بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد, فيا أيها الأخيار الأبرار, روى أحمد، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله)).
أيها الأحبة في الله, ليال معدودات، ويهل علينا هلال رمضان، هلال التوحيد والعقيدة، هلال التوبة والاستغفار، هلال الجود والكرم، نسأل الله تبارك و تعالى - أن يبلغنا إياه، وأن يوفقنا لصيامه وقيامه، على ما يحب ربنا ويرضاه.
إخوة العقيدة, لاشك أن كل بيت من بيوتنا، قد أعد قائمة بأسماء أصناف من المأكولات والمشروبات التي اعتاد الناس على تناولها في شهر رمضان، وأصبحت الأسواق على قدم وساق، تستقبل أفواج المستهلكين، ولذلك فقد أعددت لكم قائمة أخرى بمطالب رمضانية، قل أن يتذكرها الإنسان الصائم، آمل أن توفقوا في الحصول عليها، ومن فاته مطلب من هذه المطالب، فليحزن بقدوم رمضان بدلاً من أن يفرح، وليبكِ بدلاً من يضحك.
المطلب الأول: تقوى الواحد الأحد – سبحانه -، تقواه سراً قبل العلانية، وخفية قبل المجاهرة، فإنها صفة المؤمن الصادق مع ربه، التي لا تنفك عنه، وما معنى هذه التقوى التي طالما تحدث عنها الخطباء على المنابر، ونبه إليها الوعّاظ والمتحدثون، تقوى الله هي أن لا يجدك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، تقوى الله هي فعل أوامره كاملة، واجتناب نواهيه كاملة.
ما أسهل لفظها، وما أصعب تطبيقها، لا يطيق تطبيقها إلاّ الأفذاذ من الرجال، الذين اشتروا الآخرة وباعوا الدنيا، ولذلك كم تجد في القرآن الأمر بالتقوى، وكم تجد في القرآن مدح المتقين، ومع ذلك قلَّ من يتنبه لهذا، ويخشى الله ويتقه \"وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللَّهَ وَيَتَّقهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الفَائِزُون\" [النور:52]، \"يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ\" [آل عمران:102] \"أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ\" [النساء:1].
ومن أعظم الأمور التي شرع الصيام من أجلها تقوى الله \"يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ\" [البقرة:183], فاتقوا الله عباد الله إن الصائم الصادق المخلص هو من جعل مخافة الله بين عينيه، ومن كان يوم فطره ويوم صيامه سواء فكبر عليه أربعاً لوفاته، ماذا يجني ذلك الصائم الذي صام وأنهك نفسه ثم تراه يقترف المعاصي واحدة تلو الأخرى، ماذا يجني ذلك الصائم الذي صام وأنهك نفسه ثم تراه يؤخر الصلاة، أو لا يصلي أصلاً، ماذا يجني ذلك الصائم الذي صام وأنهك نفسه ثم تراه يصبح على الأغاني والملاهي ويمسي عليها، ماذا يجني ذلك الصائم الذي صام وأنهك نفسه ثم تراه يسب ويشتم ويغتاب ويكذب، أهذه هي التقوى؟! أهذا هو الصيام؟! سبحان الله العظيم، ما شُرع الصيام إلاّ لتتقوى به النفس على التقوى، ولتتهذب به من أدرانها وأقذارها.
المطلب الثاني من مطالب رمضان: إخلاص النية لله - تبارك و تعالى -، نحن لا نصوم لأن الناس يصومون، ولا نفطر لأن الناس يفطرون، ولا نمتنع عن الطعام والشراب خوف العار والفضيحة والمسبة القبيحة، إنما صومنا وصلاتنا وسائر عبادتنا لله الواحد القهار لا شريك له \"قُل إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ العَـالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ\" [الأنعام:162، 163].
صيامنا لله، احتساباً لثواب الله، الذي وعدنا به، وخوفاً من عذاب الله، الذي حذرنا إياه، ومن صام رياء، أو خوف مسبة أو عار، فهو بالإثم أحق من الأجر، لا يقبل الله عمله، بل يرده في وجهه مذموماً مدحوراً، \"وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدّينَ\" [البينة:5], \"قُل إني أُمِرتُ أَن أَعبُدَ اللَّهَ مُخلِصاً لَّهُ الدّينَ\" [الزمر:11], \"قُلِ اللَّهَ أَعبُدُ مُخلِصاً لَّهُ ديني\" [الزمر:14].
إخلاص القلب أمر عظيم، لا تقبل العبادة مطلقاً إلاّ به، به تفترق العبادة عن الشرك، فمن صام لله فهو طائع عابد، ومن صام للناس فهو عاص مشرك شرك رياء، ولذا قال الله في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له, الحسنة بعشر أمثالها إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))، لأنه سر بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه أحد سواه.
المطلب الثالث: تطهير القلب، وترك التشاحن والتقاطع، فإن ذلك ـ أي التشاحن والتقاطع ـ يقطع قبول العبادة، والله يرفع عمل كل إنسان إلاّ المتشاحنَين، فإنه يقول انظروا هذين حتى يصطلحا.
وأي صوم صامه ذلك القلب المليء بالشحناء والبغضاء والحسد والغيظ على عباد الله، أليسوا جميعاً عباد الله إخواناً، جمعتهم ملة واحدة، وشريعة واحدة، أليس الله قد حذرنا مغبة التفرق والتقاطع، أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الله لا ينظر إلى عمل المتشاحنَين، فلم يفرح برمضان صاحب القلب الأسود؟! ولم يستبشر بقدوم رمضان من لن ينظر الله إلى صيامه أو قيامه؟!
أي غباء هذا وأي تخلف أن تجعل الدنيا وسوء التفاهم يحبطان عملك، فتضيع عليك دنياك وأخراك، ورب صائم ـ كما قال المعلم الأول - عليه الصلاة والسلام - ((رب صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلاّ السهر والتعب))، نعوذ بالله من عدم القبول.
تطهير القلب, من مطالب رمضان، لأن الصائم يطهر قلبه من الحسد، فالحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ومن الغيبة والنميمة والكذب، وقد عدها بعض العلماء من المفطرات المعنوية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
وقول الزور يشمل كل قول محرم، من كذب أو غيبة، أو فحش أو بذاءة لسان.
والعمل به أي العمل بالمحرم، كالظلم, والغش، والتقاطع، والتهاجر، والاعتداء على الغير، في أموالهم وأعراضهم، كل ذلك من لم يدعه في صيامه، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، قال بعض السلف:\"أهون الصيام: ترك الطعام والشراب\"، وقال جابر: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم, ودع أذى جارك، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء).
إذا لم يكن في السمع مني تصـاون *** وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ *** فـإن قلت إني صمت يوماً فما صمت
ومن مطالب رمضان: الصبر لله وتحمل المشاق في سبيل الاجتهاد في الطاعة، واحتساب الأجر في ترك الشهوات المحببة للنفس، كالطعام والشراب والنكاح وغيرها, فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله - عز وجل -، في موضع لا يطلع عليه إلاّ الله كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان.
قال بعض السلف:\"طوبى لمن ترك شهوة حاضرة، لموعد غيب لم يره\".
وقال ابن رجب - رحمه الله -:\" لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه، في ترك شهواته، قدم رضا مولاه على هواه، وصارت لذاته في ترك شهواته للهº لإيمانه باطلاع الله عليه، وثوابه وعقابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة، إيثاراً لرضا ربه على هوى نفسه.
بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أكثر من كراهيته لألم الضرب، ولهذا أكثر المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه بكراهة الله لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمانº أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته، إذا علم أن الله يكرهه، فتصير لذته فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفاً لهواه، ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه، وإن كان موافقاً لهواه.
وإذا كان هذا فيما حُرِّم لعارض الصوم، من الطعام والشراب ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق، كالزنا وشرب الخمر، وأخذ الأموال والأعراض بغير حق، وسفك الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال، وفي كل زمان ومكان\".اهـ.
ومن المطالب الضرورية في رمضان: المحافظة على الوقت الثمين، الذي لا يعرف قيمته إلاّ من أوتي فهماً وبصيرة.
أيها الأحباب, شهر رمضانº ليس موسماً للرحلات، ولا للّعب والسهرات، فيما يغضب رب الأرض والسماوات، ولا موسماً للكسل والخمول، والنوم والبطالة.
شهر رمضانº هو زكاة الشهور، يجتهد فيه المسلم في عبادة ربه، وما يدريك لعله آخر رمضان تدركه، وكم من عزيز وقريب وأخ في الله، صلوا معنا رمضان الماضي، وقاموا لله، وقلنا حينها: من يدري يعيش إلى رمضان القادم، فإذا الموت تخطانا إليهم، منهم من هو في زهرة الشباب ونضارته، وكان يستغرب أن لا يدرك رمضان هذا العام، فإذا به يدركه لكن في صفوف الموتى، وتحت جنادل التراب، مرهوناً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وقت رمضان أيها المؤمنون ليس كسائر الأوقات، وقت رمضان إذا استغله المؤمن يرفع عند الله من الدرجات ما لا يحيط به عقل.
وأكبر نعمة عليك يا عبد الله أن يدركك شهر رمضان، ففي المسند أن نفراً ثلاثة قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -, فأسلموا، فكانوا عند أبي طلحة، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثاً فخرج فيه أحد الثلاثة فاستشهد، ثم بعث بعثاً آخر فخرج الثاني فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه، قال أبو طلحة: فرأيتهم ـ يعني الثلاثة ـ في الجنة، فرأيتهم في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استشهد ثانياً يليه، ورأيت الذي استشهد أولهم أخرهم، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وما أنكرت من ذلك، أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصامه، قالوا: بلى، قال: وصلى كذا وكذا سجدة في السنة، قالوا: بلى، قال: فلما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)).
فاحرصوا عباد الله على اغتنام الأوقات خاصة مثل هذه الأيام المباركة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد..
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد, شهر رمضان،هو شهر القرآن، فيه أنزل، وفيه تدارس القرآن نبي الهدى مع جبريل - عليه السلام -، كان يعارضه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عارضه مرتين.
ولذلك، انكب السلف الصالح على كتاب ربهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، لا يملون تكراره، ولا يسأمون أخباره، كان بعض السلف يختم في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، وكان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين، وكان الشافعي يختم في رمضان ستون ختمة، وكان مالك إذا دخل رمضان، نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
فاقتدوا رحمكم الله بسلفكم الصالح، اجعلوا للقرآن حظاً وافراً من أوقاتكم، أحيوا به الليل، وتغنوا به في النهار، فإنه شفيع لكم يوم العرض على الله، كما في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)).
منع القرآن بوعـــده ووعيــده *** مـقـل العيون بليلها لا تهجــع
فهمـوا عن الملك العظيـم كلامـه *** فهماً تذل له الرقــاب وتخضـع
ثم اعلموا عباد الله أن خير ما استقبلتم به شهركم المبارك، توبة نصوحاً تمحو الذنوب والخطايا، وتجعل صفحاتكم مع ربكم بيضاء نقية، لا تشوبها المعاصي والآثام.
\"يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبٌّكُم أَن يُكَفّرَ عَنكُم سَيّئَـاتِكُم وَيُدخِلَكُم جَنَّـاتٍ, تَجرِى مِن تَحتِهَا الأَنهَـارُ يَومَ لاَ يُخزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ نُورُهُم يَسعَى بَينَ أَيدِيهِم وَبِأَيمَـانِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتمِم لَنَا نُورَنَا وَاغفِر لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَيء قَدِيرٌ\" [التحريم:8].
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب *** حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهـر الصـوم بعدهمـا *** فلا تصيره أيضاً شهر عصيـان
واتل القرآن وسبح فيـه مجتهــداً *** فإنـه شهـر تسبيـح وقــرآن
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد