الظلم وعاقبته يوم القيامة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

  

الخطبة الأولى:

 اعلم أيها الراجي- لسعادة نفسه في الدنيا ونجاتها في الآخِرة - أن الظلم عاقبته وخيمة سيئة. وهو منبع كل رذيلة ومصدر كل شر. وحَدٌّ الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه اللائق به. ومتى انتشر الظلم وشاع في أمة أهلكَها وإذا حلّ بقرية أو مدينة دمّرها، والظلم والفساد شقيقان. بهما تخرب الديار وتزول الأمصار وتقِلّ البركات. والظلم ظُلُمات تَزِلّ به الأقدام وتضِلّ به الأفهام، وينتشر بسببه الفزع والاضطراب بين الناس. وأعظم الظلم وأشدّه وأخبثه الشرك بالله - تعالى - قال - جل وعلا -:  \"إنّ الشرك لظلم عظيم\". وقال سبحانه:  \"إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادِقها\". وقال - تعالى -:  \"ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع\"  وقال - جلّ شأنه-:  \"وسَيَعلم الذين ظَلَموا أيّ مُنقَلَبٍ, ينقلبون\". وقال - عز وجل -: \"ولو ترى إذِ الظالمون في غَمَرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تُجزَون عذاب الهُون بما كنتم تقولون على الله غير الحقّ وكنتم عن آياته تستكبرون\". وقال - تعالى -:  \"ولا تَحسَبنّ الله غافلاً عما يَعمَل الظالمون\". هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم في حق الظالمين. وأمّا السُنّة فهِي حافلةٌ بالأحاديث التي تُرَهِّب من الظلم وما أعدّه الله للظالمين، فمِن ذلك ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الظُلم ظُلُمات يوم القيامة)) وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظُلُمات يوم القيامة..)).

 

وعن أبي موسى - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: ((إنّ الله ليُملي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته)) ثم قرأ - عليه الصلاة والسلام-:  \"وكذلك أخذُ ربِّك إذا أخَذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذَه أليم شديد\".

 

وظُلم الناس عباد الله صور كثيرة جَمَعَها النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع حين قال: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم)). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي  أنّه قال: ((من كانت عنده مَظلَمة لأخيه من عرض أو شيء فليَتَحلّله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمَل صالح أُخِذ منه بقدر مَظلَمته وإن لم تكُن له حسنات أُخِذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه)).

 

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله  قال: ((أتدرون مَن المُفلس؟ قالوا: المُفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المُفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتَم هذا وقَذَف هذا وأكل مال هذا وسَفَك دَمَ هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثم طُرح في النار)). وعن جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا قال رسول الله: ((إنّ الرجل لتُرفع له يوم القيامة صحيفة حتى يرى نفسه أنه ناجٍ,، فما تزال مظالم بني آدم تَتبعه حتى ما يَبقى له حسنة ويحمل عليه من سيئاتهم)).

 

فيا ويح أهل الظلم واللهو والغِنا        إذا أقبلت يوم الحساب جهنّمُ

إذا ما رآها المُجرمون وأيقنوا          بأنّ لهم فيها شراب ومَطعَمُ

ضريع وزقّوم ويتلوه مشرب           حميم لأمعاء الشقيين يهذم

ومن قطران كسوة قد تسربلوا          وسيقوا لما فيه العذاب المُخيِّمُ

 

وعن أبي ذر - رضي الله عنه- عن النبي  فيما يرويه عن ربه أنه قال: ((يا عبادي إنّي حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم مُحرَّماً فلا تظالموا)). واحذر يا عبد الله من الظلم فإنّ للمظلوم عند ربه دعوةً مستجابة لا تُرَد. فعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن رسول الله  بعَث معاذاً إلى اليمن فقال له: ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: ((ثلاثة لا تُردّ دعوتهم الصائم حتى يُفطِر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويَفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزّتي لأنصُرنّكِ ولو بعد حين)). بل إن الله ليستجيب لدعوة المظلوم وإن كان فاجراً فاسقاً ذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام-: ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه)).

 

فهيهات أن ينجو الظَلوم وخلفه        سِهام دعاءٍ, من قِسيِّ ركوع

فالمظلوم في حقه أو ماله يَدفعُ عنه الظلمَ أخوه المسلم بكل ما يستطيع من الوسائل. فعن أنس - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال: رجل يا رسول الله أنصُره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصره)). والقصد أن تكون اليد مع يد المظلوم حتى يأخذ حقّه. وأما نصر الظالم فمنعه عن الظلم، فإذا أراد أخذَ مالٍ, حُلت بينه وبينه، وأخذت بيده، وإن أراد البطش ببريء ضربت على يده، وإن كانت النصيحة تنفعه فاسلكها معه حتى ينتهي ويرجع عن ظُلمه.

 

ولا يختص الظلم بأصحاب الوظائف والمناصب بل إن الظلم يشمل هؤلاء وكل من كانت له سُلطة على بيت أو على أُسرة, ففي الأسرة: الكبير والصغير والقوي والضعيف والرجل والمرأة، لكلّ واحد من هؤلاء حقوق في أعناق المسؤول عليهم , بل إن الإنسان لَيُعَدّ ظالماً إذا تعدى على حقّ نفسه. كأن يُبذِّر ويُسرف في الإنفاق عليها. ومن ظُلم الإنسان لأهله أن يُعاملهم بالقسوة والشدة أو يَبخل عليهم فلا يُنفق النفقة الواجبة أو لا يُحسن معاشرتهم فقد ذكر أن عمر رضي الله عنه كان ذات يوم مُستَلقياً على ظهره في بيته وصبيانه يلعبون حوله فدخل عليهم أحدُ وُلاته فأنكر عليه ذلك، فقال له عمر: كيف أنت مع أهلك؟ فقال: إذا دخلت سكت الناطق. فعَزَله عمر من ولايته وقال له: إنك لا ترفق بأهلك وولدك فكيف ترفق بأمة محمد.

 

ومن أعظم ظلم الرجل لأولاده أن يتركهم بلا أمر ولا نهي ولا يُؤَدّبهم ولا يُوجّههم، ولربما وجدته يأمر وينهى الناس البعيدين عنه. ومن ظُلم الرجل لجيرانه أن لا يقوم بحقّ الجوار لهم, فلا يواسيهم بل لا يَكُفّ عنهم شره وشر أولاده وأهله، ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تلك المرأة التي لم تنفعها صلاتها بالليل ولا صيامها بالنهار لأنها كانت تَظلِم جيرانها وتؤذيهم بلسانها قال فيها رسول الله: ((لا خير فيها، هي من أهل النار)) نعوذ بالله من النار ومن الظلم والظالمين والحمد لله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية:

 وبعد:

 

فقد وصل الناس اليوم في ظلم بعضهم بعضاً إلى حدّ أن يقول القائل فيهم: كأنهم لا يؤمنون بالبعث ولا بالموت ولا بأنّ الجزاء واقع على الأعمال، وذلك لأنّهم غفَلوا عن عواقب الظلم في الدنيا والآخرة. ولو أنهم علموا أن شقاء الدنيا والآخرة ناتِج عن الظلم ما دنا من الظلم أحد، وقد سمِعتم طرَفاً من النصوص التي تُرهّب من الظلم وأصحابه وتُبيّن الوعيد الشديد على مُرتَكبه وأن من قبل ردّ المظالم أحاط به خُصماؤه يوم القيامة فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته وهذا يُمسك يده وهذا يتعلّق برقبته, هذا يقول: ظلمَني فغَشّني وذاك يقول: ظلمني فخدعني، وثالث يقول: ظلمني فأكل مالي, ورابع يقول: ظلمني فاغتابني، وآخر يقول: كذب عليّ, والجار يقول: جاوَرَني فلان فأساء جواري، وهذا يقول: رآني مظلوماً فلم ينصرني، وهذا يقول: رآني على مُنكر فلم ينهَني، وهذا يقول: جَحَد مالي أو مَطَلني حقي, وهذا يقول: باعني وأخفى عنّي عيب السّلعة, وهذا يقول: شهِد عليّ بالزور، وهذه زوجة تقول: ظلمني في النفقة ولم يُحسن عِشرتي أو تقول: لم يَعدِل بيني وبين زوجته الأخرى. وهذا الزوج يقول عَصَتني زوجتي ونَشَزَت علي.

 

أنت على تلك الحال المُخيفة التي لا يرى فيها بغضك من كثرة من تعلّق بك من المظلومين الذين أحكموا فيك أيدَيهم وأنشبوا فيك مخالبهم وأنت مُتحيِّرٌ مضطرب العقل من كثرتهم ومُطالبتهم حقوقَهم, فلم يَبق منهم أحد ممن عاشرته في الدنيا وظلمتَه إلا وقد استحقّ عليك مَظلَمة.

 

إذا قَرَع سمعك نداء الجبّار - جل وعلا -:  \"اليوم تُجزى كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم\".

 

فعند ذلك ينخَلِع قلبك وتضطرب أعضاؤك من الهيبة, وتوقن نفسُك بالخسران، وتتذكّر ما أنذرك الله - تعالى - به على لسان رُسُله حيث قال:  \"ولا تَحسَبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مُهطعين مقنعي رؤوسهم لا يَرتدّ إليهم طَرفهم وأفئدتهم هواء\". وقال أيضاً:  \"وترى الظالمين لمّا رأوا العذاب يقولون هل إلى مرَدٍّ, من سبيل  وتراهم يُعرَضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طَرفٍ, خفي\". فيالها من مصيبة وما أشدّها من حسرة في ذلك اليوم إذا جاء الرب - جل وعلا - للفصل بين عباده بحُكمه العدل رأى الظالم وعلم أنه مُفلس فقير عاجز مَهين لا يقدر على أن يرُدّ حقاً أو يُظهِر عُذراً.

 

فعند ذلك تؤخذ حسناته التي تعِب عليها في عُمُره ليلاً ونهاراً حضراً وسفَراً، وتُعطى للخُصَماء عِوَضاً عن حقوقهم، فلينظر العاقل فيكم إلى المصيبة في مثل ذلك اليوم الذي رُبَّما لا يبقى معه شيء من الحسنات وإن بقي شيء أخَذه الغُرماء، فكيف تكون حالك أيها العبد إذا رأيت صحيفتك خالية من حسنات طالما تَعِبت عليها فإذا سَألت عنها قيل لك: نُقِلت إلى صحيفة خصمائك الذين ظلمتهم. وكيف بك إذا رأيت صحيفتك مشحونة مملوءة بسيئات لم تعملها، فإذا سَألت عنها من أين جاءت إليك قيل: هذه سيئات القوم الذين طالما اغتَبتَهُم وتناولت أموالهم بالباطل وشتمتهم وخُنتَهم في البيع والجوار والمعاملة.

 

أحسبت يا بن آدم أنّك تُهمَل وتترك فلا تعاقب وتظلم وتتقلّب في النعم كيف شئت ولا تُحاسب؟

 

أنسيت قول النبي: ((إنّ الله لَيُملي للظالم حتى إذا أخَذه لم يُفلِته)). كل هذه من جهالتك وعميان بصيرتك، ولكن اعمل ما شئت فإنّك مُحاسب عليه وأحبب من شئت فإنّك مُفارقه واظلم من شئت فإنه مُنتصر منك يوم القيامة نسأل الله - تعالى - أن يُجنِّبنا الظلم وأن يكفينا شر الظالمين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply