بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله - تعالى -، واعلموا أن المؤمنين إخوة في الدين، سماهم الله بذلك في كتابه المبين، فقال - تعالى -: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ، وقال النبي: ((وكونوا عباد الله إخوانا))، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((حتى يحبّ لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه))، وفي رواية لأحمد: ((لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحبّ للناس من الخير ما يحب لنفسه))، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي قال: ((من أحب أن يزحزح عن النار ويأتي الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)).
فهذه الأحاديث وما جاء بمعناها تدلّ على أن المؤمن يسرّه ما يسرّ أخاه، ويخزنه ما يحزنه، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير. وهذا إنما يأتي مع سلامة المسلم من الغش والغل والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في نعمة أو يساويه فيهاº لأنه يحب أن يمتاز على الناس وينفرد عنهم بالنعمة، والإيمان يقتضي خلافَ ذلك، وهو أن يشاركه المؤمنون كلهم في مثل ما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء.
وقد مدح الله - تعالى -في كتابه من هذه صفته، من كانوا لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، فقال - تعالى -: {تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، قال عكرمة وغيره في هذه الآية: \"العلو في الأرض: التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند السلطان، والفساد: العمل بالمعاصي\"، وقال - تعالى -في مدح المؤمنين أيضا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَلإِخوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجعَل فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. فمن صفات المؤمنين سلامة قلوبهم وألسنتهم لإخوانهم المؤمنين السابقين واللاحقين والثناء عليهم والدعاء لهم بالمغفرة مع الدعاء لأنفسهم، ولا سيما السابقين الأولين من صحابة رسول الله من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فمن وجد في نفسه بغضا لأصحاب رسول الله أو تنقصهم فليس بمؤمن، وقد قال النبي: ((لا تسبوا أصحابيº فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)). فقاتل الله أولئك الأقوام الذين يسبون أصحاب رسول الله وخلفاءه الراشدين ويتنقّصونهم، وقد قال الله - تعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِن المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ, رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} [التوبة: 100]، وقال - تعالى -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم تَرَاهُم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبتَغُونَ فَضلاً مِن اللَّهِ وَرِضوَانًا سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السٌّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُم فِي التَّورَاةِ وَمَثَلُهُم فِي الإِنجِيلِ كَزَرعٍ, أَخرَجَ شَطأَهُ فَآزَرَهُ فَاستَغلَظَ فَاستَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعجِبُ الزٌّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِم الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَغفِرَةً وَأَجرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]. فهذا يدل على أنه إنما يغتاظ من أصحاب رسول الله الكفارُ، وأما المؤمنون فإنهم يحبونهم ويتولّونهم ويستغفرون لهم.
عباد الله، ينبغي للمؤمن أن يحبّ للمؤمنين ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن رأى مِن أخيه المسلم نقصا في دينه اجتهد في إصلاحه، فلا يكون مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه، وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يغتابه أحد فكيف يغتاب أخاه وقد قال الله - تعالى -: {وَلا يَغتَب بَعضُكُم بَعضًا أَيُحِبٌّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]؟! وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يسعى أحد بينه وبين أحبابه بالنميمة فكيف يسعى هو بين إخوانه المتحابين بالنميمة ليفسد ما بينهم وقد قال الله - تعالى -: {وَلا تُطِع كُلَّ حَلاَّفٍ, مَهِينٍ, هَمَّازٍ, مَشَّاءٍ, بِنَمِيمٍ,} [القلم: 10، 11]، وقال النبي: ((لا يدخل الجنة نمام))؟! وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يسخر منه أحد أو يستهزئ به أحد فكيف يسخر من إخوانه ويستهزئ بهم ويتنقّصهم وقد قال الله - تعالى -: {وَيلٌ لِّكُلِّ هُمَزَة لُمَزَةٍ,} [الهمزة: 1]، وقال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ أَجرَمُوا كَانُوا مِن الَّذِينَ آمَنُوا يَضحَكُونَ وَإِذَا مَرٌّوا بِهِم يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29، 30]؟! إذا كان المؤمن لا يرضى أن يغشَّه أحد في بيعه وشرائه فكيف يغشّ إخوانه ويخدعهم في معاملاته معهم؟! إذا كان المؤمن لا يرضى أن يؤذيه جاره فكيف هو يؤذي جيرانه وقد قال النبي: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه))؟! إذا كان المؤمن لا يرضى أن يظلم فكيف يظلم الناس؟! وإذا كان المؤمن لو خطب امرأة أو باع سلعة أو اشتراها لا يرضى أن يفسد عليه ذلك أحد فيخطب على خطبته أو يبيع على بيعه أو يشتري على شرائه فكيف يصدر منه ذلك في حق إخوانه المؤمنين وقد قال النبي: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا))، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي قال: ((لا يبع المؤمن على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه))؟!
عباد الله، هذا قول الله جل جلاله وقول رسوله في إخوة الإسلام، وفي تحقيق تلك الأخوة في المسلمين الأولين منهم والآخرين إلى يوم الدين، فهل عرف المسلمون ذلك ولزموه؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسخَر قَومٌ مِن قَومٍ, عَسَى أَن يَكُونُوا خَيرًا مِنهُم وَلا نِسَاءٌ مِن نِسَاءٍ, عَسَى أَن يَكُنَّ خَيرًا مِنهُنَّ وَلا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ بِئسَ الاِسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإِيمَانِ وَمَن لَم يَتُب فَأُولَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيرًا مِن الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغتَب بَعضُكُم بَعضًا أَيُحِبٌّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 11، 12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعي وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، لقد بيّن النبي المقياس الصحيح للمؤمن الحقيقي في كلمة مختصرة جامعة، وهي قوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). فإذا كان يحب لنفسه الخير فليحبه لإخوانه، ويجتهد في جلبه لهم، وإذا كان يكره لنفسه الشر فليكرهه لإخوانه، فيصرف شره عنهم، ويجتهد في صرف شر غيره عن إخوانه. وتلك قاعدة نافعة ووصية جامعة، نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا وإياكم الاتّصاف بها والبعد عما يضادّها، إنه قريب مجيب.
ألا وصلوا على سيد الأولين والآخرين وأفضل خلق الله أجمعين محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله فقال جل من قائل عليما:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا...}
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد