من مصابيح الهدى

10
4 دقائق
17 جمادى الثاني 1447 (08-12-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

"إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هاادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".

ما أروع هذه الكلمات، وما أعظم وقعها في النفس، من منا لم يسمع هذه الديباجة الرائقة أثناء خطبة جمعة، أو أثناء محاضرة أو قرأها مقدمة لكتاب أو بحث،إنها من جوامع الكلم للحبيب المصطفى ، ومن مظاهر عظمته، ودلائل نبوته، فهو الفصيح اللسان، البليغ القول، تسمى هذه الديباجة بخطبة الحاجة.

ولهذا المطلع البديع قصة تحمل في طياتها جميل العبر والدروس، إنها قصة (ضماد بن ثعلبة الأزدي).

من هو ضماد بن ثعلبة رضي الله عنه؟ وماهي قصته؟

ضماد بن ثعلبة يمني من أزد شنوءة، رجل عاقل لبيب سيد في قومه، كان يرقي من الجن، ويتطبَّب، يعني حسب التعبير الحديث فهو يمارس مهنة الطب.

قدم مكة، فسمع كفار قريش وسفاءهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مصاب بالمس، وينسبون إلى ما جاء به من الهدى والحق بالجنون. وحاشاه صلى الله عليه وسلم

رق له ضماد، فقال في نفسه: لو أني أتيت هذا الرجل لعل الله، أن يشفيه على يديَّ.

في أحد أزقة مكة كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي وغلمان سفهاء يتبعونه غير آبه بهم، تقدم ضماد إليه ليعرض عليه العلاج.

لم يخاطب ضماد النبي محمد بالسفيه لاعتقاده أن النبي مريض يحتاج إلى علاج.

قال: يا محمد! إني أرقي من هذه الريح (الجنون) وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك ذلك؟

من أدب ضماد أنه نسب الشفاء لله وهذا يدل على بقية باقية على سلامة فطرته.

تعلو محيا الحبيب صلى الله عليه وسلم ابتسامة صدق وتفاؤل لتزيده مهابة ووقارا، لم يوبخه، ولم ينهره، ولم يصرخ في وجهه بل وجدها فرصة سانحة ليعرض عليه دعوته، ويلقي البذرة، لقد لمس فيه سلامة الفطرة ونقاء السريرة وانفتاح مجسات القلب لاستقبال الهداية.

نطق النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى، كأن حبات لؤلؤ تتناثر من فيه، وضماد ينصت.

قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".

اهتزت أركان ضماد، تحرك قال في نفسه: هل هذا كلام إنسان مجنون؟ غير ممكن.كلا ورب الكعبة… أشار بيده إلى رسول الله أن توقف، لامست الكلمات الأعماق…قال بلهفة وشوق بالغَيْن، وبقلب نابض بالحياة: أعد علي كلماتك.

يالِحِلم النبي صلى الله عليه وسلم وجميل صبره: أعاد الكلام ثلاث مرات. وضماد يسمع- يركز- يفكر- ويتدبر.

قال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء.فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء.ولقد بلغتْ ناعوس البحر(وسطه).

●دون تردد ولا خوف- سمع الكلام - فهم الكلام - تدبر الكلام… لم يجادل لم يتفلسف ولم يطلب وقتا لينظر في الأمر… عزم وقرر.

ثواني قليلة، أبحرت به تلك الكلمات من شاطىء الشرك والظلمات إلى شاطىء التوحيد والنور الذي أبصر به الحق. في وقفة قصيرة - فهم معنى الحمد لله - فهم معنى الاستعانة - أدرك معاني الاستغفار…ومعنى الهداية.

إنها اللحظة الفارقة أتخيل خلالها أنه حمد الله، وربما فاضت عيناه.

وربما قال في نفسه: ما أعظم هذا الإله الذي يدعو إليه محمد، لقد رتب هذا اللقاء الرائع، ليأخذ بيدي من جحيم الضلال،ويحررني من أغلال الشرك إلى نعيم الهداية والرشاد.

الله أكبر. الله أكبر. الأمر لا يحتاج إلى انتظار وتفكير لقد انحرفت بوصلة حياته مائة وثمانين درجة. وتغيرت جهة المسار.

قال: هات يدك أبايعك على الإسلام…

مد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بحب يده فبايعه على الإسلام… نطق ضماد الشهادة…ليسجل اسمه في سجل الخالدين…

قال صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك؟ أي تبايعني على الإسلام عنك وعن قومك؟

أمانة عظيمة ألقيت على عاتقه، أمانة إنقاذ قومه من الضلال، إنها مسؤولية التبليغ.

أجاب ضماد بثقة المؤمن القوي العزيز: نعم وعلى قومي.

ما أعظم بركة هذا الرجل الراجح اللبيب رضي الله عنه على نفسه وعلى قومه. إنه نور الإيمان عندما يلامس شغاف القلب يصنع المعجزات، و يتمنى صاحب هذا القلب نثرالنور المشع في جنباته على أهله وقرابته، والناس أجمعين.

إنها رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم وبركته على العالمين.

ماذا عني وعنك؟

كم مرة سمعنا هذه الديباجة أو قرأناها؟…طبعا الكثير من المرات .

كيف كان وقعها على أنفسنا؟…. عادي كلام يمر على مسامعنا.

نكرر أيات الله تعالى في صلواتنا ولا نتأثر بكلام ربنا.

لقد تعطلت الوظيفة الحقيقية لحواسنا، إنَّ على الآذان وقرا تمنعها من السماع، وعلى الأبصار غشاوة تجعلها لا تبصر، و على البصيرة حجاب سميك تحجزها عن إدراك الأمور بعمق ووعي .

يعيش الواحد منا دهرا من عمره لا يستجيب لأمر، ولا يقبل نهيا بحجة عدم الاقتناع وهو يدَّعي أنه مسلم، يصلي الصلوات، ويصومرمضان، ويحج، ووو… لكنها للأسف طقوس مجردة من الروح.

لقد حُق علينا قول ربنا جل في علاه: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ﴾ البقرة:17، وقوله نعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ سورة البقرة: 19.

إن السر الذي جعل الصحابي الجليل ضماد رضي الله عنه يتأثر ويتغير ويُأثر، هو: سلامة فطرته، ونقاء سريرته، مَلك فَهْما عميقا لمعاني الإسلام الكبرى معاني حمد الله معاني الاستغفار ومعانى الافتقار الشديد إلى الله وبالتالي الاستعانة الصادقة به وفهم معانى الهداية لأن حاجة العبد لها أمر ضروري، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَى سُؤَالِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ فِي سَعَادَتِهِ وَنَجَاتِهِ وَفَلَاحِهِ).

هذه الحقائق استوعبها عقل ضماد في قِفَة قصيرة المدى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فامتزجت بدمه، فكانت الوقود المحرك له، وانطلق دون تفلسف ولا جدال للوظيفة السامية: وظيفة التبليغ.

إنه من مصابيح الهدى رضوان الله عليهم، أولئك الذين حملوا نور الإسلام إلى أصقاع الأرض، جيل الخيرية السامق الذي بنى حضارة سادت الدنيا بمعاني الدين الخالدة.

إن الزمن الذي نعيشه، حيث البعد بيننا وبين كتاب الله بائن بينونة واضحة، والعلاقة التي تربطنا برسولنا هشة ضعيفة، و قد ران على القلوب الزيغ والانحراف، وارتمى الكثير في أحضان عبودية الشهوات والهوى والمادة، وانساق البعض وراء لعنة الالحاد والشيطنة المتنوعة، يجعل حاجتنا ماسة إلى ذكاء ضماد، وفطنته، وسرعة تلقيه، وسرعة استجابته، ولهفته لأداء ما وكِّلَ إليه، وإن استحضار سيرهم الفريدة كنماذج حية وقدوات في واقعنا للتأسي بها، كفيلة لإحداث هزة في النفوس، وتغيير شامل، وماذلك على الله بعزيز.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق