بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الرحمن الرحيم, الحليم العليم العزيز الحكيم, أحمد ربي وأشكره, وأتوب إليه وأستغفره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم, وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله, ذو الخلق الكريم, اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ذوي النهج القويم.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واحذروا عقابه فلا تعصوه.
أيها المسلمون، اعملوا أن الإسلام جاء لتحقيق غاية عظيمة، وجاء ليقوم بمهمة جسيمة، ألا وهي القيام بحق الله - تعالى - وحقوق الخلق، لقول الله - تعالى -: \"وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً وَبِالوالِدَينِ إِحسَـاناً وَبِذِى القُربَى وَاليَتَـامَى وَالمَسَـاكِينِ وَالجَارِ ذِى القُربَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّـاحِبِ بِالجَنبِ وَابنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَت أَيمَـانُكُم إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبٌّ مَن كَانَ مُختَالاً فَخُوراً\" [النساء: 36]، وما سوى هذه الغاية من عُمران الأرض، وتشريع الحدود، وكف الظلم ونحو ذلك، فهو تابع للغاية الكبرى، التي هي الوفاء بحق الله وحقوق الخلق، ووسيلة إلى هذه الغاية، وتمهيد إليها.
والخلق الحسن أساس القيام بحق الله وحقوق الخلق، والخلق الحسن بالإيمان أصل الوفاء بحق الله وحق العباد، وبذلك ترفع الدرجات وتكفر السيئات، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) رواه أبو داود، وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي وقال:\"حديث حسن صحيح\"، فالخلق الحسن هو جماع الخير كله.
والخلق الحسن هو كل صفة حميدة في الشرع والعقل المستقيم، وقال بعض أهل العلم: \"الخلق الحسن بذل الخير وكف الشر\"، ويقال:\"الخلق الحسن بذل الندى وكف الأذى\".
والقول الجامع للخلق الحسن هو كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه، كالأمر بالتقوى والإخلاص والصبر والحلم والأناة والحياء والعفة والغيرة وبر الوالدين وصلة الأرحام والرحمة وإغاثة الملهوف والشجاعة والكرم والصدق وسلامة الصدر والرفق والوفاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الجوار والتواضع والتحمل والسماحة والأمانة ومجانبة المكر والغدر والخيانة والخديعة والفواحش والمنكرات وخبائث المشروبات وخبائث المآكل والكذب والبهتان والشح والبخل والجبن والرياء والكبر والعجب والظلم والعدوان والحقد والغل والحسد والبعد عن التهم ونحو ذلك.
والخلق الحسن ينفع المؤمن في الدنيا والآخرة، ويرفع درجته عند ربه، وينتفع بخلقه البر والفاجر، وأما الكافر فإنما ينفعه خلقه في الدنيا، ويثيبه الله عليه في العاجلة، وأما الآخرة فليس له فيها نصيب، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، أرأيت عبد الله بن جدعان فإنه كان يقري الضيف، ويكسب المعدوم ويعين على نوائب الدهر، أينفعه ذلك؟ فقال النبي: ((لا، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
وقد أمر الله - تعالى - في كتابه العظيم بكل خلق كريم، ونهى عن كل خلق ذميم، وجاءت السنة النبوية كذلك، آمرة بكل خصلة حميدة، ناهية عن كل خصلة خبيثة، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، وحسبنا في ذلك مثل قول الله - تعالى -: \" وَلاَ تَقرَبُوا الفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ \" [الأنعام: 151]، وقول الله - تعالى -: \"الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالكَـاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَـافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبٌّ المُحسِنِينَ\" [آل عمران: 134]، وقول الله - عز وجل -: \"خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجَـاهِلِينَ \"[الأعراف: 199]، وقول الله - تعالى -: \"وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ\"[النحل: 127]، وقوله - عز وجل -: \"وَلاَ تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيّئَةُ ادفَع بِالَّتِي هِي أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌ حَمِيمٌ\" [فصلت:34]، وقول الله - تعالى -: \"وَاخفِض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنِينَ\" [الشعراء: 215]، وقوله - تعالى -: \"تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرضِ وَلاَ فَسَاداً وَالعَـاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ\" [القصص: 83]، وقول الله - عز وجل -: \"وَعِبَادُ الرَّحمَـانِ الَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى الأرضِ هَوناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِم سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرِف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءت مُستَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَم يُسرِفُوا وَلَم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ لاَ يَدعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهَاً ءاخَرَ وَلاَ يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ وَلاَ يَزنُونَ\" [الفرقان: 63ـ 68]، وقوله - عز وجل -: \"يَـأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ \"[المائدة: 1]، وقول الله - تعالى -: \"وَمَا ءاتَـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاكُم عَنهُ فَانتَهُوا \" [الحشر: 7].
وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه)) رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هيِّن ليِّن سهل)) رواه الترمذي وقال:\"حديث حسن\".
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم.
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله عن البر والإثم فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) رواه مسلم.
الخلق الحسن بركة على صاحبه وعلى مجتمعه، وخير ونماء، ورفعة عند الله وسناء، ومحبة في قلوب الخلق وطمأنينة وانشراح في الصدر، وتيسير في الأمور، وذكر حسن في الدنيا، وحسن عاقبة في الأخرى.
وسوء الخلق شؤم ومحق بركة، وبغض في الخلق، وظلمة في القلوب، وشقاء عاجل، وشر آجل.
أيها المسلمون: اقتدوا بالسلف الصالح، الذين اتصفوا بمكارم الأخلاق وشهد لهم بذلك العليم الخلاق، في مثل قوله - تعالى -: \"مٌّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم تَرَاهُم رُكَّعاً سُجَّداً يَبتَغُونَ فَضلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضوَاناً سِيمَـاهُم في وُجُوهِهِم مّن أَثَرِ السٌّجُودِ\" [الفتح: 29]، وقوله - تعالى -: \"كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ \" [آل عمران: 110]، فهم خير الناس للناس، وقول الله - تعالى -: \"مّنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَّن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً \" [الأحزاب: 23].
وكل واحد من الصحابة - رضي الله عنهم -أمةٌ وحدة في مكارم الأخلاق، والبعد عن سفاسف الأمور، يُعلم هذا من تفصيل سيرهم وأحوالهم - رضي الله عنهم -.
والمثل الأعلى في كل خلق كريم، وفي كل وصف حميد عظيم، سيد البشر سيدنا محمد، فهو القدوة التامة في كل شيء، قال الله - تعالى -: \"لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً \" [الأحزاب: 21]، فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه.
واعتنى أعظم عناية بتربية الأمة على كل خلق حميد وفعل رشيد، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) رواه أحمد.
وأثنى الله على نبيه أفضل الثناء، ثناءً يتردد في سمع الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون من الجن والإنس، ولا تنسيه سرمدية الزمان، قال الله - تعالى -: \"وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ, عَظِيمٍ, \" [القلم: 4] وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28].
عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سئلت عن خلق رسول الله: فقالت: كان خلقه القرآن.
قال ابن كثير - رحمه الله - :\"صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجية له، وخلقًا تطبّعه، وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيمº من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل\" انتهى كلامه.
وحتى قبل البعثة لم يجدوا على محمد سيد البشر سقطة ولا عيبًا يُذمّ به، مع كثرة أعدائه، وتوافر دواعيهم وحرصهم، ولما فجأه الوحي قال لخديجة - رضي الله عنها -: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
فهذا بعض خلقه الكريم قبل البعثة، فأتم الله عليه النعمة والخلق العظيم بعد البعثة.
فتأسوا - معشر المسلمين- بنبيكم، بالتمسك بدينه القيم، والعمل بشريعته الغراء، والتخلق بأخلاقه الكريمة، بقدر ما يوفقكم الله لذلك، واحملوا أنفسكم على منهجه مخلصين لله - تعالى - متبعين لسنته، غير مبتدعين في دينه، قال الله - تعالى -:\"قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ \" [آل عمران: 21].
واعلموا - عباد الله- أن المداراة من الخلق الحسن، والمداهنة من الخلق المذموم، فالمداراة هي دفع الشر بالقول الحسن أو الفعل الحسن، وتبليغ الحق بأسلم وسيلة، وتكون في بعض الأحوال، والمداهنة هي السكوت عن الحق، أو الموافقة في المعصية قال الله - تعالى -: \"يأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ \" [الحج: 77].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولي المتقين، أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - كما أمر، وابتعدوا عما نهى عنه وزجر، فقد أمركم الله بقوله: \"إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإحسَانِ وَإِيتَآء ذِي القُربَى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاء وَالمُنكَرِ والبغي يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ\" [النحل: 90]، وهذه آية جامعة لكل خلق كريم، ناهية عن كل خلق ذميم.
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله وحسن الخلق))، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: ((الفم والفرج)) رواه الترمذي وقال: \"حديث حسن صحيح\".
فتمسكوا -عباد الله- بأخلاق دينكم، وحافظوا على هدي نبيكم، تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
عباد الله: \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النبي يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً\" [الأحزاب: 56]، وقد قال: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)). فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آهل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد