بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله - تعالى -: \"مَّن عَمِلَ صَـالِحاً فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاء فَعَلَيهَا وَمَا رَبٌّكَ بِظَلَّـامٍ, لّلعَبِيدِ\" [فصلت: 46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وبدأ عدوان تحالف الإثم والشر والغطرسة والطغيان الذي تقوده أمريكا المستكبرة على بلاد الرافدين، هذا العدوان الغاشم الخارج على كل المعايير القانونية والأخلاقية، والذي يستهدف الشعب العراقي الشقيق وأرضه ومقدراته وكرامته وحريته وعزته ونهضته العلمية وإرادته الأبية التي رفضت وما زالت ترفض الهيمنة والتبعية للغزاة والمعتدين، تلك الإرادة التي تغذّيها عزة الإيمان وتشدها نحو المعالي ثقافة الإسلام التي احتضنتها حاضرة الرشيد، وشهدت بطاحها عزمات شعب خالد في بلد العلم والعز ومَعين النجدة لكل قضايا الأمة، منذ أشرفت على هذه الدنيا شمس الإسلام ونور الإيمان.
أيها المسلمون في كل مكان، ويأتي العدوان على العراق في ظل تخاذل وتواطؤ دول العروبة وتراجع دول منظمة المؤتمر الإسلامي، تلك الدول التي أعلنت أمام شعوبها وأمام العالم في مؤتمرين لها في مطلع هذا الشهر أنها ترفض العدوان على العراق أو أية دولة أخرى من دول الجامعة أو من دول منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد وجدت هذه الدول ذريعة لمعارضة العدوان إذا كان لا يستند إلى الشرعية الدولية، ظناً من هذه الدول أنها وجدت ما يبرر عجزها وتواطؤها تحت ستار ما يسمونه الشرعية الدولية، هذه الشرعية المدعاة التي لم تأبه دولة الشر والعدوان لموقف مجلس أمنها من رفض العدوان، فعدلوا عن اللجوء إليه بعيداً عن قرارات هذه الشرعية، والتي تسارع دول العروبة ودول منظمة المؤتمر الإسلامي إلى احترام قراراتها والالتزام بتنفيذها.
لقد ضربت قوى الاستكبار العالمي بعرض الحائط قرارات مؤسسة الشرعية الدولية، واقترفت جريمتها بشن العدوان على العراق، لتلبي نوازع الغطرسة وتشبع نهم المكابرين بمصائب الشعوب وثرواتها لدى الطغمة المتنفذة في إدارة الشر في كلٍ, من أمريكا وبريطانيا التي لا يغيب عن ذهن شعبنا ولا شعوب المنطقة ما جره استعمارها من ويلات على هذه البلاد بعد اقتسام تركة الدولة العثمانية بينها وبين دول الاستعمار آنذاك، فيما عرف بمعاهدة سايكس بيكو.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وإذا جاز لنا القول أن التاريخ يكرر نفسه، فما العدوان الغاشم والغزو الجديد للعراق إلا مقدمة لإعادة رسم خارطة المنطقة وتقسيمها إلى كيانات، لا ترقى إلى مستوى دويلة، فضلاً عن دولة، هذه الكيانات التي ستغرق في شلال الحروب الداخلية والنزاعات العرقية والطائفية التي ستغذيها السياسات الاستعمارية للإبقاء على شعوب المنطقة ضعيفة ممزقة، ترزح في ظل المديونية، لإحكام انقياد الشعوب لإرادة الكافر المستعمر أو من ينصبه الكافر حاكماً من بني جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا، وسيوفهم في خدمة أعدائنا، كما هو حال حكام الأمة اليوم الذين سقطت كل البراقع الزائفة عن وجوههم، وفقدوا ورقة التوت التي تستر عوراتهم، ولقد أصاب من وصفهم بقوله:
وكيف تنمو معاني العز في بلد *** إن كــان يحكمـه أذلاء
يستمرئون حيـاة الـذل ويحهم *** لديهم قد تساوى السم والماء
لا حق يجمعهم لا دين يردعهم *** للشر يدفعهم كبـر وفحشاء
أيها المسلمون، إن موقف المتخاذلين من حكام الأمة اليوم يشبه دور حكام دول الطوائف الذين تحالفوا مع الفرنجة في الأندلس، فضيعوا البلاد والعباد، وكان مصيرهم الخزي والعار، وسجلهم التاريخ في صحائفه السوداء مع الكامل الأيوبي وابن العلقمي الذي قام بعض حكامنا بدوره، فقدموا ديار العزة العربية والكرامة الإسلامية على طبق من الذل والاستخزاء، لتكون منطلقاً للعدوان على بلاد الحضارة الإسلامية وحاضرة الخلافة العباسية، بغداد الرشيد والمعتصم، وبوابة العز للأمة على امتداد التاريخ الإسلامي.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، من المعلوم من الدين بالضرورة أنه لا تجوز موالاة الكافر لقوله - تعالى -: \"لاَّ يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكَـافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ المُؤمِنِينَ وَمَن يَفعَل ذالِكَ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىء\" [آل عمران: 28]، وقوله - تعالى -: \"يَـا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا ءابَاءكُم وَإِخوانَكُم أَولِيَاء إِنِ استَحَبٌّوا الكُفرَ عَلَى الإِيمَـانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مّنكُم فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ\" [التوبة: 23]، فكيف بتولي الكافر وإعانته على قتل المسلم وتسهيل مهمته في الظهور على ديار الإسلام والمسلمين.
لقد أجمع علماء الأمة الذين يعتدٌّ بقولهم أن دفع الغزاة عن ديار المسلمين فرض عين على جميع المسلمين لقوله - تعالى -: \"يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مّنَ الكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُم غِلظَةً\" [التوبة: 123]، فتحرم معاونة أو مظاهرة أو مشاركة الكافر الغازي في قتل المسلمين واحتلال أرضهم.
ولتعلم شعوب الأمة أن ما تخسره الأمة على طبق الذل والهوان يفوق كثيراً ما تقدمه الأمة في ساح العطاء والفداء، دفاعاً عن الأرض والعرض والعقيدة والعزة والكرامة التي اختص بها الله نفسه وأكرم بها رسوله والمؤمنين، فقال - تعالى -: \"وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ وَلَـاكِنَّ المُنَـافِقِينَ لاَ يَعلَمُونَ\" [المنافقون: 8].
جاء في الحديث الشريف عن خباب قال: كنا قعوداً على باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج علينا، فقال: ((اسمعوا))، قلنا: سمعنا، قال: ((اسمعوا))، قلنا: قد سمعنا، قال: ((إنه سيكون بعدي أمراء، فلا تصدقوهم بكذبهم، ولا تعينوهم على ظلمهم، فإن من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم لم يرد عليّ الحوض))[1]، أو كما قال، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداهم إلى يوم الدين وبعد:
أيها المسلمون، إننا من قلب ديار الإسراء والمعراج، من أولى القبلتين وثاني المسجدين ومسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعراجه إلى السماء، ومن أتون المعاناة التي يتعرض لها شعبنا الصابر على أيدي الاحتلال والمحتلين، نرفض وندين هذا العدوان الغاشم على أرض العراق وشعبه الأبي، الذي يرفض إرادة الشر، ويتحدى العدوان المدجج بأحدث ما توصل إليه صناعة القتل والدمار الأمريكية، ونناشد كل الدول والشعوب والهيئات المعنية بحقوق الإنسان وكرامته، تلك الدول التي عبرت عن رفضها للعدوان، واعتبرته خارجاً عن كل المواثيق والأعراف الدولية، والهيئات والشعوب التي عبرت عن سخطها على هذا العدوان، من خلال المظاهرات المنددة للعدوان ومقترفيه، والرافضة لقانون الغاب وغطرسة القوة، نناشدهم جميعاً أن يقفوا مع إنسانيتهم لحماية الإنسان العراقي التي تُصب على أطفاله ونسائه وشيوخه ومقدراته حمم الحقد والدمار، المنطلقة من آلة الحرب العسكرية التي جعلت من الشعوب المستضعفة ميداناً لاختبار ما تنتجه هذه الآلة الحربية من أدوات قتل وإبادة للشعوب، إذ لو سخرت أموال هذه الصناعة المكلفة لخدمة الإنسانية، لأخرجتها من دائرة الفقر والحرمان ولعاشت شعوب العالم بأمن وسلام بعيداً عن الهيمنة والقهر والاستبداد.
كما نهيب بكافة شعوب الأمة الإسلامية أن تهب للذود عن كرامتها ودفع العدوان عن إخوتها في العقيدة والدين، \"وَإِنِ استَنصَرُوكُم فِي الدّينِ فَعَلَيكُمُ النَّصرُ\" [الأنفال: 72]، ولا ينتظر مواقف الأنظمة الحاكمة في دنيا العروبة والإسلام، فقد بان عوارها وثبت تآمر كثير منها على الأمة ومقدراتها، أنظمة رهنت نفسها لقادة الشر والعدوان أملاً في حمايتها من مواجهة قدرها بالزوال على أيدي الغزاة وفق برامجهم ومخططاتهم في الهيمنة على المنطقة بأسرها.
أيها المسلمون، إن إسلامكم يمتلك من المبادئ الخيرة ما يسعد الأمة، بل ما يسعد البشرية جمعاء، إن عدتم إلى هذا الدين تطبقونه شريعة ونظام حياة، يعيد للأمة مجدها ووحدتها وكرامتها وعزتها في ظل الحكم الإسلامي الراشد، والله يقول: \"أَفَحُكمَ الجَـاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكماً لّقَومٍ, يُوقِنُونَ\" [المائدة: 50].
أما أنتم يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، فوطنوا أنفسكم على الصبر والرباط والثبات في أرضكم الطاهرة، فقد شرفكم الله بسدانة مسجدها الأقصى، وجعلكم حلقة الرباط الممتدة وطليعة الأمة في المحافظة على مقدساتها وقدسها وديار الإسراء والمعراج، فمزيداً من اليقظة والتكافل والتعاون والارتفاع إلى مستوى المسؤولية لاجتياز هذه المحنة التي تواجه الأمة بأسرها، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
_____________
[1] أخرجه أحمد في المسند(6/395)، والطبراني في الكبير(3627)، والبيهقي في الشعب(7/45)، كلهم من حديث خباب. قال الهيثمي في المجمع (5/248): رجاله رجال الصحيحين، خلا عبد الله بن خباب، وهو ثقة. والحديث صححه ابن حبان (284)، والحاكم (1/151).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد