بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذِي الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك العلاّم، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيّد الأنام، اللهمَّ صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الدهور والأعوام.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله - عز وجل -، فبِها تتحقَّق الخيراتُ وتحصل المسرَّات وتندفع الكُرُبات.
عبادَ الله: يُطلّ على الأمّة الإسلاميّة مواسمُ عظيمة، وتحلّ بهم أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرها أجرًا، روى ابن عبّاس - رضي الله عنهما - عن النبيِّ أنّه قال: ((ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) رواه البخاري[1]، وعند البيهقيّ: ((ما عملٌ أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خيرٍ, يعمَله في عشر الأضحى))[2]، وروى البزّار في مسنده عن النبيّ أنه قال: ((أفضلُ أيّام الدّنيا العشر)) يعني عشرَ ذي الحجّة الحديث[3].
قال ابن حجر - رحمه الله -: "والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها" انتهى[4].
أيّامٌ يفِد المسلمون فيها إلى حجّ بيتِ الله الحرام، وقد وعَدَهم بالخير العظيمِ والثّواب الجزيل، قال: ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدَته أمٌّه)) متفق عليه[5]، ويقول: ((تابِعوا بين الحجِّ والعمرةº فإنّهما ينفيان الفقر والذنوبَ كما ينفي الكير خَبثَ الحديدِ والذّهب والفضَّة، وليس للحجّة المبرورةِ ثوابٌ إلاّ الجنّة)) رواه الترمذيّ والنسائي وسنده صحيح[6]، وفي الصحيحين: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجٌّ المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنة))[7].
معاشرَ المسلمين، وهذه الأيّام الفاضلةُ يُشرع صومها، ويتأكّد فضلُه فيها، قالت حفصة - رضي الله عنها -: أربعٌ لم يكن يدَعهُنّ رسول الله: صيامُ يوم عاشوراء والعشرِ وثلاثةِ أيّام من كلّ شهر وركتا الفجر. [أخرجه أحمد وفيه مجهول وباقي رجاله ثقات[8]].
وعند أبي داود والنسائيّ عن بعض نساء النبي وفيه أنّه كان يصوم تسعَ ذي الحجة[9].
قال النوويّ - رحمه الله -: "فليس في صومِ هذه التسعة ـ يعني تسع ذي الحجّة ـ كراهةٌ شديدة، بل هي مستحبّة استحبابًا شديدًا" انتهى[10].
وأمّا ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - وعن أبيها أنّها قالت: ما رأيتُه ـ أي: [النبي] ـ صائمًا في العشر قطّ، أخرجه مسلم[11]، فقال ابنُ القيّم - رحمه الله - بعد أن أوردَ هذه المسألةَ: "والمثبِت مقدَّمٌ على النّافي إن صحّ"[12]، وقال ابن حجَر بعد أن ذكر فضلَ الصومِ في هذه العشر: "ولا يرِد على ذلك حديثُ عائشةَ لاحتِمال أن يكونَ ذلك لكونِه ـ وهو الرحيم المشفِق ـ كان يترك العمَلَ وهو يحبّ أن يعمَلَه خشيةَ أن يُفرَضَ على أمّته" انتهى[13]، ويقول النوويّ - رحمه الله -: "فيُتأوَّل قولُها ـ أي: عائشة ـ: لم يصُمِ العشرَ أنّه لم يصمه لعارضِ مرضٍ, أو سفَر أو غيرهما، أو أنّها لم ترَه صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدمُ صيامِه في نفس الأمر" انتهى[14].
معاشرَ المسلمين، وفي خصائِص هذه العشر فضيلةُ الإكثار من التهليل والتكبيرِ والتحميد، أخرجَ الطبرانيّ في الكبير بإسنادٍ, جيّد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ((ما مِن أيّام أعظمُ عند الله ولا أحبّ إلى الله العملُ فيهنّ من أيّام العشر، فأكثِروا فيهنّ من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)) [15]، قال البخاريّ في صحيحه: "كان ابن عمر وأبو هريرة - رضي الله عنهما - يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" انتهى[16].
والتكبيرُ ـ عبادَ الله ـ عند أهلِ العلم مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات في الليل والنهار من مدّة العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ فرضِها ونفلِها على الصّحيح، للرّجال والنّساء.
وأصحٌّ ما ورد في وصفِه ـ أي: التكبير المقيّد ـ ما ورَد مِن قولِ عليّ وابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّه مِن صُبح يومِ عرفة إلى العصرِ من آخر أيّام التشريق. أخرجه ابن المنذر وغيره[17]. وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر.
وأصحٌّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبد الرزاق بسندٍ, صحيح عن سلمان - رضي الله عنه - قال: (كبّروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا) [18]، وصحّ عن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - صيغة: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)[19].
أيّها المسلمون، المغبونُ من انصرَف عن طاعة الله لا سيّما في هذه الأيام، والمحروم من حُرم رحمةَ الله - جل وعلا -، المأسوفُ عليه من فاتت عليه هذه الفُرَص وفرَّط في هذا الفضل. فيا ويحَ من أدرك هذه الأيامَ ثمّ لم يغتنِمها، والويلُ لمَن أمضاها في سيِّئ الأخلاق وقطعَها في المعاصي والآثام، فيا خسارةَ مَن دعَته دواعي الخير فأعرض عنها.
فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيٌّكم يروي عن ربِّه - عز وجل - قوله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)) [20].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فهي وصيّتُه اللاّزمة وفرضُه المتَحتِّم.
عبادَ الله، مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّب بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام هذه الأيام الأضاحي، فمَن أراد أن يضحّيَ عن نفسه أو أهلِ بيته ودخل شهرُ ذي الحِجّة فإنّه يحرُم عليه أن يأخذَ مِن شعره وأظفاره أو جِلده حتّى يذبحَ أضحيتَه، لِما روته أمّ سلمة عن النبيّ أنّه قال: ((إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجة وأرادَ أحدكم أن يضحّيَ فلا يأخذ من شعرِه وأظفاره شيئًا حتى يضحّي)) رواه مسلم[21].
ثمّ إنّ الله - جل وعلا - أمرنا بأمر عظيمٍ, تزكو به حياتنا وتطيب به قلوبُنا، ألا وهو الصّلاة والسّلام على النبيّ المصطفى.
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .
----------------------------------------
[1] صحيح البخاري: كتاب العيدين (969) نحوه.
[2] شعب الإيمان (3/354) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأخرجه أيضا الدارمي في كتاب الصوم (1774)، وحسن سنده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1148).
[3] عزاه المنذري في الترغيب (2/127) للبزار عن جابر - رضي الله عنه - وحسن إسناده، وتبعه الهيثمي في المجمع (4/17)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1150).
[4] فتح الباري (2/460).
[5] أخرجه البخاري في الحج (1521، 1820)، ومسلم في الحج (1350) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وليس عندهما قوله: ((من ذنوبه)).
[6] سنن الترمذي: كتاب الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، سنن النسائي: كتاب الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو عند أحمد (1/387)، وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1200). وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وعامر بن ربيعة - رضي الله عنهم -.
[7] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[8] مسند أحمد (6/287)، وأخرجه أيضا النسائي في الصيام (2416)، وأبو يعلى (7041، 7048، 7049)، وابن حبان (6422) والطبراني في الكبير (23/205، 216)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/105، 246، 12/364)، وضعفه الألباني في الإرواء (954).
[9] سنن أبي داود: كتاب الصوم (2437)، سنن النسائي: كتاب الصيام (2372، 2417، 2418)، وهو عند أحمد (5/271، 6/288، 423)، وأعله الزيلعي في نصب الراية (2/157) بالاضطراب، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2129).
[10] شرح صحيح مسلم (8/71).
[11] صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف (1176).
[12] زاد المعاد (2/66).
[13] فتح الباري (2/460).
[14] شرح صحيح مسلم (8/71-72).
[15] المعجم الكبير (11/82)، قال المنذري في الترغيب (2/127): "إسناده جيد"، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح"، وفي ذلك نظر فإن فيه يزيد بن أبي زياد متكلم في حفظه، وفي السند أيضا اختلاف، ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (733).
[16] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، والأثر وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
[17] الأوسط (2209، 2210)، وأخرجهما أيضا ابن أبي شيبة في المصنف (1/488، 489)، قال الحاكم في المستدرك (1/439): "أما من فعل عمر وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود فصحيح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق"، ثم ساق أسانيده إليهم (1112، 1113، 1114، 1115) على الترتيب. وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (3/313-315).
[18] جامع معمر (11/295 ـ المصنف ـ)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في الكبرى (3/316)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/462).
[19] أثر عمر - رضي الله عنه - أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2207). وأما أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - فأخرجه ابن أبي شيبة (1/488، 490)، وابن المنذر في الأوسط (2208)، والطبراني في الكبير (9/307)، وحسن إسناده الزيلعي في نصب الراية (2/224).
[20] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر - رضي الله عنه -.
[21] صحيح مسلم:كتاب الأضاحي (1977).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد