بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله - تعالى -.
معاشر المسلمين، لقد تدرّعت الأمة بالهم والتحفت بالغمّ وخاب منها الأمل وكثر منها الوجَل يومَ أن تمكّن أحلاف الكفر من انتهاك كرامة بلد مسلم يملؤه أحباءٌ لنا وأشقاء، وتمكّن القهر من النفوس يوم أن رأت نزق المحتل وانتفاش الباطل ووقاحة الطغيان وتصعير الغرور والخيلاء حتى تجرؤوا على رفع أعلامهم في بلاد المسلمين وتمويل حربهم من ثروات المسلمين، مع قلة الناصر وضعف المعين، والله المستعان.
وإن الله - تعالى -بحكمته لم يتركنا في الفتن هملاً دون توجيه أو تحفيز، بل أرشدنا إلى الالتياذ بكتاب الله واللجأ إليه لأن فيه الهدى والنور، وما من حال تمرّ بها الأمة إلا وجدت في كتاب الله ما يسلّي منها ويرفع الغمة عنها.
لقد أُرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله - تعالى -لنجد فيه: \"فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا\" [النساء: 139]، وأن ما حازته الأمم من القوة إنما هو جزء من قوة الله وأنه تحت قهر الله وسطوته، فلا خوف منه ولا ضمان لدوامه، وإنما هو تحت إرادة الله، فمتى شاء نزعَه نَزَعه كما نزع قوّة النظام العراقي، ولكلّ أجل كتاب.
لقد أرشدنا - سبحانه - إلى الرجوع إلى كتاب الله - تعالى -لنجد فيه قول الحق - تعالى -: \"وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ\" [النور: 42]، وأن الخلق جميعهم صائرون إليه، يستوي في ذلك الطاغية الظلوم والضعيف المهضوم، فلا مهربَ من حسابه، ولا مفرَّ من لقائه، وإليه الأوبة والمعاد، وأن القهرَ والظلم والطغيان الذي يحصل اليوم ليس هو نهاية الأمر، وإنما نهاية الأمر يوم التغابن، يوم العرض على الله - تعالى -، والانتصاف من الجبّارين والمتكبرين والمعتدين وإذلالهم، وأخذ الحق للمظلومين والمقتولين وإعزازهم.
لقد أرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله - تعالى - لنجد فيه التوجيه بعدم الاغترار والحزن بظهور الكفّار في زمن منَ الأزمان، وأخذهم بأسباب النعمة والوجدان والمكانة والسلطان، وأن ذلك متاع زائل واستدراج لهؤلاء الكافرين وإملاء لهم، وليس هو نهاية المطاف ولا نهاية الدنيا، وإنما هو متاع قليل لا يساوي شيئًا عند عاقبته الوخيمة ونهايته الأليمة، ولكن الذين كفروا يكذّبون، \"وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ, يَنقَلِبُونَ\" [الشعراء: 227].
لقد وجهنا الله في كتابه بآية عظيمة كأنما أنزلت في حالنا يوم ساورنا اليأس والقهر مما يجري، لقد قال - تعالى -في كتابه: \"لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلٌّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى البِلَـادِ مَتَـاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المِهَادُ\" [آل عمران: 196، 197]. متاع قليل يظفرون به، ولكنه ينتهي ويذهب، ويبقى لهم المأوى الدائم: \"جَهَنَّمُ وَبِئسَ المِهَادُ\".
إن ما نسمعه اليوم ونشاهده لهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة، يوم نرى إخوة الدين يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجَهد، ويعانون المطاردة والقتل والنهب. يحيك في القلوب شيء يوم نرى أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون وأهل الحق يعانون، ولكن هذه الآية تأتي دواء لما يحيك في النفوس وشفاء لما يعتري الصدور، فلا مجال للاغترار بتقلّب الذين كفروا في البلادº لأن الله أخبر بأنّ هذا المتاع قليل، وأنه ليس نهاية الطريق، بل إن مصيرهم إلى جهنم وبئس المهاد.
ولقد حذر الله من هذا الاغترار بتقلّب الكافرين في الأرض فقال: \"فَلاَ يَغرُركَ تَقَلٌّبُهُم فِي البِلاَدِ كَـذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نُوحٍ, وَالاحزَابُ مِن بَعدِهِم وَهَمَّت كُـلٌّ أُمَّةٍ, بِرَسُولِهِم لِيَأخُذُوهُ وَجَـادَلُوا بِالبَـاطِلِ لِيُدحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذتُهُم فَكَيفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذالِكَ حَقَّت كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُم أَصحَـابُ النَّارِ\" [غافر: 4-6].
إنها آيات تشفي الصدور المقهورة، وتداوي النفوس المكلومة، تعلّمها أن الكفار مهما تقلبوا وتحركوا وملكوا واستمتعوا فهم إلى اندحار وهلاك وبوار، وأن مصيرهم إلى النار، وأنهم في هذا الطغيان والتقلب في البلاد ليسوا الأولين، كما أنهم لن يكونوا الآخرين، بل سبقتهم أقوام وأحزاب على شاكلتهم، توحي عاقبتهم بعاقبة كل من يقف في وجه القوة الطاحنة العارمة التي يتعرّض لها من يعرض نفسه لبأس الله بظلم عباده وقتلهم وقهرهم.
لقد أرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله - تعالى -لنجد فيه الأمر بالصبر والمصابرة في الرضا بما يقضي الله ويقدر، والصبر والمصابرة في حماية حوزة الدين، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلّوا من صبر المؤمنين الذين يجب عليهم أن يظلّوا أصبر من أعدائهم وأقوى، فلا مجال لمقابلة الجهد إلا بجهد أكبر منه، ولا مجال لمقابلة الوقاحة في الإصرار على الباطل إلا بإصرار أقوى على الحق، ثم تكون العاقبة بإذن الله للمؤمنين، فإذا كان الباطل يصِرّ ويصبر ويمضي في الطريق فلا مجال لأهل الحق إلا أن يكونوا أشدّ إصرارًا وأعظم صبرًا على المضِيّ في الطريقº ذلك أن المعركة إنما هي بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدّمار والتنكيل.
أيها المسلمون، وما ذكره الله في كتابه عن حال الكفار الذين يغتصبون البلاد وأن متاعهم قليل وزوالهم سريع يصدّقه ما جرى في تاريخ المسلمين مع الكافرين، فأين المستعمرون الذين جثموا على البلاد الإسلامية وثرواتها؟! كم سنة تقلبوا في البلاد؟! إنها سنوات معدودة كانت أقصر من التوقعات، وكم مكث الذين أسقطوا بغداد يوم أن كانت حاضرة الخلافة؟! وكم سنة تقلّبوا في بلاد الشام؟! إنها سنتان فقط ثم هزموا شرّ هزيمة في عين جالونº ذلك أنّ لصاحب الحقّ مقالاً، وقد جعل له الله سلطانًا فلا مقامَ هنيئًا لمحتلّ في بلاد الإسلام.
نسأل الله يشعل العراق على الكافرين نارًا، وأن يجعل حياتهم فيها جحيمًا، اللهم لا تحقّق لهم غاية، ولا ترفع لهم في بلاد الإسلام راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، إنّ الوثبة العالية للقوّة الأمريكية هي من المداولة المذكورة في كتاب الله - عز وجل -: \"وَتِلكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ\" [آل عمران: 140]، وهي نتيجة للاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرّعوا بالسنن، فاكتشفوا واخترعوا وتعلّموا وجرّبوا واتّحدوا وتعاونوا، حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا هذه الفترة بحكم العالم تقريبًا. إن انتصارهم ليس انتصارًا عسكريًا فحسب، وعندما نرى ذلك الجندي المتغطرس يظهر قوته ويرفع علَمه على أرضنا نشعر بالغيظ والمقت، لكننا ندري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعة من التفوّقات التي حصلت عليها إدارته في غيبة وغفلة من الأطراف الأخرى.
فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصولوا إلى ما وصلوا إليه، وانتصارهم الشامل على المسلمين هو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر، وتقابل بالمدافعة أيضًا، وهل سنبقى نشتمهم ونلعنهم ونحن لا نعمل شيئًا؟! إن الذي دفق الرضا في صدور المؤمنين هو الذي أمرهم بالعمل والتوحد والتقدم والضرب في الأرض والاستفادة مما خلق فيها، وهو الذي أخبرهم بأن ما أصابهم إنما هو من عند أنفسهم: \"أَوَ لَمَّا أَصَـابَتكُم مٌّصِيبَةٌ قَد أَصَبتُم مّثلَيهَا قُلتُم أَنَّى هَـذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ\" [آل عمران: 165]. نريد أن نلوم أمريكا، وكم يسرنا ونطرب حين نسمع من المحلّلين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلّم في هذه الدولة الظالمة، ونعتقد أن كل ما يقال عنها إنما هو جزء قليل مما تستحقّ، ولكن علينا أن لا نغفل أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكِن أن يخفى قبحها لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أوتينا من قبل أنفسنا، وها هو ربنا - سبحانه وتعالى - يقول للمبشرين بالجنة: \"قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ\" [آل عمران: 165]. فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة والدماء نازفة والآلام حيّة: \"هو من عند أنفسنا\"، علينا أن نعتبر هذه فرصةً لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى الله - سبحانه وتعالى - بتوبة صادقة، وتصحيح شامل على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأمة.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد