وقفات من آيات الصيام


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي اختص شهر رمضان بفضيلة الصيام من بين سائر الشهور، وفتح فيه أبواب الجنان بما فيها من السرور والحبور، وكملها بأنواع الكرامات، وهيأها لكل موحد شكور، وأغلق فيه أبواب النيران، وأعدها لكل مشرك كفور، وسلسل فيه مردة الشياطين فكل منهم مسلسل مأسور، ووفق بعض عباده باستغلال هذا الشهر، وكف عن قلوبهم الحجب والستور، فنصبوا في خدمته الأقدام، ولازموا الصيام والقيام، وأنصبوا الأبدان، وبادروا الوقت والزمان، وهرم آخرين فحرموا الأنس بالرحمن، وابعدوا عن التدبر لكلام الواحد الديان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفرح بتوبة التائبين، ويقبل دعاء الداعين، ويحب من عباده المخبتين المنيبين المفكرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أمره ربه فأجاب، ونهاه فما خالف نهيه وما ارتاب، وأخبت إلى ربه وأناب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أحيوا أيام رمضان بتلاوة القرآن، وبالتهجد والقيام، علموا أنها أيام، فعمروها بطاعة الحي الذي لا ينام، فرضي الله عنهم وأرضاهم (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنهم وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم)..  أما بعد:

 

فيا معاشر المسلمين فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -، فقد قال الله - تعالى - في سورة البقرة في آيات الصيام (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)....

 

فدعونا نتأمل في هذه الآيات العظيمات، ونجول في معانيها، ونأخذ الدروس منها..

 

أيها الأخوة:

 

الوقفة الأولى: - إن الناظر في آيات الصيام في هذه السورة، يجد ولأول وهلة، أن التعقيب بقوله - تعالى - (لعلكم تتقون)، قد تكرر في أكثر من مرة.. فقال - سبحانه - (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وقال - تعالى - (تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون).. بينما غيره من التعقيبات لم تتكرر، بل أن التعقيبات الأخرى لتصب في معنى التقوى وفي معانيها، فجاء لعلكم تشكرون، لعلهم يرشدون، وهذه وتلك لولا التقوى ما شكر العبد وما رشد..

 

فما الحكمة من تكرار لفظ التقوى ههنا؟؟

 

أيها الأخوة: إن تكرار التقوى في ثنايا آيات الصيام، لأن الصوم من أعظم العبادات الجالبة للتقوى، فالذي يهجر الطعام والشراب، ويترك الاستمتاع بأهله، لله - عز وجل - وتقرباً إليه، فسوف يُوهب التقوى ويوفق إليها، ولذلك يقول الله - عز وجل - في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي)..

 

فأعظم مقاصد الصوم هي التقوى الجالبة لكل خير، الصارفة عن كل شر.. فحين نهاك الله عن الأكل والشرب مدة صومك والأكل والشرب مباح لك في الأصل، لتعتاد نفسك على ترك الحرام، فالذي قدر أن يمنع نفسه من المباح، لهو أقدر أن يمنعها من الحرام، وهذا سر من أسرار التقوى الجالب للتقوى!!

 

وأما الذين لا يفهمون من الصوم إلا ترك الطعام والشراب، فهؤلاء ما فهموا حقيقة الصيام عن الله شيء، ولا انتفعوا بالصيام، ولذا فأنت تجد أحدهم يمسك عن الطعام والشراب، ولكن قد أفطر لسانه بالحرام، ونطق بالحرام، وأفطرت عينه بالنظر إلى الحرام، وأفطر سمعه على سماع الحرام، ولأمثال هؤلاء يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.

 

وقول الزور كل قول باطل من الغيبة والنميمة، والسب والشتم، وكل قول باطل، والعمل به كل باطل يعمل، ولذلك أيها الأخوة: فقد ذكر أهل العلم في مفطرات الصائم أنها على نوعين: حسية، ومعنوية، أما الحسية كالأكل والشرب والجماع وغير ذلك.. أما المعنوية فكالغيبة والنميمة وقول الزور والعمل به، فإن أجر الصائم ينقص بحسب ما ألم به من الزور والعمل به، فبعض الصائمين تستغرق ذنوبه أجر صومه كله، فلا يكون له من صومه إلا الجوع والعطش، أعاذنا الله وإياكم من الزور وأهله..

 

أيها الأخوة: ومن معاني التقوى التعود على شظف العيش، وترك ملاذ الحياة، والإقلال منها، وليحس المسلمون الصائمون بأن لهم إخواناً يعيشون الصيام طيلة عامهم، فلا يجدون الطعام والشراب الذي يكفيهم من شدة الخصاصة والفقر، ليبذلوا المال بعد ذلك سخية ببذله نفوسهم..

 

 أيها الأخوة..

 

(الوقفة الثانية): وقال - تعالى - (أياماً معدودات) فمن رحمة الله بعباده أن جعل الصيام أياماً معدودات، فليس فريضة العمر، وتكليف الدهر، ومع هذا أعفى من أدائه المرضى حتى يصحوا، والمسافرين حتى يقيموا، رحمة وتيسيرا..

 

أياماً معدودات، (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر)، وأيضاً فثمة أمر جليل تؤديه هذه الآية فقد قال - تعالى -وهو أعلم بمن خلق، قال عن أيام رمضان (أياماً معدودات) لأنها سريعة التقضي، سريعة الأفول، فحري بعبد يرجوا ما عند الله ألا تفوته هذه الأيام القليلة، باستغلالها بطاعة الله - عز وجل -، فقد جاء في الصحيحين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ويقول (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ويقول (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) رواه أهل السنن بإسناد صحيح..

 

فلا يفوتك هذا الفضل العظيم، والعطاء الجسيم، فبمجرد قيامك مع الإمام ساعة أو أقل تكتب عند الله قائماً لليل كله، فمن يزهد في هذا العطاء الإلهي والمنحة الربانية..

 

أيها الأخوة:

 

الوقفة الثالثة: - قال - تعالى - في ثنايا آيات الصيام (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان... ).. فرمضان شهر القرآن وكان السلف - رحمهم الله - إذا أقبل رمضان أقبلوا على القرآن، وتركوا كتب أهل العلم..، قال الزهري - رحمه الله - إذا دخل رمضان يقول (إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام)، وكان مالك - رحمه الله - إذا دخل رمضان، ترك قراءة الحديث ومجالس العلم، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف، وكان قبلهم المعلم الأول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدارس جبريل القرآن في كل رمضان، فيعرض عليه، حتى إذا كان سنة وفاته - عليه الصلاة والسلام - عرض عليه مرتين، فما أحوجنا أيها الإخوة لهذا القرآن العظيم، وخاصة في هذا الشهر الكريم، فأكثروا فيه من تلاوة القرآن وتأمل معانيه وتدبره والعمل به..

 

آيات من القرآن يلين بها ما قسى من القلوب، وسيشهد بها ما جف من المآقي، فوا عجباً لنفوس لا تستعذب تلاوة كلام الله ولا ترق لكلام الله، ولا تلين جلودها وقلوبها لكلام الله، لقد أثنى الله على عباده المؤمنين فقال (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) نعم.. هذا توفيق وهداية لا يوفق إليها كل واحد.. (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) ووا عجباً من قلوب كيف تعيش وليس لها ورد من كتاب الله، وواعجباً من قلوب ما أقساها وهي لا تحرك قلوبها بتلاوة كلام الله، لقد عاتب الله الصحابة وهم حدثاء عهد بإسلام، فقال (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق )

 

فحرب بك أخي المسلم أن تجعل لك ورداً من كتاب الله تتأمل فيه، وتتلوه تحرك به قلبك، وتدر به دمعك، وتغير به حياتك، ولا يكن همك آخر السورة بل اتلوا بتمعن وتدبر..

 

الوقفة الرابعة..

أيها الأخوة: ومما جاء في آيات الصيام.. قال - تعالى -(فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فعلى كل من أدرك شهر رمضان وهو قادر على صومه فواجب عليه الصوم، فيمسك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، متعبداً لله - عز وجل - بذلك، فمن تناول شيئا من المفطرات مختاراً غير مكره، ذاكراً غير ناسٍ,، عالماً غير جاهل، لم يصح صومه..

 

أما المريض فإن كان مرض يرجى برؤه وشفاءه، فهذا يفطر مدة مرضه ويقضي مكان الأيام التي أفطرها، وإن كان مرضه لا يرجى شفاءه فهذا يطعم عن كل يوم مسكين، لكل مسكين نصف صاع أي: كيلو ونصف من الأرز ونحوه، أو إن شاء جمع فقراء بعدد الأيام التي أفطرها وأطعمهم، فإن ذلك يجزئه..

 

وأما المسافر فإن كان الصوم لا يشق عليه فالصوم أولى إبراء للذمة، وأما إن كان يشق عليه الصوم أو يضره، فإنه يجب عليه الفطر..

 

واعلموا أيها الإخوة.. أن المريض الذي يضره الصوم لا يجوز له الصوم، والصوم في حقه حرام، فإذا قرر الأطباء أن هذا المريض يضره الصوم، فلا يجوز له الصوم بل يطعم ولا شيء عليه، ومن يغسل الكلى فهؤلاء لا صوم لهم، ولا يصح منهم حال غسيلهم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أفطر الحاجم والمحجوم)، وغسيل الكلى إخراج للدم من البدن، فإن كان يستطيع الصوم في أيام التي لا يغسل فيها صامها، وقضى مكان الأيام التي أفطرها، وإن كان لا يطيق الصوم فإنه يطعم عن كل يوم مسكين..

 

واعلموا أيها الإخوة.. أنه كل ما كان في معنى الأكل والشرب، كحقن الدم، والإبر المغذية فإنها مفطرة لأنها تقوم مقام الأكل والشرب من حيث استغناء الجسم بها.. ومن أراد البسط في هذا فليرجع لكتب أهل العلم، وليسأل عما أشكل عليه..

 

الوقفة الخامسة: قال - تعالى - (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) لقد جاءت هذه الآية في ثنايا آيات الصيام، يا لها من آية عجيبة ـ آية تسكب في قلب المؤمن النداوة والطمأنينة، والراحة والأنس، فللصيام أثر في إجابة الدعوات، فاعرضوا حاجاتكم على مولاكم وخالقكم، اعرضوا عليه سؤالكم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (إن الله - تعالى -ليستحي من أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيها خيرا فيردهما خائبتين)..

 

يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ما من مسلم يدعوا بدعوة ليست بإثم ولا قطيعة رحم إلا كان له إحدى ثلاث، إما أن يستجيب الله له، أو أن يصرف عنه السوء مثلها وإما أن يدخرها له يوم القيامة)، فقال الصحابة يا رسول الله إذا نكثر؟ فقال (الله أكثر)..

 

تقبل الله منا صيامنا وقيامنا، اللهم أعنا على القيام بطاعتك في هذا الشهر الكريم، واجعلنا من المقبولين، ومن المعتوقين من النار..

 

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم.....

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه....

 

الوقفة السادسة: قال - تعالى - بعد ما ذكر فرض الصوم على عباده، وإنه وضعه عن المسافر والمريض، قال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، إنها القاعدة الثابتة الراسخة في كل ما فرض الله علينا، فليس فيما فرض الله علينا أراده علينا به العسر.. كلا، فلقد أراد بنا اليسر يوم أن فرض علينا الصلاة، فجعلها خمس صلوات في اليوم والليلة، ولم يجعلها خمسين صلاة، وأراد بنا اليسر يوم أن فرض علينا الزكاة، فجعلها في جزء بسيط من المال، وهي مع ذلك تزكية وتنمية، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم افترض علينا الصيام، فقد جعله شهراً في السنة، وخفف على المسافر والمريض، وجعل الصوم مدة النهار، ويعود الصائم في ليلة كأيام فطره فيباح له كل شيء مما أباحه الله - عز وجل -..

 

ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن فرض علينا الحج، فهو واجب في العمر مرة، ولمن استطاع إليه سبيلا، ولم يكلف العباد ما لا يطيقون في ذلك، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن فرض علينا الجهاد في سبيله، فالجهاد مشقة ما في ذلك شك، كما قال - تعالى -(كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، فالجهاد مشقة على النفوس، مشقة على الأبدان، لكن من وراءه عز للإسلام، وتمكين للمسلمين، وحماية بيضة المسلمين، وحفظ أعراضهم، وإرغام الكافر المنتفش، وإصغار الباطل المسيطر، فمن هنا فالجهاد يسير..

 

ويوم أن تركت الأمة الجهاد في سبيل الله واعتبرته تطرفاً حاق عليها الذل والصغار، فكانت تنشد من وراء ذلك اليسر، فإذا هي واقفة في العسر، إنما اليسر في إمضاء ما أمضاه الله، وتطبيق ما أمر الله به، فبهذا يتحقق اليسر، (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)..

 

ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن أمر المرأة أن تتحجب عن الرجال، ولا تبدي زينتها، ولا يظهر منها شيء للرجال الأجانب، وليس هذا من العنت الذي فرض الله علينا، وها نحن نرى البلدان الغربية يوم أن أخرجوا المرأة عن مكانها الذي جعله الله لها، جروا ويلات لا تحصى، وأصبحوا يعانون من مشاكل اجتماعية، تخالف الفطرة السليمة، فقبل أيام أجري حوار عبر الإذاعة لعلاج ظاهرة، ويستقبل البرنامج اتصالات المتابعين، أتدرون أيها الإخوة ما موضوع الحوار؟؟ إنه موضوع لا يدور في خاطر (أحد) إلا من عاش واقع مساواة المرأة بالرجال، وكانت المرأة فيه لها ما للرجال تماماً، ولم يراعوا أنوثتها، والله يقول (وليس الذكر كالأنثى)، إن موضوع الحوار أيها الإخوة عن ظاهرة بدأت تظهر وتستشري عندهم، وهي ظاهرة (ضرب المرأة للرجل)، وكانت هذه الإذاعة تستقبل اتصالات المستمعين، ويقترحون حلولاً لهذه الظاهرة!! وهذا خلاف الفطرة، ولكن لما أن ترك الناس أمر الله جرى عليهم العسر، وقد كانوا يظنون أنهم يطلبون اليسر، فليس عسر على المرأة أن تكون تحت عناية الرجال، وتحت ولايتهم، أما الذين يريدون أن تستقل المرأة بكل شيء، ومن ذلك البطاقة الرسمية، فهؤلاء ما أرادوا لها اليسر، إنما حملوها مشاقة ما هي بحاجتها، فأي عسر في أن تكون المرأة مخدومة مكفية عن كل عناء، محفوظة عن كل عين أجنبية، إن هذا لهو عين اليسر (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply