم أيضًا عن النبي أنه قال: ((ما من عبدٍ, يسترعيه الله رعيّةً يموت يومَ يموت وهو غاشُّ لرعيَّته إلاّ حرَّمَ الله عليه الجنة))[7].

إخوةَ الإسلام، ومِن أعظمِ ما يُؤتمَن عليه الإنسانُ الأموالُ العامّة التي تعود للمسلِمين قاطِبَة، فرَضَ الله رعايَتَها وعدَمَ إهدارِها، وأوجَبَ حفظَها كما يحفظ الإنسان مالَه وأشدّ، قال في حديث طويلٍ,: ((ومَن استعمَلناه منكم على عمَلٍ, فكتمَنا مخيطًا فما فوقه كان غُلولاً يومَ القيامة))[8]، وفي الحديث أيضًا: ((ومن استعملنا منكم على عملٍ, فليجِئ بقليله وكثيره)) الحديث رواه مسلم[9]. وقد مدَح الأمينَ على أموال المسلمين فقال: ((الخازن الأمين الذي يؤدِّي ما أمِر به طيِّبةً نفسُه أحَدُ المتصدِّقين)) متّفق عليه[10].

أيّها المسلمون، ومِنَ الأمانات العظيمةِ أن لاَ يوسَدَ أمرٌ من أمور المسلمين إلاّ فيمن يُتَوخَّى فيه خوفُ الله - جل وعلا - وممّن توفَّرت فيهم شروطُ الصلاحيّة العلميّة والعملية والأمانةُ على تأديَة الواجب الملقَى، فربٌّنا - جل وعلا - يقول حكايةً عن عفريتِ الجن: (( قَالَ عِفرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيهِ لَقَوِيُّ أَمِينٌ)) [النمل: 39]، وقال حكايةً عن بنت شعيبٍ, - عليه السلام -: (( قَالَت إِحدَاهُمَا يَا أَبَتِ استَأجِرهُ إِنَّ خَيرَ مَنِ استَأجَرتَ القَوِيٌّ الأَمِينُ )) [القصص: 26]، ويقول عن يوسف - عليه السلام -: ((قَالَ اجعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )) [يوسف: 55]، وفي حديث حذيفةَ أنَّ النبيَّ قال لأهلِ نجران: ((لأبعثَنّ إليكم رَجلاً أمينًا حقَّ أمين))، فاستشرَفَ لها أصحابُ رسول الله، فبَعث أبا عبيدةَ. متّفق عليه[11].

وإنَّ من علامات سوء الزمان وفسادِ المجتمع وخُبث السّرائر ضياعَ الأمانة والتّفريطَ في الرِّعاية والتّهاوُن في المسؤولية واتِّخاذَ المصالح الخاصّة الهدفَ والغاية ونبذَ المصالح العامّةِ من أجل المصالحِ الخاصّة والمنافع الذاتيّة، ففي مقامِ الذمّ يقول الحبي المصطفى: ((إنَّ الله يبغِض الفحشَ والتفحٌّش. والذي نفسُ محمّد بيدِه، لا تقوم الساعة حتى يُخوَّنَ الأمين ويؤتَمَن الخائن، حتى يظهَر الفُحش والتفحٌّش وقطيعةُ الأرحام وسوءُ الجوار)) والحديثُ رواه أحمد وغيره وإسناده صحيح[12]، وفي صحيح البخاريّ قولُه: ((فإذا ضيِّعَت الأمانة فانتظِرِ الساعةَ))، قال: كيف إضاعتُها؟ قال: ((إذا وُسد الأمرُ إلى غير أهلِه فانتظرِ الساعة))[13].

فيا من تحمَّلَ مسؤوليّةً من مسؤوليات المسلمين مِن الوظائف والأعمال والمهامِّ والمسؤوليّات، لقد استرعَاكم ربٌّكم - جل وعلا - ثمّ وليٌّ الأمر مسؤوليّاتٍ, جسامًا ومهامَّ عِظامًا، واجبٌ عليكم تقوَى الله - جل وعلا - فيها ورِعايةُ هذِه المسؤوليّات، عليكم فَرضٌ عظيم بالقِيام بهذه المسؤوليّات بما يُرضِي الله ثم يرضِي وليَّ الأمر [وعامّةَ المسلمين]، إيّاكم وتسخيرَ هذه المسؤوليات في مصالحَ خاصّةٍ, أو منافع ذاتيّة، واحذَروا من التهاونِ في مقاصِدِ هذه المسؤوليّات وأهدافِها، فلقد ائتَمَنكم وليٌّ الأمر ثمّ المسلمون من بعده على هذهِ المسؤوليّات لتسخِّروها في النفعِ العامّ وتحرصُوا على الدقيقِ والكبير فيما يعودُ بالمصلَحة والمنفعةِ لكلّ مسلم، ارفقُوا بالمسلمين، اقضُوا حاجاتِهم، سهِّلوا عليهم، احذَروا من إعنَاتِهم والمشقَّة عليهم، يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا، كونوا عونًا في إفشاءِ المحبّة بين أفرادِ المجتمع، كونوا مِرآةً صادقة صالحَة في تحبيب الناس للنظامِ وللبلادِ ولوليِّ الأمر، فإنَّ من أعظم الخيانة أن تكونوا عونًا للشيطانِ على النّاسº لإحباطِهِم وإزعاجِهم ومضرَّتهم وتنفيرِهم عن طاعةِ وليِّ الأمر وعن محبَّته، فإنَّ صاحبَ الحاجة أعمى لا يبصِر إلا حاجتَه، والناسُ متعلِّقون بأمورِ دنياهم، ولقد قال: ((لكلِّ غادرٍ, لواءٌ يومَ القيامة، يُرفَع له بقدر غَدرِه، ألا ولا غادرَ أعظم غَدرًا من أميرِ عامّة)) متّفق عليه[14]. قال العلماءُ: \"لأنَّ أميرَ العامّة ـ وهو صاحبُ الوِلايةِ العامّة من حاكمٍ, عامّ أو وزيرٍ, ونحوِه ـ لأنّ غدرَه يتعدّى ضرره إلى خلقٍ, كثير\".

أمّة الإسلام، ومِن الأمانةِ العظيمةِ على كلِّ مسلم في هذه الأرض حملُ هذا الدينِ، وإبراز محاسنِه العِظام وفضائِله الجسام، وإفهامُ العالم كلِّه بالعِلم والعمَل بالسلوك والمظهر أنَّ هذا الدينَ خير ورحمةٌ عامّة للبشرية وصلاحٌ للعالَم يحمِل السعادة والسّلام والفوزَ والنجاة في الدنيا والآخرة.

ومِن الأمانة العظيمةِ شبابُ الإسلام. فيا علماءَ المسلمين ويا مفكِّريهم، يا دعاةَ الإسلام، يا رجالَ الإعلام والتربيّة، اتقوا الله - جل وعلا - في الشباب، وجِّهوهم لما فيه خيرُهم وخير بلدانهم وما فيه مصالِحُهم ومصالِح أمَّتهم، فقِّهوهم مقاصدَ الإسلام، وجِّهوهم لمضامين العقيدة الصحيحة ومبادئ الأخلاق المستقيمَة والأفكار السليمةِ، بصِّروهم بخطورَةِ الآراءِ المنحرِفة مثل الغلوّ والأفكارِ المتطرّفة وتبنِّي التكفير والتّبديع والتفسيق بدون حجّةٍ, قرآنيّة وسنّة نبويّة وفهمٍ, سديد على منهَج علماء الأمّة، كلّكم راع، وكلُّ مسؤول عن رعيّتِه.

حذّروا الشبابَ من المعاصِي بأنواعها ومن الآثامِ بشتَّى أشكالها، وعلَى رجالِ الأعلام خَطرٌ عظيمٌ مما يقَع في قنواتٍ, كثيرة من برامجَ تحمِل السٌّمّ الزٌّعاف والشرَّ المستطير لإفساد أخلاقِ شبابِ الإسلام وشابّاتهم، حتى وصَلَ الأمر ـ أيها المسلمون ـ إلى جمع الشّبابِ والشابّات في مكانٍ, واحد لغسلِ الأدمِغة وتعليم الأغاني الماجِنَة والأخلاقِ الرَّديَّة، فليتذكَّر أولئك المالِكون لهذه القنواتِ عِظَمَ الموقف بين يدَيِ الله - جل وعلا -، وليتذكَّروا أن الدّنيا دارُ ممرّ والآخرة هي المستقرّ، وليتفكّروا في هذهِ الآيةِ العظيمة: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبٌّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ [النور: 19].

بارَك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

----------------------------------------

[1] سنن أبي داود: كتاب البيوع، باب: في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3535)، سنن الترمذي: كتاب البيوع، باب: ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر (1264) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا الدارمي في البيوع، باب: في أداء الأمانة واجتناب الخيانة (2597)، قال الترمذي: \"هذا حديث حسن غريب\"، وصححه الحاكم (2296)، وله شواهد من حديث أنس وأبي أمامة وأبي بن كعب وعن رجل عن أبيه وعن الحسن مرسلا كلها لا تخلو من مقال، قال الشافعي في الأم (5/104): \"ليس هذا بثابت\"، وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/593): \"هذا الحديث من جميع طرقه لا يصح\"، ونقل ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/150) عن أبي حاتم أنه قال: \"منكر\"، وعن أحمد أنه قال: \"هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبي من وجه صحيح\"، قال الشوكاني في النيل (6/39): \"لا يخفى أن وروده بهذه الطرق المتعددة مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث منتهضا للاحتجاج\"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (423)، وانظر: الإرواء (1544).

 [2] صحيح البخاري: كتاب الشهادات (2681)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1773) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

 [3] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (33)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (59) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

 [4] أخرجه أبو داود في الأدب (5128)، والترمذي في الأدب (2822)، وابن ماجه في الأدب (3745) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن\"، وهو في صحيح سنن أبي داود (4277). وفي الباب عن أم سلمة وأبي مسعود وابن عمر وجابر بن سمرة وسمرة بن جندب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير وأبي الهيثم بن التيهان والنعمان بن بشير - رضي الله عنهم -.

 [5] مسند أحمد (2/321)، سنن أبي داود: كتاب العلم (3657) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا ابن راهويه في مسنده (334)، وابن بشران في الأمالي، والطبراني في طرق حديث من كذب علي متعمدا، والبيهقي في الكبرى (10/112)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1625)، والخطيب في الفقيه والمتفقه، وصححه الحاكم (349، 350)، لكن في إسناده عمرو بن أبي نعيمة مجهول، وهو في ضعيف الأدب المفرد (41)، وانظر: السلسلة الصحيحة (7/1/268-269).

 

---------------------------------------------------

[6] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1825).

[7] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (142) من حديث معقل بن يسار المزني - رضي الله عنه -، وأخرجه البخاري في الأحكام (7150) نحوه.

[8] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1833) عن عدي بن عميرة الكندي - رضي الله عنه -.

[9] هو في نفس الحديث السابق.

[10] صحيح البخاري: كتاب الإجارة (2260)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1023) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.

[11] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3745)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2420).

[12] مسند أحمد (2/199) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وهو في جامع معمر (11/404-405)، ومسند البزار (2435)، وصححه الحاكم (8566)، وفي سنده أبو سبرة الكوفي الراوي عن عبد الله بن عمرو مقبول.

[13] صحيح البخاري: كتاب العلم (59) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[14] صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1738) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله كثيرًا، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له في الآخرة والأولى، وأشهَد أنَّ سيّدَنا ونبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله النبيّ المجتبى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آلِه وأصحابه.

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بوصيّة الله - جل وعلا - لخلقه، وهو تقوى الله وطاعته ولزوم أمره سرًّا وجهرًا ليلاً ونهارًا.

أيها المسلمون، ومن الأمانة العظيمة التي يتحمّلها العلماء أمانةُ الفتوى، فالواجب على من صدَّر نفسه للفتوى أن يعلم عِظمَ الأمانة وأن الأمر جِدٌّ خطير، فالفتوى الصادرة عن عدم علمٍ, دقيق وفقه عميق بالحكم وعن عدم فهمٍ, شامل للوقائع المطروحة والنوازل الواقعة المراد تنزيل الشريعة عليها يُعدٌّ من عظائم الأمور، فما حصلت الانحرافات في الأمّة إلاّ بسبب التصدّر للفتوى بلا علم بالأمرين المذكورين، وقد حذّر ربنا - جل وعلا - من القول عليه بلا علم، ونبيٌّنا يقول فيما صحَّ عنه: ((ومن أفتيَ بفُتيا بغير علمٍ, كان إثمه على من أفتاه))[1].

وليُعلَم أنَّ أشدّ الأمور إثمًا وأعظمها خطرًا تلك الفتاوى التي تصدر بلا علمٍ, بالحكم أو بلا علمٍ, بالواقع، ويترتّب عليها حينئذٍ, ما لا يمكن أن يُتدارَك خطره ولا يستدرك ضرره.

ومن أخطر هذه الفتاوى التي تصدر بالتكفير ونحوه، فليتّق الله العلماء، وليتذكّروا سيرةَ سلف هذه الأمة، فلقد كان واقع حالهم ما ذكره أبو حصين قال: إنَّ أحدكم يقول هذا القول وهو في عصر العلم الصحيح، إنَّ أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر ـ وهو من هو في العلم والعمل ـ لجمع لها أهل بدر.

وأنّ جميعَ الغيورِين على هذا الدِّين ليُنادون المجامعَ العلمية في العالم كلِّه بالمسارعة إلى تبنِّي الفتاوى الإجماعية في كلِّ مسألة نازلةٍ, مهما كان نوعهاº لقطع الطريق على الفتاوى الأحاديّة التي تصدر في قنوات فضائية وغيرها، في مشاكل دينية أو دنيوية، حتى لا يُفتح المجال لمن قلَّ فقهه وانعدم ورعه، قال ابن أبي ليلى: لقد أدركتُ عشرين ومائةً من أصحاب رسول الله، ما مِنهم مفتٍ, إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا[2].

وإنّ من الأمانة العظيمةِ على العلماء تبصيرَ المسلمين بسنّةِ نبيِّنا محمّد وهديِ صحابته في الجليلِ والحقير، ففي ربيعٍ, الأول ينتَشِر بين الناس ما يسمَّى بالمولد النبويّ، في حفلاتٍ, تعبّديّة، وإنّ محبّةَ سيّدِنا ونبيّنا وحبيبِنا محمّد لرُكنٌ من أركان الدّين وأساس من أسُسِه المتينة، لا يستقيم إيمانٌ إلاّ بالمحبّة لشخصِه وسنّته - عليه أفضل الصلاة والسلام -، ولكن لا يجوز التقرٌّب بشيءٍ, لم يشرَعه لنا سيّدنا وحبيبُنا ولم يعمَله صحابته المهديّون الطّاهرون، فمن زعَم إحداثَ قربةٍ, ليس فيها برهانٌ من القرآن أو حجّة من السنّة أو هدي من الخلفاء الراشدِين أو إجماع مِن الصحابة المهديِّين فقد زعم أن محمَّدًا قد خانَ الرسالةَ كما قاله الإمامُ مالك[3]، نعوذ بالله من الخذلان.

وإنَّ من أفضل الأعمال وأزكاها عند ربنا الإكثار من الصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمّد.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وأنعم على سيّدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...

 

----------------------------------------

[1] هو في نفس حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدم الذي أخرجه أحمد (2/321)، وأبو داود في كتاب العلم (3657)، وفي إسناده عمرو بن أبي نعيمة مجهول، وهو في ضعيف الأدب المفرد (41)، وانظر: السلسلة الصحيحة (7/1/268-269).

[2] رواه ابن المبارك في الزهد (58)، وابن سعد في الطبقات (6/110)، والدارمي في مقدمة السنن (135)، وابن حبان في الثقات (9/215).

[3] رواه ابن حزم عنه في الإحكام (6/225).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply