بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد..
أيها المؤمنون قد أظلكم شهر كريم وموسم عظيم فها هو يطرق الأبواب هلاله يرتقب الليلة أو القابلة فلا إله إلا الله ما أسرع تعاقب الليالي والأيام وما أعجل دوران رحى الزمان فالليالي والأيام تطوى والأعمار والأعوام تفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام لكل أجل كتاب ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُم لا يَستَأخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَستَقدِمُونَ) (1) فهذا مولود يبكي وهذا مقبور يُبكى وكل الناس يغدو فبائع نفسه إلى ربه ومولاه فمعتقها وبائع نفسه للشيطان وهواه فمهلكها.
أيها المؤمنون إن خير ما استقبلتم به شهر رمضان المبارك التوبة الصادقة والدموع الهامية على التفريط والتقصير (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)(2) فإن من لم يتب فأولئك هم الظالمون وفي صحيح البخاري من حديث أبي هـريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))(3) عباد الله: إن التوبة الصادقة المقبولة لا تكون إلا بالندم على ما فرط من السيئات والإقلاع فوراً عن الخطايا والموبقات والعزم على عدم مواقعة الذنوب والمهلكات ورد المظالم والتحلل من أصحاب الحقوق والجنايات .
أيها المسلمون إن مما يستقبل به هذا الموسم الكريم الفرح ببلوغه وإدراكه فإن من النعم العظيمة على العبد أن يبلغه الله مواسم الخيرات ومنازل المغفرة والرحمات (قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ )(4).
أيها الإخوة الكرام: إن المؤمن يفرح برمضان لما فيه من أسباب الفوز بالجنات والنجاة من النيران يفرح المؤمن برمضان يصوم نهاره ويقوم ليله ويسأل ربه ومولاه من خير الدنيا والآخرة فيحقق بذلك التقوى التي قال في أهلها: (أَلا إِنَّ أَولِيَاءَ اللَّهِ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)(5)
يفرح المؤمن برمضان لأنه شهر يربي فيه نفسه على الصبر عن الشهوات والصبر على الطاعات فيفيده ذلك قوة في دينه ورسوخاً في يقينه وزيادة في إيمانه فما أعطى أحد عطاء خيراً ولا أوسع من الصبر.
يفرح المؤمن برمضان لأنه يتذكر به ما صنع الله لأوليائه من الانتصارات والفتوح فشهر رمضان شهر نصر لأمة الإسلام فيه وقعت بدر الكبرى وفيه فتح الله لنبيه مكة البلد الحرام وفيه معركة اليرموك وحطين وغير ذلك من وقائع النصر والفتح المبين. فكل انتصارات أهل الإسلام العظام التي حصل بها للمسلمين الفرج وغيرت موازين القوى إنما كانت في هذا الشهر المبارك فصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً))(6) يفرح المؤمن بهذا الشهر لأنه يجدد في نفسه الأمل فإن المستقبل للإسلام مهما اشتد الظلام وإن الله ناصر دينه ومعلي كلمته بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به أهل الإسلام وذلاً يذل به الكفار فما أحوج الأمة اليوم وهي تعيش هذه النكبات والخطوب المدلهمات إلى من يحيي في قلبها الأمل ويذكرها بأسباب الخروج من هذه الأزمات فإنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويجعل له من أمره يسراً (قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ)(7).
أيها المؤمنون: إن من الناس من عمي عن كل هذه المعاني التي يحملها هذا الشهر المبارك ولم ير فيه إلا موسماً سنوياً للموائد الزاخرة وفرصة للسمر واللهو ومتابعة البرامج والسهر الممتد إلى بزوغ الفجر والنوم الطويل إلى غروب الشمس فإني والله أخشى على هذا أن يجيب الله فيه دعاء جبريل الذي أمن عليه خاتم المرسلين ففي صحيح ابن خزيمة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله. قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قل آمين. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: آمين)) (8).
أيها المؤمنون إنني أحذركم نصيحة لله نصيحة مشفق محب أن تستجيبوا إلى شياطين الإنس الذين يدعونكم إلى متابعة القنوات بما أعدوه من البرامج والفقرات ليصدوا عن سبيل الله ويذهبوا بما حصلته قلوبكم من التقوى والإيمان بسبب الصيام والقيام فاتقوا الله عباد الله واجعلوا شهركم شهر توبة وأوبة وصلاح ودعاء وتضرع وبكاء فعند الصباح يحمد القوم السرى جعلنا الله وإياكم ممن يقول: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبلُ فِي أَهلِنَا مُشفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَينَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ. إِنَّا كُنَّا مِن قَبلُ نَدعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرٌّ الرَّحِيمُ)(9).
الخطبة الثانية
أما بعد...
فاتقوا الله عباد الله واستقبلوا شهركم بالعزم على الطاعات ونية الخيرات والمسارعة إلى الباقيات الصالحات فإن ذلك من المسابقة إلى الخيرات ونية الطاعة طاعة يثاب عليها المؤمن يا عباد الله ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك. فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله- تبارك وتعالى -عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة))(10).
أيها الإخوة الكرام إن من نعمة الله - تعالى -على أهل الإسلام أن خص شهر الصيام شهر رمضان المبارك بفضائل قدرية وشرعية، فمن ذلك أن الله - تعالى -أنزل فيه أحسن كتبه: (شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ, مِنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ((11) ومن تلك الخصائص أنه جعل فيه ليلة القدر التي يفرق فيها كل أمر حكيم فيجري فيها تقدير الله - عز وجل - لما يكون في تلك السنة ليلة القدر التي عظم الله شأنها فقال: (إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ (1) وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ)(12) ليلة القدر التي قال فيها الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))(13).
ومن الفضائل والخصائص التي جعلها الله لشهر الصيام، أن منّ على عباده المؤمنين بفتح أبواب الجنان وتغليق أبواب النيران و تصفيد الشياطين من أول ليلة من لياليه ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين))(14) في رواية ((سلسلت الشياطين)).
وفيه ينادي منادي الإيمان: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
ومن فضائل الشهر المبارك أن الله - جل وعلا - من فيه على أهل الإسلام بأعظم الانتصارات وأكبر الفتوحات ففيه نصر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الكفر والإلحاد يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في غزوة بدر الكبرى التي هي شامة في عين التاريخ
إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً *** فتاريخنا الوضاح من بدر ابتدأَ
وفيه فتح الله بيته المعظم لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلصه بذلك من أوضار الشرك و لوثات الكفر.
شهر عظيم مبارك فيه تكفر الخطايا وتمحى الذنوب ويعفى عن السيئات من حرم خيره فقد حرم
أتى رمضان مزرعة العباد *** لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقـوقه قولاً وفعلاً *** وبادر فيه أزواد المعــاد
----------------------------------------
(1) سورة: الأعراف: آية (34).
(2) سورة: النور: آية (31).
(3) أحمد (17391).
(4) سورة: يونس: آية (58).
(5) سورة: يونس (62 ـ63).
(6) أخرجه: أحمد (2800).
(7) سورة: يونس: آية (58)
(8) الحاكم.
(9) سورة: الطور: آية (26 ـ28).
(10) مسلم (131).
(11) سورة: البقرة: آية (185)
(12) سورة: القدر: آية (1 ـ 2)
(13) متفق عليه: البخاري (37)، ومسلم (759).
(14) متفق عليه:البخاري (1898)، ومسلم (1079).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد