بالصدق تسري الطمأنينة في النفوس، ويشيع الهدوء في القلوب. وبالصدق تظهر الحجة، فيُلهم الصادق حجته، ويسدَّد منطقُه. حتى إنه لا يكاد ينطق بشيء يظنه إلا جاء على ما ظنه، كما قال عامر العدواني: \"إني وجدت صدق الحديث طرفاً من الغيب فاصدقوا\". ومن اعتاد الصدق حظي بالثناء الحسن الجميل من سائر الناس وثقتهم: { وَجَعَلنَا لَهُم لِسَانَ صِدقٍ, عَلِيّاً } (مريم: 50).
فالصدق ثمرة الإخلاص والتقوى، قال - صلى الله عليه وسلم -: َ{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُون} (البقرة: 177)
ومما يؤكد جلالة الصدق وعلو شأنه، اتصاف الله - صلى الله عليه وسلم - به، كما في قوله - تعالى -: }قُل صَدَقَ اللَّهُ}(آل عمران: 95). وقوله: {وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}(النساء: 87).
والمؤمن إذا خالط الحق نفسه واستقر الإيمان في أعماق قلبه، كان الصدق منهجه في أقواله وأفعاله، بل وحتى في نواياه وعزائمه وهممه، إذ أن هناك الصدق في العزائم، ثم الصدق في الوفاء بهاº ولذا فإن الله - صلى الله عليه وسلم - قد امتدح الذين ثبت عزمهم ووفوا بذلك فقال: {مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ}(الأحزاب: 23). قال عبد الواحد بن زيد البصري: \"كان الحسن البصري إذا أمر بشيء كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن شيء كان من أترك الناس له، ولم أرَ أحدا قط أشبه سريرته بعلانيته منه\".
ولذلك عرف العلماء الصدق بقولهم:
هو موافقة الحق في السر والعلانية واستواء الظاهر والباطن.
وللصدق أنواع كثيرة جداً:
فالصدق مع الله يكون بالوفاء بعهده، ويشمل تحقيق التوحيد وإخلاص الدين له والقيام بدينه، والثبات عليه في جميع الأحوال. قال - تعالى -: { وَبِعَهدِ اللَّهِ أَوفُوا }(الأنعام: 152)، والصدق مع الناس، ويكون في الأخبار والأقوال والأفعال، وبأداء الأمانة والتعامل بالعدل والإحسان إلى غير ذلك.
والصدق مع النفس:
بوضوح المقاصد وتجريدها، وصدق العزائم، ومن ذلك محاسبة النفس، فلا بد لمن أراد الاستقامة على الدين والتخلص من الذنوب أن يلزم نفسه التعرف على الحق، ثم عرضه على النفس، ثم تقييمها بنزاهة ووضوح، و بعد ذلك يكون صادقا بالحكم على نفسه، ولا يلتمس لها المعاذير، ثم يصدق في العزيمة على التوبة، ويصدق بالوفاء بذلك العزم وتصديقه عملاً وسلوكاً، وبهذا يكون قد صدق مع نفسه وأنجاها من الهلكة.
وأشد ما يكون الصدق وأفضل ما يتحصل به الأجر والمنزلة عند المواقف الصعبة، وعندما يرى صاحبه أن الصدق يضرٌّ بهº كمواقف قول الحق المرّ في النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكالجهر بكلمة الحق أمام سلطان جائر.
قال بعض الحكماء:
الصدق منجيك وإن خفته، والخيانة والكذب مرديك وإن أمنته.
وأهم ما يبعث الصدق في النفس ويحملها عليه:
معرفة الرب جل جلاله، وأنه وصف به نفسه في مواطن كثيرة من كتاب الله - تعالى -، وأنه يمقت القائل بغير عمل، والعامل بما لا يتصف به باطناً، ومن بواعث ذلك معرفة الدين والشرعº حيث أمر بالصدق وجعل أهل الصدق هم أهل الكرامة في الدارين.
والعقل والمروءة باعثة على الصدق، مانعة من الكذب، وكان أهل الفضل يتركون الكذب أنفةº لأنه عيب ومنقصة، وكذلك طهارة القلب وسلامة السريرة مؤدية للصدق، إذ إن سوء السريرة والأحقاد تدفع صاحبها للكذب والافتراءº طلباً للتشفي والانتقام. ومما يحمل على الصدق قطع النظر عن مدح الناس وذمهم عند إتيان الصدق، ومعرفة عواقب الصدق الحميدة في الدنيا والآخرة.
ومن عواقب الصدق الحميدة في الآخرة:
أنه يثبت حجة صاحبه يوم القيامة وينجيه من هلكة ذلك اليوم{هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم}(المائدة: 119)، كما أنه من أعظم أسباب دخول الجنة \"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة\".
بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضمِن الجنة لمن سلك سبيل الصدق \"أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه\".
وفي عصرنا هذا راج الكذب وأصبح فنا وسياسة ودعاية، وقد تولى كِبَر هذا الكذب الإعلام الموجَّه، وأصبح الكذب وإخفاء الحقائق وتقليبها أحد الأسلحة الفتاكة التي تستعمل ضد المسلمين، بل وبين المسلمين أنفسهم.
ومن مظاهر غياب الصدق في حياة المسلمين :
اليوم انتشار الكذب بين أفراد المجتمع، ومنها إخلاف الوعد، وأبرز الأمثلة على ذلك: التخلف عن المواعيد المضروبة والتأخر عنها، وكذلك وعد الأم لأحد أبنائها بأن تعطيه عطية ثم لا تفي بذلك، وهي بذلك قد احتملت وزرين: وزر إخلاف الوعد، ووزر تنشئة ابنها على الكذب.
ومن صور تخلف الصدق في التعامل بين المسلمين :
الغش في البيع والمعاملات، ومنها أيضاً غياب الصدق في الخِطبة من كلا الطرفين: الخاطب والمخطوبة، وإخفاء العيوب وإبراز المحاسن، وهذا يمحق بركة الزواج وتسوء فيه العواقب.
ومما يجدر بنا ذكره من مظاهر غياب الصدق، بل وخيانة الأمانة:
ادعاء بعض الموظفين والموظفات المرضº لأخذ إجازة مرضية والحقيقة خلاف ذلك، وهذا عمل محرم وأخذ جزء من مال المرتب بغير حق ـ كما أفتى بذلك العلماء وجعلوه من خيانة الأمانة ـ إلى جانب أنه ادعاء مرض عافاه الله منه.
ومن المهم التنبيه إلى ما وقع فيه البعض من جعل الصدق مبرراً للأخطاء والافتراءº إذ أن من الصدق ما يقوم مقام الكذب في القبح والإثم، ويزيد عليه في الأذى والمضرة، ومن ذلك:
الغيبة..
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال \"أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم.قال: ذكرك أخاك بما يكره.
قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟
قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته\" (صحيح مسلم)
النميمة:
وهي \"نقل الكلام على وجه السعاية والتفرقة\" وهي من الكبائر \"لا يدخل الجنة نمام\" (صحيح مسلم).
وروي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه دخل عليه رجل فذكر عنده رجلاً فقال عمر: \"إن شئت نظرنا في أمرك: إن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: {إِن جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ, فَتَبَيَّنُوا}(الحجرات: 6). وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ, مَشَّاءٍ, بِنَمِيمٍ,}(القلم: 11) وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود لمثل ذلك.
* التصريح أو التلميح بعيب الشخص أمامه، على وجه السخرية أو النقد اللاذع، أو بنية التسبب في إحراجه ونقص قدره عند الآخرين، ولو كان ذلك على وجه المزاح.
نسأل الله أن يلهمنا الصدق في السر والعلانية، وأن يكتبنا في ديوان الصادقينº لنكون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد