لقد جاءت تعاليم الشريعة الإسلامية بالمحافظة على بناء الأسرة من التصدع، وإغلاق الطرق الموصلة إلى الشقاق والخلاف والفرقة.
وكان في مقدمة من سلك هذا المنهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واقتدى به كل صاحب نفس كبيرة وهمة عالية، احتمالاً للناس وصبراً عليهم وقبول ما تيسر من أخلاقهم، وحسن تعاملهم، والتغاضي عن هفواتهم فوسِعوا الناسَ بأخلاقهم وحسنِ تعاملهم.
وموضوع (الإصلاح والتسامح) كبير تعظم الحاجة إليه حين تمر بنا المحن وتعصف بالأسرة والأمة أمواج التناحر فتحلل روابطها وتصدع جدران الثقة بين أفرادها، عبر منافذ الشك والتخوين ومصادرة الحقوق والانزلاق في التناحر، وتصفية الحسابات، ولا يمكن أن تقاوم هذه الأمراض ويحافظ على تلك المكاسب إلا بالتسامح والغض عن الهفوات ومحاصرة الشبهات.
إن أسوأ ذكريات التاريخ هي فترات الاضطراب الأمني والفرقة الاجتماعية، والقطيعة، والشحناء متى وجدت طريقا بين المسلمين. قطعت أواصرهم، وذهبت ريحهم، واشتغلوا بأنفسهم عن العمل والبناء والعطاء.
منهج الإصلاح موضوع يهمنا جميعاً، فيه النور الذي يبدد الظلمات، والعصمة من الفتنة، والحكمة التي تدفع الطيش. وقطع الطريق على علل النفوس وكوامن الحسد. ومعنى الإصلاح واسعº فحال العباد فيما بينهم وبين ربهم، والإنسان فيما بينه وبين نفسه، و إصلاح المجتمع بما يليق به من مكانة ورسالة. تلك أهداف يرتبط بعضها ببعض، وعليها تتوقف سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
إن عزة المجتمع وقوته وازدهاره مرهونة بتحقيق هذا المعنى العظيم، يقول الحق - عز وجل -: (وَمَا نُرسِلُ المُرسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَن آمَنَ وَأَصلَحَ فَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ) [الأنعام: 48]، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: \"أَلا أُخبِرُكُم بِأَفضَلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ البَينِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَينِ هِيَ الحَالِقَةُ\" أخرجه الترمذي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - وقال: هذا حديث صحيح.
إصلاح ذات البين بإزالة أسباب الخصام، أو بالتسامح والعفو، أو بالتراضيº وبهذا يذهب البين وتنحل عقدة الفرقة.
كما يكون برأب ما تصدع، وإزالة الفساد الذي دبَّ إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا.
الإصلاح سمة واجبة لازمة لنجاة المجتمعات من الهلاك في الدنيا: (وما كان ربّك لِيهلِك القرى بِظلم وأهلها مصلِحون) [هود: 117].
الإصلاح يُذهب وغر الصدور، ويجمع الشمل، ويضم الجماعة، ويزيل الفرقة، المصلحون والساعون في الإصلاح: أشخاص نبلاء شرُفت نفوسهم، وصفت قلوبهم، وصحت عزائمهم، وأشرقت ضمائرهم، حريصون على حفظ الأسرار، متنزهون عن الرغبة في غلبة طرفٍ, على آخر، يقول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: \"يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين اثنين صدقة\" رواه مسلم.
وقال - تعالى -: (لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقةٍ, أو معروفٍ, أو إصلاحٍ, بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).
وإن من حرص الإسلام لتحقيق المصلحة واندفاع المفسدة التي تقع بالفرقة والقطيعة أن أباح الكذب للمصلح بقدر الحاجة التي تحقق الغاية المنشودة من الصلحº أخرج مسلم حديثَ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيراً. قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس، والحرب، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها\".
قال - تعالى -عن شعيب - عليه السلام -: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
صورة متكاملة، ومنهج واضح، وتطبيق عملي في خطابٍ, يعلن المبادئ، ويبين المسالك، ويظهر قاعدة الانطلاق فلا انطلاق قبل وضوح الرؤية، وقبل بيان الحكم، وقبل معرفة الحق من الباطل، وقبل إزالة الالتباس والاشتباه. ثم التزام الإصلاح قبل الدعوة إليه من أعظم أسباب نجاحه، (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه).
وهنا أمر مهم ومقصد عظيم وهو الإخلاص في الإصلاح (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما)..إنه إصلاح وليس تحصيل مصالح شخصية، ولا ينطلق من نوازع نفسية ولا ردود أفعال عاطفية ولا حماس طائش.
الإصلاح عملية شاملة واسعة، لا تحدها حدود، ولا تختص بفئة ولا بمجال معين، ولكل ميدان رجاله وآلته، ولا يلزم من كل مصلح أن يكون كاملاً خالياً من كل نقص وعيبº لكن المصلح عليه أن يكون متحليا بالأخلاق الفاضلة، مقبولاً لدى جميع الأطراف المتخاصمة، عليه أن يتحمل قسوتهمº لأنه في مقام عظيم يستوجب الصبر والحلم والحكمة والذكاء.
المصلح يتجنب الخوض في تفاصيل الأمور ودقائقها حين المصالحة.
المصلح حيادي يتخذ من العدل والقسط شعاراً يمكنه من حصول المقصود.
المصلح يضبط الصلح ويحسمه في مكان المصالحة، ولا يمكن لأطراف خارجية تزيد القضية طولاً وتعقيدًا.
وثمة ملحظ في قوله - تعالى -: (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) فإن تضييق دائرة المشكلة وحصرها في الأقربين يقطع الطريق على اجتهادات من خارج الذات.
المصلح الناجح هو الذي يسهل المشكلة على الطرفين، ويكون مع الحق وان كان صاحبه لا يحسن الوصول إليه.
المصلح الناجح: يدرك أهمية سعة الصدر واستيعاب الناس وقبولهم وتحمل خشونتهم في تعاملهم، فإن صاحب الحاجة أعمى حتى تقضى حاجته.
المصلح الناجح: الذي لا يستعجل في طرح الحلول الارتجاليةº بل يعطي المشكلة عصفاً ذهنياً، ويستشير أهل الخبرة والاختصاص. المصلح الناجح الذي يبني الفأل الحسن في قلوب الناس، ويقنعهم بأن الحياة ما زالت فسيحة والبدائل والعوض قائم (فمن عفى وأصلح فأجره على الله).
أخي المصلح إياك أن تخرج عن وساطة الخير حتى وإن بدا لك الغبنº فإن الله - تعالى -يقول: (والصلح خير) حاشا عفوا لا إصلاح فيه كمن يعفو عمن ظهر فسادهم وزادهم العفو جرأة وظنوا الصفح ضعفا، ومن ذلك منع الشفاعة حين تصل الحدود إلى السلطان حتى لا يهون جنابه، أو يضعف سلطان بضغط الوساطة، ولله در القائل الملهم عمر - رضي الله عنه -: \"أدركوا الخصوم قبل حكم القاضي فإنه سيبقى بعد الحكم في النفوس أشياء\" أو كما ورد عنه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد