الانتحار وطرق الوقاية

22
2 دقائق
17 جمادى الثاني 1447 (08-12-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

بين فطرتنا التي تدفعنا إلى البقاء، وتلك الهاوية التي تسحبنا نحو الفناء، تقف النفس البشرية في حيرة وجودية عميقة. فالإنسان يحمل في أعماقه نداءين متعارضين: نداء الحياة بكل ما فيها من أمل ومعاناة، ونداء العدم حين تتحول الحياة إلى عبء لا يُحتمل.

لطالما كانت غريزة البقاء هي القوة الدافعة في كينونتنا، فهي التي تجعلنا نبحث عن الطعام عندما نجوع، وندافع عن أنفسنا عندما نتعرض للخطر، ونتعلق بالأمل عندما تحيط بنا الظلمات. لكن هذه الغريزة قد تتعطل أحيانًا، فتتكشف عن نزعة مظلمة كامنة في الأعماق، تدفع بالإنسان نحو تدمير ذاته، وكأنما هناك قوة معاكسة تسعى للعودة إلى السكون.

المنتحر لا يكره الحياة في جوهرها، وإنما يئس من إمكانية عيشها بشكل يليق بإنسانيته. هو يشبه من يسقط في بئر مظلم، لا يرى فيه أي بصيص نور، فيظن أن الموت هو الحبل الوحيد الذي يمكن أن يتشبث به. إنه هروب من ألم أصبح لا يُطاق، أكثر منه رغبة في الفناء ذاته.

وفي مجتمعاتنا العربية، أصبحت ظاهرة الانتحار تطل برأسها بشكل مقلق، خاصة في المجتمعات التي أنهكتها الحروب والأزمات الاقتصادية. فالحرب لا تدمر البنى التحتية فحسب، بل تدمر النفوس أيضًا، وتُفقد الإنسان إحساسه بالأمان والمعنى، وتجعله فريسة سهلة لليأس والقنوط.

لكننا بدلًا من أن نتعاطف مع هؤلاء المنكسرين، نسرع بإصدار الأحكام، ونختبئ وراء فتاوى التحريم، وكأن ذكر الحكم الشرعي يكفي لردع من وصل إلى حافة الهاوية. إن التحريم واضح لا لبس فيه، لكن المعرفة المجردة بالحكم لا تمنع السقوط حين تنهار كل سبل المقاومة.

يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (سورة البلد: 4)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" (رواه مسلم). هذه المعاني تحتاج إلى تأصيل في النفوس، وتربية على فهم حقيقة الدنيا ومتاعبها.

المجتمع عليه دور لا ينبغي التغافل عنه. فعلينا أن نتعلم قراءة علامات التحذير: ذلك الشخص الذي انعزل فجأة، أو أصبح يتكلم عن الموت بطريقة مقلقة، أو فقد اهتمامه بكل ما كان يسرّه في الماضي. هذه ليست مجرد أعراض عابرة، بل صرخات استغاثة صامتة.

إن التهديد بالانتحار ليس مجرد لفتة للانتباه في معظم الأحيان، بل هو مؤشر خطير على أن الإنسان قد وصل إلى نقطة الانهيار. وإهمال هذه الإشارات قد يكون ثمنه فقدان حياة إنسان كان يمكن إنقاذه.

الانتحار ليس جبنًا كما يظن البعض، بل هو تعبير عن ألم لم يجد من يستمع له، عن فراغ وجودي لم يجد من يملأه. والأكثر إيلامًا حين يترك المنتحر رسالة يقول فيها: *حاولت أن أقول لكم أنني أعاني، لكن أحدًا لم يصغِ*.

لو أننا نتعلم فن الإصغاء الحقيقي، لربما أنقذنا أرواحًا كثيرة. الإصغاء بقلب مفتوح، دون أحكام مسبقة، دون استعجال. الإصغاء الذي يجعل الإنسان يشعر أنه ليس وحيدًا في معركته.

إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب منا أكثر من التحريم والتوبيخ، بل تحتاج إلى فهم عمق الأزمة الإنسانية التي تدفع إنسانًا إلى أن يقدم على إنهاء حياته بيده. إنها دعوة للتعاطف الحقيقي، والتضامن الإنساني، وبناء مجتمع يكون فيه الألم مسموحًا بالتعبير عنه، والدعم متاحًا لمن يحتاجه.

فالروح الإنسانية أثمن من أن تترك فريسة لليأس، والحياة أغلى من أن نهدرها دون محاولة جادة للإنقاذ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق