بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله - تعالى -حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلَّ جلاله: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنهُم مّن رّزقٍ, وَمَا أُرِيدُ أَن يُطعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ) [الذاريات: 56-58]. فأخبرَنا - تعالى -أنّه الرزّاق لعباده، المتكفِّل برزقهم، فرزقُ العبادِ جميعًا بيد ربِّهم - تعالى -وتقدّس، لا بحولهم ولا بقوّتهم، فهو - جل وعلا - خلق الخلقَ وتكفَّل بأرزاقهم: (وَمَا مِن دَابَّةٍ, فِي الأرضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزقُهَا وَيَعلَمُ مُستَقَرَّهَا وَمُستَودَعَهَا كُلُّ فِى كِتَابٍ, مٌّبِينٍ, [هود: 6]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ, لاَّ تَحمِلُ رِزقَهَا اللَّهُ يَرزُقُهَا وَإِيَّاكُم ) [العنكبوت: 60].
وقد أمَرَنا – تعالى –أن نطلبَ الرزقَ منه: ( فَابتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرّزقَ وَاعبُدُوهُ وَاشكُرُوا لَهُ )[العنكبوت: 17].
والعبدُ يعلّق بالله أملَه، وثقتُه فيما عند الله أعظمُ من ثقتِه فيما بيده، فهو لا يؤمِّل في المخلوق، مهما علت منزلته وعظُمت قدرته، لا يعلِّق أملَه بأحدٍ, من الخلق، وإنما يعلِّق أملَه بربّه، ويعلم أنّه لا مانعَ لما أعطى الله، ولا معطيَ لما منع الله، ولِذا في الأثرِ عن ابن عباس: (إنّ من ضعفِ اليقين أن تُرضيَ الناسَ بسخطِ الله، وأن تحمَدَهم على رزقِ الله، وأن تذمَّهم على ما لم يؤتك الله، إنّ رزقَ الله لا يجرّه حرصُ حريص، ولا يردّه كراهيةُ كاره)[1].
فما قدّر الله لك من الرّزق فإنّه حاصلٌ لك، وما صرفه عنك فلن تنالَه، والخلقُ لو اجتمَعوا على أن يوصِلوا إليك نفعًا ما أراد الله حصولَه لك لم يمكِن ذلك، ولو أرادوا أن يضرّوك بشيء ما قدّر الله ذلك فلن يستطيعوا لذلك سبيلاً.
أيّها المسلم، تفكّر في حِكمة الله أن جعَل البعضَ أغنياء والبعضَ فقراء وما بين ذلك، ( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعضَكُم عَلَى بَعضٍ, في الرّزقِ) [النحل: 71]،( قُل إِنَّ رَبّى يَبسُطُ الرّزقَ لِمَن يَشَاء وَيَقدِرُ ) [سبأ: 36].
وهذا مِن كمالِ حكمتِه - جل وعلا -، فهو العليمُ بمصالح عبادِه، المقدِّر لهم كيفَما شاء بكمال حكمته وكمال رحمتِه وكمال عدله، فأيّ أمرٍ, صرِف عنك فاعلم أنّ لله حكمةً في ذلك، وأيّ شيء قدِّر لك فاعلم أنّ لله حكمة في ذلك.
أخي المسلم، فكن راضيًا بما قسَم الله لك، ولا تكن جزِعًا، ولا تكن طامعًا فيما بأيدي الناس، وإنما تكون ثقتُك بربّك - جل وعلا -، وقناعتك بما أعطاكَ الله.
أخي المسلم، والله حكيمٌ عليم في توسيع الرّزق وتضييقِه على بعض العباد، وفي الأثر: ((إنّ من عبادي من لو أغنيتُه لأفسدتُ عليه دينَه، وإنّ من عبادي من لو أفقرتُه لأفسدتُ عليه دينَه))[2]، قال - جل وعلا -: (وَلَو بَسَطَ اللَّهُ الرّزقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا في الأَرضِ وَلَـاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ, مَّا يَشَاء) [الشورى: 27].
أخي المسلم، ليسَ المهمّ أن يكثرَ المال ويتّسِع الغنى، المهمّ أن يجعلَ الله في قلبك قناعةً ورضًا بِقَسم الله، وأن تطمئنَّ نفسك بذلك، فكم من مالٍ, أشغل أهلَه عمّا يجِب عليهم، وصدَّهم حتى عن مصالحِ أنفسهم ومصالح أولادهم، وكم من مالٍ, أشقى أهلَه، فحملهم على الطغيان والأشَر والبطر، وأفقدهم قوّة الإيمان، وجعلهم يشتغلون بالحطام الفاني عمّا فيه خيرُهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم.
أيّها المسلم، تأمّل قولَ النبيّ: ((ليسَ الغِنى عن كثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النّفس))[3]. فمن أغنى الله قلبَه، ورزقه الطمأنينةَ والرضا بما قسَم الله له، وبذل الأسبابَ النافعة، فإنّه يعيش مطمئنًّا قريرَ العين مرتاحَ البال، ومن فقَد ذلك عاشَ في همّ وغمّ ولو اجتمعَت له الدنيا بأسرها.
أخي المسلم، لا تلهيَنَّك الدنيا بزخارفها، ولا تشغلنَّك ملذّاتها. وكن ـ يا أخي المسلم ـ متبصّرًا في أمرك، ناظرًا إلى من هو دونك في الرّزق والعافية، فإنّ نظرَك إلى من هو دونك يعطيك قناعةً بقسم الله، وإن نظرتَ إلى مَن هو أعلى مِنك ازدريتَ نعمةَ الله عليك، كما أخبر بذلك النبيّ [4].
أخي المسلم، ليكن عندَك ميزانُ صدقٍ, تعرف به الحلالَ من الحرام، وتميّز به الخبيثَ من الطيّب، فلا يهولنَّك الحرام وإن كثر،( قُل لاَّ يستوي الخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَو أَعجَبَكَ كَثرَةُ الخَبِيثِ) [المائدة: 100].
أخي المسلم، الله - جل وعلا - أمرك بطلبِ الرّزق، وأمرك بالأخذ بالأسبابِ التي تحصِّل لك المقصود: فَامشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رّزقِهِ وَإِلَيهِ النٌّشُورُ [الملك: 15]، ويقول - جل وعلا -: ( وَءاخَرُونَ يَضرِبُونَ في الأَرضِ يَبتَغُونَ مِن فَضلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَـاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ) [المزمل: 20]، فقرن بينَ الأمرين، بين الضاربين ابتغاءَ فضلِ الله، وبين الساعين في الجهادِ في سبيل الله. فطلبُ الرزق وابتغاؤه والأخذ بالأسباب أمرٌ مطلوب شرعًا، ولكنّ المسلم أسبابُ طلب الرزق عنده بالطّرق التي أباحها الشرع له، أمّا الأسباب المحرّمة فإنّه يبتعِد كلَّ البعد عنها. المسلم يطلب الرزقَ لكن بالطّرق المأذونة شرعًا، ويبتعِد عن الطرق المحرّمة شرعًا.
أخي المسلم، مِن المكاسِب المحرّمة مكاسبُ الربا، فالمؤمن يتّقي الربا بكلّ أحواله، ولا يغرّنَّه أن يكونَ الربا فيه المكاسب العظيمة، فهو يتّقي الله قبلَ كلّ شيء، ويتذكّر قول الله: ( ياأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَا إِن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ فَإِن لَّم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ, مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 278، 279].
أيّها المسلم، المسلم يتّقي المكاسبَ الخبيثةَ كأكل أموالِ النّاس بالباطل من غشّ وتدليسٍ, وخداع وأخذِ مالٍ, بغير حقّ من سرقة جحودِ حقوق واجبة عليه مماطلةٍ, بالحقّ الواجب عليه أداؤه، ولذا يقول الله:(وَلاَ تَأكُلُوا أَموالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مّن أَموَالِ النَّاسِ بِالإثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ [البقرة: 188]، ( ياأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَأكُلُوا أَموالَكُم بَينَكُم بِالبَـاطِلِ) [النساء: 29].
ومِن أكل الباطل أخذُ الرشوة، وقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي[5]، باذلها وآخذها.
ومن أكلِ الحرام والمكاسبِ الخبيثة الاتّجار بالمحرّمات التي حرّمها الشارع، من خمور ومخدّراتٍ, وغير ذلك من كلّ ما حرّم الشارع التعاملَ به، فالمسلم يتّقي التجارةَ المحرمة، ويبتعِد كلّ البعد عنها لتكون مكاسبه طيبة، ((إنّ الله طيب لا يقبَل إلا طيبًا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال - تعالى -: ( ياأَيٌّهَا الرٌّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيّبَـاتِ ) [المؤمنون: 51]، وقال: ( يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقنَـاكُم ) [البقرة: 172]، ثم ذكر رسول الله الرجلَ يطيل السّفرَ أشعث أغبرَ رافعا يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسُه حرام، ومشربه حرام، وغُذِي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟!))[6].
فاتّق الله في مكاسبك، وابتعِد عن كلّ مكسب خبيث، واسلُك الطرقَ التي أذِن الله لك فيها، واطلبِ الرزقَ من الأبواب التي شرع الله لك.
ولهذا المكاسبُ الطيّبة تتمثّل في أمور، فمنها: عملُ الرجل بيدِه، ولذا قال: ((أفضلُ الكسبِ عمل الرّجل بيده، وكلّ بيع مبرور))[7]، ( وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرّبَا ) [البقرة: 275]. فعمل الإنسانِ وما يحصُل له من خيرات من عمله بيده هو أفضل المكاسب وأعلاها، ثم البيعُ المبرور الذي صدَق فيه البائع فلم يكذِب ولم يكتُم.
أيّها المسلم، عملُك بيدك خيرٌ لك من سؤال الناس أعطَوك أم منعوك.
ومن المكاسب الخبيثة أيضًا السؤال من غير حاجة، فلا تزال المسألة بالعبدِ حتى يلقى اللهَ وليسَ في وجهِه مزعةُ لحم[8].
فيا أخي المسلم، اسلك الطرقَ المشروعة والطرقَ النافعة، وابتعِد عن المكاسب الخبيثة، واطلب الرزقَ من أبوابه، وكن قانعًا بما قسم الله لك راضيًا بذلك، واحذَر أن تكونَ كلاًّ وعالة على غيرك، وقد يسّر الله لك الأمر، وهيَّأ لك من قوّة البدَن والفِكر ما تطلُب به الرزق، فإنّ طلبَ الرزق عزّة وكرامة، وسلوك الطريق المشروع عون لك على كلّ خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
--------------------------
[1] لم أقف عليه من كلام ابن عباس، وأخرجه عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا البيهقي في شعب الإيمان (1/221) وأعلّه بمحمد بن مروان السدي، وأبو نعيم في الحلية (5/106) وقال: \"غريب\"، وضعّفه المناوي في فيض القدير (2/539)، وأخرجه بنحوه من حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا البيهقي في شعب الإيمان (1/221-222).
[2] جزء من حديث قدسي، أخرجه من حديث أنس بن مالك ابن أبي الدنيا في الأولياء (9)، وأبو نعيم في الحلية (8/318) وقال: \"غريب من حديث أنس\"، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/44) وضعفه، وأعلّه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (359). وأخرجه من حديث عمر بن الخطاب الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6/14)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/44) وضعفه.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: الغنى غنى النفس (5965)، ومسلم في الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (1741) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[4] أخرجه مسلم في الزهد والرقاق، باب: حدثني زهير بن حرب (2963) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وهو عند البخاري في الرقاق (6490) بمعناه.
[5] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية، باب: في كراهية الرشوة (3580)، والترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي (1337)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة (2313)، وابن الجارود في المنتقى (586)، وقال الترمذي: \"حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[6] أخرجه مسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب (1686) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[7] مدار هذا الحديث على وائل بن داود واختلف عليه فيه: فأخرجه أحمد (3/466)، والطبراني في الكبير (22/197)، والحاكم (2158)، والبيهقي في الكبرى (5/236) وفي الشعب (1226) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة، قال البيهقي: \"هكذا رواه شريك بن عبد الله القاضي وغلط فيه في موضعين، أحدهما: في قوله: جميع بن عمير وإنما هو سعيد بن عمير، والآخر: في وصله وإنما رواه غيره عن وائل مرسلا\". وأخرجه أحمد (4/141)، والبزار (3731)، والطبراني في الكبير (4/276)، والحاكم (2160)، والبيهقي في الشعب (1229) عن المسعودي عن وائل عن عباية عن رافع بن خديج، ونقل البيهقي عن الإمام أحمد قوله: \"رواه المسعودي عن وائل فغلط في إسناده\". وأخرجه البزار (3798) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن عمه البراء، والمحفوظ عن شريك ما تقدم. وأخرجه البيهقي في الشعب (1226) وفي الكبرى (5/263) عن الثوري عن وائل عن سعيد بن عمير عن عمه البراء، وصححه الحاكم (2159)، لكن المحفوظ عن الثوري الإرسال كما سيأتي. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/554) عن أبي معاوية، والبيهقي في الشعب (1225) عن الثوري كلاهما عن سعيد بن عمير مرسلا، قال البيهقي في الكبرى (5/263): \"هذا هو المحفوظ مرسلا\"، ونقل في الشعب عن البخاري قوله: \"أسنده بعضهم وهو خطأ\"، وقال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/443): \"المرسل أشبه\". وللحديث شاهد عن ابن عمر، أخرجه الطبراني في الأوسط (2140)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/391): \"هذا حديث باطل، وقدامة ليس بقوي\"، وقال المنذري في الترغيب (2/334): \"رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات\"، وقال الحافظ في التلخيص (3/3): \"رجاله لا بأس بهم\". وفي الباب أيضا عن علي، أخرجه ابن عدي في الكامل (2/65)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/390): \"هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث\".
[8] كما أخبر بذلك النبي فيما أخرجه البخاري في الزكاة، باب: من سأل الناس تكثرًا (1475)، ومسلم في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس (1040) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله - تعالى -حقَّ التقوى.
عبادَ الله، بركةُ الرزق ليست بكثرتِه، ولكن بركةُ الرزق أمرٌ يجعله الله في قلبِ العبد، فيرضَى بما قسَم الله له، ((قد أفلح من أسلم، ورزِق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه))[1].
أيّها المسلم، جاء في الكتابِ والسنّة بيانُ أسبابِ بركةِ الرزق، فالرّزق قد يبارك للعبد فيه، وقد لا يبارَك للعبد فيه، قد يعطَى مالاً كثيرًا، ولكن ينزع الله البركةَ منه، فلا ينفعه ولا يفيده،( يَمحَقُ اللَّهُ الرّبَا وَيُربِى الصَّدَقَـاتِ) [البقرة: 276].
أيّها المسلم، إنّ من أسباب بركةِ الرّزق تقوَى الله - جل وعلا - في كلّ الأحوال، ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجًا وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لاَ يَحتَسِبُ ) [الطلاق: 2، 3]، (وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَـاتٍ, مّنَ السَّمَاء وَالأرضِ ) [الأعراف: 96]، ويقول موسى - عليه السلام - في دعائه: ( رَبّ إني لِمَا أَنزَلتَ إِلَىَّ مِن خَيرٍ, فَقِيرٌ ) [القصص: 24].
ومِن أسبابِ بركة الرزق صلةُ الرحم، ففي الحديث: ((من أحبَّ أن يُنسَأ في أثره ويبسَط له في رزقه فليصِل ذا رحمِه))[2].
ومن أسباب بركة الرزق الإنفاق في وجوه الخير والصدقةُ على المساكين والمُعوِزين، قال - تعالى -: ( وَمَا أَنفَقتُم مّن شَىء فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ) [سبأ: 39].
وأحسِن إلى عبادِ الله يحسِن الله إليك، قال - تعالى -: ( وَأَحسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُحسِنِينَ ) [البقرة: 195]، ((ومن فرّج عن مسلم كربةً من كرَب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرَب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة))[3].
فبركة الرزق في الدنيا أن يخلفَ الله عليك عوضَه، وبركته في الآخر ما ينالك من الثواب العظيم، في يومٍ, أنت أحوج فيه إلى مثقال ذرّة من خير.
أيّها المسلم، إنّ الله - جل وعلا - حذّر المسلمين من أن يكونَ نجواهم فيها بينهم ظلمًا وعدوانًا، قال - تعالى -: ( ياأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا تَنَاجَيتُم فَلاَ تَتَنَـاجَوا بِالإِثمِ وَالعُدوَانِ وَمَعصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَـاجَوا بِالبِرّ وَالتَّقوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيهِ تُحشَرُونَ ) [المجادلة: 9، 10].
أيّها المسلم، فالمسلمون فيما بينهم سرًّا وعلانية أمرُهم واضح ومنهجُهم سليم وسرّهم وعلانيتهم على وفق واحد، فإنّ إيمانهم صادق ظاهرًا وباطنًا، وأخلاقُهم أخلاقُ الصّدق، وأعمالهم أعمالُ الحقّ، ترى أعمالَهم واضحة، وترى أمورَهم جليّة، لا يظهِر لك أمرًا ويخفي عليك غيرَ ذلك، ولذا قال الله لهم: إِذَا تَنَاجَيتُم فَلاَ تَتَنَـاجَوا بِالإِثمِ وَالعُدوَانِ، لا تكن مناجاتُكم وأحاديثكم وأمورُكم إثمًا وعدوانًا، فإنّكم إذا تناجيتُم بالإثم والعدوان صِرتم سببَ شرّ وبلاء، بل تكون لقاءاتكم دائمًا لقاءاتِ خير ولقاءات برّ وتعاونٍ, على كلّ خير تسعد به الأمّة في حاضرها ومستقبلها.
أمّا أولئك المندسّون بين الأمّة، الذين امتلأت قلوبهم مرضًا وحقدًا على الإسلام وأهله، فهؤلاء تراهم في الظاهر معك، ولكن في باطنِ أمورهم يتناجَون بالإثم والعدوان، مناجاتُهم فيما يخطّطونه وفيما يبرِمونه من مؤامرة ضدَّ الإسلام وأهله، إنهم إن لم يُعلَم بهم فهم في غيّهم وفي ضلالهم وفي كيدِهم للإسلام وأهله. فهم ـ والعياذ بالله ـ قلوبٌ مريضة، لا تطمئنّ ولا تهنأ إلا بالمكيدة للإسلام وأهله، الحقدُ ملأ قلوبهم، وطاعةُ الأعداء حكمتهم، ومدٌّهم يدَ العون مع الأعداء جعلتهم يعيشون في هذا المستنقَع السيّئ.
أيّها المسلم، فلا يليق بك أن تتآمرَ ضدَّ أمّة الإسلام، ولا أن تبغيَ للإسلام وأهله الغوائل، ولا يليق بك أن تكونَ مجالسك الخاصّة مجالسَ سوء ومجالسَ تعاونٍ, على الإثم والعدوان.
أولئك الذين يختفون عن أنظار النّاس، وإنما يطيب لهم ما يطيب لهم عندما يجتمِعون فيما بينهم، فحدِّث ما شئتَ عن مكرِهم وخِداعهم، ولكنّ اللهَ بالمرصاد لمن أراد السوء، ( وَلاَ يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهلِهِ) [فاطر: 43]. فهؤلاء ـ والعياذ بالله ـ لا خيرَ فيهم، ولكنّ الله يفضحُهم ويهتك أستارهمº لأنّ أمرهم خطير وشرّهم مستطير.
إذن فالمسلم لا يليقُ به أن يكونَ مع هؤلاء، ولا يصاحب هؤلاء، ولا يجالس هؤلاء، ولا يركن إلى هؤلاء الذين في قلوبهم حِقد على الإسلام وأهله، بل هو ينصَح لله، وإذا تناجى فستسمع في نجواه أمرًا بخير،( لاَّ خَيرَ فِى كَثِيرٍ, مّن نَّجوَاهُم إِلاَّ مَن أَمَرَ بِصَدَقَةٍ, أَو مَعرُوفٍ, أَو إِصلَـاحٍ, بَينَ النَّاسِ) [النساء: 114].
أمّا الذين تناجيهم أمرٌ بشرّ وتنظيم ضرر ومؤامرة دنيئة ومحاولة على ضرب الإسلام وأهله فإنّ هذه الملتقياتِ ملتقياتُ إثم وعدوان، المسلم يربَأ بنفسه عن هؤلاء وعن صُحبة أولئك وعن إعانة أولئك وعن السّكوت والتغاضي عن أولئك.
هؤلاء لا خيرَ فيهم، وليس عندهم خيرٌ ولا صلاح، ولكنّهم قوم خدِعوا وانخدَعوا وضعُف الإيمان في قلوبهم، فأصبَحوا آلةً بأيدي أعدائهم لمكيدةِ الإسلام وأهله، ولكنّ الله - تعالى -لا يصلح عملَ المفسدين الذين يحاوِلون الإفسادَ في الأرض بأيّ أنواع الفساد، الله لا يصلح أعمالهم، ولا يوفّقهم لأنهم أهلُ مكرٍ, وخداع وتناجٍ, بالباطل، فأعمالهم يخفونها عن النّاسº لأنّ كلاً يشجب أفعالهم، ويعلم سوءَ نواياهم وقبحَ ما يريدون، فالمسلم موقفُه من أولئك موقفٌ يشجب كلّ هذه الأحوال، ويكرهها ويكرَه أهلَها، ولا يتستّر على أحدٍ, منهم، ولا يرضى عن أحدٍ, منهم، وإنما ينصَح إن قبلوا النصيحة، ويحذّرهم مِن هذه المؤامرات الدنيئة إن يكن في قلوبهم بقيّة من إيمان، وإلاّ فإنه لا يتستّر عليهم، ولا يرضى بأحوالهم، إذِ الإيمان يمنع المؤمنَ من الفساد وأهله، والله ذكر عن المنافقين بقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُم لاَ تُفسِدُوا في الأرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَـاكِن لاَّ يَشعُرُونَ) [البقرة: 11، 12].
أجل، إنّ هؤلاء مفسدون في الأرض، تناجَوا على الإثم والعدوان، والتقَت مجالسهم على الشرّ والبلاء والمكيدة للإسلام وأهله، ولكنّ الله - جل وعلا - حكيم عليمٌ فيما قضى وقدّر، سلّط الله على أولئك من هتَك أستارهم وكشف عيوبهم وأوضح باطلَهم، وأخزاهم الله، والله على كلّ شيء قدير.
فيا أيّها المسلم، كن واثقًا بالله، حريصًا على دينك قبل كلّ شيء، ثم حريصًا على أمنِ أمّتك وسلامتها، ولا تمكّن للفسّاق والأراذل الأمرَ، ولا تعِنهم على باطِلهم، وحذّر أبناءك وإخوانَك ومن تتّصِل بهم من هذه الأكاذيب والأباطيل وهذه المكايد والخيانات التي لا يرضى بها المسلم، ( ياأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ ) [الأنفال: 27].
أسأل الله - تعالى -أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يذلّ من في ذلّه عزّ الإسلام وأهله، وأن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ, ضلالة، وعليكم بجماعَة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمرَكم بذلك ربّكم، قال - تعالى -: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيمًا ) [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
----------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (1054) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
[2] أخرجه البخاري في الأدب، باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5986)، ومسلم في البر والصلة، باب: صلة الرحم (2557) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
[3] أخرجه مسلم في الذكر، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد