عداوة الشيطان وطرق الحماية منه


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد...

أيها الإخوة المؤمنون إن من سنة الله - تعالى -الجارية في الرسل وأتباعهم أن جعل لهم أعداء يتربصون بهم الدوائر وينسجون لهم المكايد يصدونهم عن سبيل الله - تعالى - ويبغونها عوجاً قال الله - تعالى -: ( وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ, عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ, زُخرُفَ القَولِ غُرُورا)(1) وقد فرض الله - تعالى - على الرسل وأتباعهم مراغمة أعدائه ومجاهدتهم قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: \" ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له \"(2) وأولى أعداء الله ورسله بالمراغمة والمجاهدة هو إبليس عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فإنه أشد الأعداء فتكاً وأمضاهم كيداً وأقدمهم عداوة ومكراً فكل أعداء الله ورسله عنه يصدرون وبأمره يأتمرون فإنما هم جنده وحزبه (  أُولَئِكَ حِزبُ الشَّيطَانِ أَلا إِنَّ حِزبَ الشَّيطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ)(3).

 

عباد الله! إن المتأمل للكتاب المبين والسنة النبوية يلاحظ شدة اعتناء الكتاب والسنة بذكر عداوة الشيطان وكيده ومحاربته ووجوب مجاهدته فإن الله - تعالى -قد ذكره في مواضع كثيرة وقد أفردت له سورة خاصة تامة فتحذير رب العالمين لعباده من هذا العدو المبين كثير مستفيض في كتاب الله - تعالى -، وما ذلك إلا لما لهذا العدو القوي من صولة وجولة، فإنه لعنه الله مصدر كل فتنة وبلاء ومنبع كل شر وعناء وقد أخذ على نفسه الميثاق أن يضل بني آدم، وأن يطرق لذلك كل باب وأن يسلك كل سبيل قال الله - تعالى -حاكياً عنه: ( قَالَ فَبِمَا أَغوَيتَنِي لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِن بَينِ أَيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمَانِهِم وَعَن شَمَائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِينَ)(4) وقال في موضع آخر: ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ)(5). فيا عباد الله ما من طريق من طرق البر والطاعة إلا والشيطان قاعد لكم عليه بالمرصاد يزهدكم فيه وينفركم عنه، وما من سبيل من سبل الشر والمعصية إلا وعدوكم منتصب عليه يدعوكم إليه ويزينه لكم ويجمله في أعينكم، فإياكم، إياكم، إياكم، أن تطيعوه أو تصغوا إليه فإن عاقبة ذلك إلى الخسران في الدنيا والآخرة قال الله - تعالى -عن الشيطان: ( إِنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أَصحَابِ السَّعِير) (6).

 

أيها المؤمنون! إن الله - تعالى -بين لنا عداوة الشيطان كما أنه - سبحانه - بين وسائله وطرقه وكشف مكره وكيده وحذّر من ذلك كله، أيها المؤمنون إن الله - تعالى -قد دلنا برحمته وفضله إلى الأسلحة التي يواجه بها كيد هذا العدو المتربص وهي أسلحة كثيرة منتشرة في كتاب الله وسنة رسوله فمن أخذ بها فقد سلك سبيل النجاة ومن أعرض عنها أو تهاون بها فإنما حاله كما قال الشاعر:

 

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس

 

فلا نجاة للعبد إلا بهذه الأسلحة القرآنية النبوية فاحرصوا بارك الله فيكم على معرفتها والأخذ بها فمن أكثر هذه الأسلحة وأمضاها فتكاً وأعظمها أثراً اعتقادُ واستحضار ضراوة عداوة هذا العدو المبين الذي لا يرجى زوال عداوته فإنها عداوة قد أعلنها لآدم وذريته من أول لحظات وجودهم وخلقهم، فهي معركة قديمة دائمة لن تضع أوزارها ولن يخبو أوارها إلا حين يرث الله الأرض ومن عليها.

 

أيها المؤمنون! ولأهمية هذا السلاح وهو اتخاذه عدواً أمر الله - تعالى -بذلك في كتابه في غير ما آية، من ذلك قوله جل ذكره: ( إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوُّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً)(7).

 

أيها المؤمنون! إن دعوة الله - تعالى -لنا أن نتخذ الشيطان عدواً ليس المراد منها لعنه باللسان وبغضه بالقلب مع طاعته فيما يأمر واتباع خطواته والاغترار بوعوده والاسترسال مع وساوسه وأكاذيبه بل المراد بهذه الدعوة بغضه بالقلوب ولعنه بلعنة الله ومخالفة أمره بالجوارح والإعراض عن تزيينه وتضليله وزخرفته، فإن هذا من أجل القربات وأفضل الطاعات قال ابن القيم - رحمه الله -: \" والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته و مجاهدته كأنه عدو لا يفتر ولا يَقصُر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس \" فإن كل من أطاع الشيطان في معصية الله - تعالى -فقد اتخذه ولياً قال الله - تعالى -في سورة مريم في قصة دعوة إبراهيم لأبيه: ( يَا أَبَتِ لا تَعبُدِ الشَّيطَانَ إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلرَّحمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ وَلِيّاً)(8).

 

قال ابن القيم - رحمه الله -: \" فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس\"(9) فاحذروا ـ أيها المؤمنون ـ الدعاوى الكاذبة فكم هم الذين يدعون عداوة الشيطان وبغضه وهم من أخلص أحبائه وأخص أوليائه.

 

عباد الله! إن من أعظم الأسلحة التي تنجي العبد من غوائل الشيطان وشره وعداوته الإخلاص لله - تعالى -فإن أهل الإخلاص محفوظون بحفظ الله - تعالى -قال - تعالى -مخاطباً إبليس لما أخذ على نفسه الميثاق في إضلال بني آدم: ( إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (10) وقال: ( إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ) (11) فمن تحقق أيها المؤمنون بهذه الصفات من الإيمان بالله - تعالى - والتوكل عليه والإخلاص له فقد أغلق على عدوه الأبواب وسد عليه كل باب. والإخلاص الذي يعصم العبد من كيد الشيطان ومكره هو أن يصرف العبد العبادة لله وحده لا شريك له فلا يعبد إلا الله ولا يحب إلا الله ولا يعظم إلا الله ولا يذبح إلا لله ولا يدعو غير الله ولا ينذر لغير الله ولا يتحاكم لغير شرعه فمن وقع في شيء من ذلك فقد وقع في بعض شعب الكفر أو الشرك ويكون بذلك ممن اتخذ الشيطان ولياً من دون الله نعوذ بالله من الخذلان.

 

أيها المؤمنون! إن من وسائل رد كيد عدوكم وإفساد سعيه في إضلالكم الاستعاذة بالله العظيم ذي الوجه الكريم والسلطان العظيم من الشيطان الرجيم قال الله - تعالى -: ( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزغٌ فَاستَعِذ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (12) وهذه الاستعاذة التي تتردد على ألسنتنا هي طلب العوذ من الله - تعالى -أي طلب الامتناع بالله والاعتصام به والالتجاء إليه من شر كل ذي شر قال ابن كثير - رحمه الله -: \" ومعنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم لا يضرني في ديني ودنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به أو يحثني على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله \" لذلك أنزل الله علينا في كتابه سورتين خاصتين بطلب الحفظ من كيده وشر عداوته: سورة الفلق وسورة الناس قال ابن القيم - رحمه الله -: \" والناس محتاجون إلى هاتين السورتين \".

 

ولذا فإن الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما تتضمن الاستعاذة بالله - تعالى -من الشيطان وشره فاحرصوا بارك الله فيكم على الاستعاذة بالله من هذا العدو المبين فإنه لا حول ولا قوة لنا إلا بالله العظيم قال الشاعر:

 

العبد في كنف الإله وحفظه *** من كل شيطان غوي ساه

إن عاذ بالرحمن عند صباحه *** وكذاك إن أمسى بذكر الله

فنعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه.

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد..

فإن مما يرد عنكم كيد الشيطان ويبطل عمله كثرة ذكر الله - تعالى - فإن ذكر الله - تعالى -دواء لكل داء:

 

إذا مرضنا تداوينا بذكركم *** ونترك الذكر أحياناً فننتكس

 

فذكر الله - تعالى - من أعظم أسباب دفع تسلط الشياطين فإن الشيطان يخنس عند ذكر الله - تعالى - ويتضاءل ويضمحل بل يهرب وينهزم فذكر الله - تعالى -أثقل شيء على عدوه فهو الحرز المتين و الحصن الحصين الذي يحفظ به العبد نفسه من الشيطان الرجيم ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك))(13). فإذا قل نصيبك يا عبد الله من ذكر الله تسلط عليك إبليس بالوساوس وأجلب عليك بخيله ورجله وزين لك المعاصي والموبقات وزهدك في الطاعة والقربات ولذا فإن ذكر الله - تعالى -من أعظم المنجيات فأكثروا عباد الله من ذكر الله - تعالى -كما أمركم الله بذلك، حيث قال: ( يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا اللَّهَ ذِكراً كَثِيراً)(14) فأكثروا من ذكر الله لاسيما تلاوة القرآن فإنه من أشد الأشياء على الشيطان ففي الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة))(15) وفي الصحيح أيضاً في قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - مع الشيطان أن عدو الله قال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: وما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة لما أخـبره: ((أما إنه قد صدقك وهو كذوب))(16).

 

أيها المؤمنون إن من أسباب النجاة من الشيطان وكيده معرفة خطواته ومداخله، فإن الله - تعالى -قد نهى المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان كما قال الله - تعالى -: ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)(17) ولا يتمكن العبد من اجتناب خطوات الشيطان إلا بمعرفتها فصارت معرفة خطواته واجبة على كل مسلم فإنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد بين الله - تعالى -خطواته حيث قال: ( يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِع خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ)(18) فكل فحشاء وكل منكر فهي من خطواته وأعماله.

 

 أيها المؤمنون هذه بعض الوسائل التي ذكرها الله - تعالى -لمواجهة هذا العدو المارد فاحرصوا عليها واستزيدوا منها أعاننا الله وإياكم على ذلك.

 

----------------------------------------

(1) الأنعام: آية (112).

(2) مدارج السالكين: 1/249.

(3) المجادلة: آية (19).

(4) الأعراف: آية (16 ـ 17).

(5) ص: آية: (82).

(6) فاطر: آية (6).

(7) فاطر: آية (6).

(8) مريم: آية (44 ـ45). 

(9) مدارج السالكين: 1/137.

(10) الإسراء: آية (65). 

(11) النحل: آية (99).

(12) فصلت: آية (36).

(13) البخاري (3293)، ومسلم (2691).

(14) الأحزاب: آية (41).

(15) مسلم (780).

(16) البخاري (بدون) كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه.

(17) البخاري (5010).

(18) النور:آية (21).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply