بسم الله الرحمن الرحيم
إن الله - تعالى -خلق الخلق لعبادته، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ورغَّبهم في الجنة، ورهَّبهم من النار، وذكرهم بما هم مقبلون عليه بعد الموت من أهوال وكربات عظام، لكن الكثير من الناس ينسى هذه الحقائق ويغفل عنها: (اقتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُم وَهُم فِي غَفلَةٍ, مُعرِضُونَ * مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرٍ, مِن رَبِّهِم مُحدَثٍ, إِلاَّ استَمَعُوهُ وَهُم يَلعَبُونَ)[الأنبياء: 1- 2]، حتى إن المرء لو نظر لأحوال هؤلاء لوجد جرأة عجيبة على الله، وسَيرًا في طريق المعاصي والشهوات، وتهاونًا بالفرائض والواجبات، فيتساءل: هل يُصدِّق هؤلاء بالجنة والنار؟ أم تراهم وعدوا بالنجاة من النار وكأنها خلقت لغيرهم؟ يقول الله - تعالى -: (أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثاً وَأَنَّكُم إِلَينَا لا تُرجَعُونَ) [المؤمنون: 115].
إن حال هؤلاء يصدق فيه قول القائل:
نهارك يا مغرور سهو وغفـلةٌ....... وليلك نومٌ والردى لك لازمٌ
وشغلك فيما سوف تكره غبـه....... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
بين الغفلة وصاحبها:
الغفلة تستحكم في القلب حين يتبع المرء هواهº فيوالي أوامر الشيطان، وينسى هدي الرحمن. قال - سبحانه -: \"وَلا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا\".
تمر الجنائز بالناس يجهزونها ويصلون عليها ويسيرون خلفها يشيعونها محمولة إلى مثواها الأخير. فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير. أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف. ثم سرعان ما يغلب على الناس نشوة الحياة وغفلة المعاش.
أهل الغفلة أعمارهم عليهم حجة، وأيامهم تقودهم إلى شقوة. كيف ترجى الآخرة بغير عمل؟ أم كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟.
يا أهل الغفلة: هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟ وكم من مطمئن إليها صرعته؟؟ وكم من محتال فيها خدعته؟ وذي نخوة أردته ذليلا؟ سلطانها دول، وحلوها مر، وعذبها أجاج، وعزيزها مغلوب، العمر فيها قصير، والعظيم فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دارها مكارة، وأيامها غرارة، ولأصحابها بالسوء أمارة. الأحوال فيها إما نعم زائلة وإما بلايا نازلة وإما منايا قاضية. عمارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب.
أهل الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يدركون كل ما أملوا، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون. ويأملون ما لا يدركون: \"ذَرهُم يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلهِهِمُ الامَلُ فَسَوفَ يَعلَمُونَ\" [الحجر: 3].
يا أهل الغفلة أيها المسلمون أيها المسلمات: (أكثروا من ذكر هادم اللذات)[2] بهذا أوصى نبيكم محمد. كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظةº فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة كما يقول القرطبي - رحمه الله - تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ.
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، (فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيقها)[3].
وايم الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يبلى، والحي منا ومنكم أن يموت وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمرها وشربنا من مائها، ثم تكون كما قال الله: \"وَنُفِخَ فِي الصٌّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَـاواتِ وَمَن فِى الأرضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخرَىا فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ\" [الزمر: 68].
لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: (يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)[4]، وسأله - عليه الصلاة والسلام - رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: (أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)[5]. (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)[6].
يقول الحسن - رحمه الله -: إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ, بها فرحاً.
ويقول يونس بن عبيد: ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال.
ويقول مطرِّفٌ: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيماً لا موت فيه. لقد أمِنَ أهل الجنة الموت فطاب لهم عيشهم وأمنوا الأسقام فهنيئا لهم طول مقامهم.
اللحود مساكنهم، والتراب أكفانهم، والرفات جيرانهم لا يجيبون داعياً، ولا يسمعون منادياً. كانوا أطول أعماراً وأكثر آثاراً، فما أغناهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبورا، وما جمعوا بورا، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: \"أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَـاكُم عَبَثاً وَأَنَّكُم إِلَينَا لاَ تُرجَعُونَ\" [المؤمنون: 115].
هل تفكرت يا عبد الله يوم المصرع، يوم ليس لدفعه حيلة، ولا ينفع عند نزوله ندم. أزِل عن قلبك غشاوة الغافلين، فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور، ومن يسأل عن لحظات العيون، ويحاسب على إصغاء الأسماع: \"يَومَئِذٍ, تُعرَضُونَ لاَ تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ\" [الحاقة: 18].
تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويمنع الركون إلى الدنيا، ويهون المصائب.
تذكروا الموت لعلكم تسلمون من حسرة الفوت.
إن من أعظم أسباب الغفلة:
1. الجهل بالله - عز وجل - وأسمائه وصفاته. والحق أن كثيرًا من الناس لم يعرفوا ربهم حق المعرفة، ولو عرفوه حق المعرفة ما غفلوا عن ذكره، وما غفلوا عن أوامره ونواهيهº لأن المعرفة الحقيقية تورث القلب تعظيم الرب ومحبته وخوفه ورجاءه، فيستحي العارف أن يراه ربه على معصية، أو أن يراه غافلاً. فأُنس الجاهلين بالمعاصي والشهوات، أما أُنس العارفين فبالذكر والطاعات.
2. الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها. قال الله - عز وجل -: (ذَرهُم يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوفَ يَعلَمُونَ)[الحجر: 3].
إن حال هؤلاء هو سُكر بحب الدنيا وكأنهم مخلدون فيها، لن يخرجوا منها، مع أن القرآن يهتف بنا: (يَا أَيٌّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقُّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدٌّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ)[فاطر: 5].
إن سكران الدنيا لا يفيق منها إلا في عسكر الموتى نادما مع الغافلين.
3. صحبة السوء، فقد قيل: الصاحب ساحب، والطبع يسرق من الطبع، فمن جالس أهل الغفلة والجرأة على المعاصي سرى إلى نفسه هذا الداء: (وَيَومَ يَعَضٌّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ يَقُولُ يَا لَيتَنِي اتَّخَذتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيلَتَى لَيتَنِي لَم أَتَّخِذ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَد أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكرِ بَعدَ إِذ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً)[الفرقان: 27-29].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"المرء على دين خليله.... \" الحديث.
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: إن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه وأَولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.
يقول الله - تعالى -: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) [الأنبياء: 1]،
** فلو نظرت إلى أحوال الخلق من مرقب عال، وسَبَرت حالهم في مجملهº لم تميز بين مجتمعهم، وبين مجتمع المغضوب عليهم والضالين إلا في بعض المظاهر والشعارات:
لهث وراء المادة في غير اقتصاد
اكتساب من غير احتساب
سهر في غير طاعة.. عمل بغير نية.. تجارة في لهو عن ذكر الله..
ولاء لعدو الله.. حرفة في جهل بدين الله.. وظيفة في الإخلاص لغير الله.
. أحكام في مشاقة الله.. شغلٌ في ضلالة.. قعود في بطالة..
حياة في غفلة وجهالة وشتات وفرقة. أمة لم تتميز.
فهي والأحداث تستهدفها *** تعشق اللهو وتهوى الطربا
أمة قد فت في ساعدها *** بغضُها الأهلَ وحبٌّ الغُرَبا
والذي يتأمل أحوال الناس في هذا الزمن يرى كثرة إعراضهم عن منهج الله وغفلتهم عن الآخرة وعن ما خلقوا من أجله وكأنهم لم يخلقوا للعبادة، وإنما خلقوا للدنيا وشهواتها، فإنهم إن فكروا فللدنيا وإن أحبوا فللدنيا. وإن عملوا فللدنيا، فيها يتخاصمون ومن أجلها يتقاتلون وبسببها يتهاونون أو يتركون كثيراً من أوامر ربهم، حتى أن بعضهم مستعد أن يترك الصلاة أو يؤخرها عن وقتها من أجل اجتماع عمل أو من أجل مباراة أو موعد مهم ونحو ذلك!! كل شيء في حياتهم له مكان! للوظيفة مكان، للرياضة مكان، للتجارة مكان للرحلات مكان، للأفلام والمسلسلات وللأغاني مكان، للنوم مكان، للأكل والشرب مكان، كل شيء له مكان إلا القرآن وأوامر الديان، تجد الواحد منهم ما أعقله وأذكاه في أمور دنياه، لكن هذا العاقل المسكين لم يستفد من عقله فيما ينفعه في أُخراه، ولم يقده عقله إلى أبسط أمر وهو طريق الهداية والاستقامة على دين الله الذي فيه سعادته في الدنيا والآخرة، وهذا هو والله غاية الحرمان (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)! من يرى أحوالهم وما هم عليه من شدة جرأتهم على ارتكاب المعاصي وتهاونهم بها يقول: إن هؤلاء إما أنهم لم يصدقوا بالنار، أو أن النار قد خلقت لغيرهم، نسوا الحساب والعقاب وتعاموا عما أمامهم من أهوال وصعاب (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون)! [الحجر: 72. ]. انشغلوا براحة أبدانهم وسعادتها في الدنيا الفانية، وأهملوا سعادتها وراحتها في الأخرى الباقية. ما أحرصهم على أموالهم وما أحرصهم على وظائفهم، وصحتهم، لكن أمور دينهم والتفقه فيها وتطبيقها والتقيد بها فهي آخر ما يفكرون فيه إن هم فكروا.
أوقاتهم ضائعة بلا فائدة، بل إن أغلبها قد تضيع في المحرمات وإضاعة الواجباتº يبحثون بزعمهم عن الراحة والسعادة، وهم بعملهم هذا لن يجدوا إلا الشقاء والتعاسة، شعروا بذلك أم لم يشعروا لقوله - تعالى -: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124]، ولقد مات عند الكثير من هؤلاء الشعور بالذنب، ومات عندهم الشعور بالتقصير، حتى ظن الكثير منهم أنه على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد محافظته على الصلوات ظن في نفسه خيراً عظيماً، وأنه بذلك قد حاز الإسلام كله وأن الجنة تنتظره في نهاية المطاف، ونسي هذا المسكين مئات الذنوب والمعاصي التي يرتكبها صباحاً ومساءً: من غيبة أو بهتان أو نظرة إلى الحرام أو شرب لحرام أو غير ذلك من المعاصي والمخالفات، التي يستهين بها ولا يلقي لها بالاً ويظن أنها لا تضره شيئاً وهي التي قد تكون سبباً لهلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة وهو لا يشعر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"إياكم ومحقرات الذنوب فإنها إذا اجتمعت على العبد أهلكته \"، ناهيك عن ما يرتكبه البعض من كبائر وموبقات من ربا وزنا ولواط ورشوة وعقوق ونحو ذلك.
وإن المرء ليعجب والله أشد العجب! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟ ألم يسألوا أنفسهم؟ ثم ماذا في النهاية؟ ماذا بعد كل هذه الشهوات والملذات؟ ماذا بعد هذا اللهو والعبث؟ ماذا بعد هذه الحياة التافهة المملوءة بالمعاصي والمخالفات؟ هل غفل أولئك عما وراء ذلك؟ هل غفلوا عن الموت والحساب والقبر والصراط، والنار والعذاب، أهوال وأهوال وأمور تشيب منها مفارق الولدان، ذهبت اللذات وبقيت التبعات، وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، متاع قليل ثم عذاب أليم وصراخ وعويل في دركات الجحيم، فهل من عاقل يعتبر ويتدبر، ويعمل لما خلق له ويستعد لما أمامه مثل هؤلاء المساكين الغافلين السادرين في غيّهم قد أغلقت الحضارات الحديثة أعينهم، وألهتهم الحياة الدنيا عن حقائقهم ومآلهم، ولكنهم سوف يندمون أشد الندم إذا استمروا في غيهم ولهوهم وعنادهم ولم يفيقوا من غفلتهم وسباتهم ويتوبوا إلى ربهم. يقول - تعالى - عن مثل هؤلاء: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) [الحجر: 3] أي دعهم يعيشون كالأنعام ولا يهتمون إلا بالطعام والشراب واللباس والشهوات!؟. ألم يأن لكل مسلم أن يعلم حقيقة الحياة والغاية التي من أجلها خلق؟
تا الله لو عاش الفتى في عمره *** ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلـذذاً فيـها بكل نعمة *** متنعمـاً فيها بنعمى عصره
ما كـان ذلك كله في أن يفي *** بمبيت أول ليـلة في قـبره
أخي الحبيب:
قف قليلاً وراجع نفسك وحاسبها وانظر كيف أنت في هذه الحياة، هل أنت من أولئك اللاهين الغافلين أم لا؟ وهل أنت تسير في الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله وجنته، أم أنك تسير وفق رغباتك وشهواتك حتى ولو كان في ذلك شقاؤك وهلاكك، انظر أخي في أي الطريقين تسير فإن المسألة والله خطيرة وإن الأمر جد وليس بهزل، ولا أظن أن عندك شيء أغلى من نفسك فاحرص على نجاتها وفكاكها من النار ومن غضب الجبار، انظر أخي الحبيب كيف أنت مع أوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هل عملت بهذه الأوامر وطبقتها في واقع حياتك أم أهملتها وتجاهلتها وطبقت ما يناسبك ويوافق رغباتك وشهواتك.
* إن المسلم الحق وقته كله عبادة والدين عنده ليس شعائر تعبدية فحسب يؤديها ثم يعيش بعد ذلك ي
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد