الأخوة الكرام: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:
فإن مما ميز الله به الإنسان جملة من الصفات والقدرات التي تؤهله لعمارة الأرض والاستخلاف فيها، ومن هذه الصفات: الحياة، وهي سرُّ من أسرار الله - تعالى- لا يمنحها لأحد إلا هو، ولا ينزعها من أحد إلا هو - سبحانه -، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وزوده مع (الحياة) بالإرادة، والقدرة، والفاعليةº حتى يستطيع بها العيش في الأرض، ومواجهة معترك الحياة، والاستجابة لأوامر الله - تعالى- وتكاليفه.
(والفاعلية) صفة امتداح (بحدِّ ذاتها)، وهي من صفات الكمال، لذلك فلله منها أجلّ وصف وأعظمه، فقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه (فعال) فقال تعالى: ((إن ربك فعَّال لما يريد)) هود 107، ((ذو العرش المجيد فعال لما يريد)) البروج.
فأفعاله سبحانه صادرة عن إرادته، لا ملجئ ولا مكره ولا موجب له سبحانه، بل كما أخبر ((يفعل ما يشاء)) إبراهيم 27، و (( إن الله يفعل ما يريد)) الحج 14، وهكذا في أكثر من آية.
ومقتضى أفعاله سبحانه: الخير، والرحمة، والعدل، وفي القرآن: ((بيدك الخير إنك على كل شيءٍ, قدير)) آل عمران 26، وجاء عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال في الثناء على ربه: ((والشر ليس إليك))، فلا ينسب إليه الشر، ولذلك يستعاذ به من غضبه وسخطه ومقته، ولا يقال: ((أعوذ بك من شرك))، بل جاء في سورة الفلق ((قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق)) فنسب الشر إلى خلقهº لأنه عيب ونقص، لذلك فإن الله لا يسئل عما يفعل: ((لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)) الأنبياء 23.
ووصف الله - تعالى- نفسه ممتدحاً بعد أن ذكر قدرته على طي السماء وإعادة الخلق والبعث ((وعداً علينا إنا كنا فاعلين)) الأنبياء 104.
والفاعلية صفة من صفات الملائكة مدحهم الله بها لاقترانها بطاعته مطلقاً، فقال تعالى: ((يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)) النحل 50، وقال أيضاً عنهم: ((لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)) التحريم 6.
ومعروف أن من الملائكة من يعمرون السماء، ومنهم الخزنة، والحفظة، والكتبة، والسائحون في الأرض يتلمسون مجالس الذكر، ومنهم القانتون، والمسبحون، وجنود الحرب، والبطش، والسطوة، وحملة العرش، والمخولون بالرياح، والسحاب. ومنهم 4.900.000.000 أربعة مليار وتسعمائة مليون ملك يحضرون جهنم يوم القيامة، وغيرهم الكثير الكثير مما لا يعلم عددهم وصفتهم وعملهم إلا الله - تعالى وتقدس -.
والفاعلية صفة من صفات الأنبياء التي مدحهم الله بها مقرونة بالخير، فقال تعالى: ((وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)) الأنبياء 73، وقال أيضاً عن زكريا ويحيى وزوجته (بيوت النبوة): ((إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين)) الأنبياء 90.
فإذاً لا بد للإنسان من فعل، لأنه فاعل بطبعه وفطرته، وإذا كان الأمر كذلك فإن الأجدر به أن يفعل الخير، وفعل الخير مفهوم يتوجه للمخلوقين وليس للخالق – سبحانه -، أي أن الدعوة في القرآن الكريم إلى فعل الخير يقصد به الخير المتعدى إلى الخلق، وذلك في الغالب الأعم منها قال تعالى: ((اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)) الحج 77.
والخير قرين الإحسان والنفع والفائدة، ومن أسباب الهلكة يوم القيامة منع الخير عن لناس: ((ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتدٍ, مريب الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد)) ق: 24- 26، وجاء في وصف المستحق للعذاب ((همازٍ, مشاء بنميم مناعٍ, للخير معتدٍ, أثيم)) القلم 12.
ومصدر الخير في الإنسان قلبه، كما أن مصدر صلاحه القلب كما جاء في الحديث: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
فالقلب منبع الخير، يقول تعالى في إشارة منه لهذا المعنى: ((إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفورٌ رحيم)) الأنفال 70.
ومهما بلغ الإنسان من الشر فإن فيه نزعة للخير إذا نماها وزكاها فلح، وإلا ماتت ومات قلبه معها، يقول الله - تعالى- عن أهل الكتاب حتى لا يعتدي المؤمنون في الحكم: ((ليسو سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)) آل عمران 113- 114.
وفعل الخير والبر والإحسان إلى الناس من الإيمان، ولا ينفع إيمان بدون خير يقول الله - تعالى-: ((يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً)) الأنعام 158.
وإن الله تعالى ليهدي إلى الإسلام والسنة الكافر والمبتدع لما في قلبه من الخير الذي يعلمه: ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم)) يونس 9.
وإنه سبحانه ليضل المرء يظهر صلاحه واستقامته لما يعلمه من الشر الذي في قلبه، فالقلوب في جميع الأحوال محل إطلاع الرب - سبحانه - دون من سواه، فالله الله في تطهيرها وتزكيتها.
والخير اسم جامع لأبواب كثيرة جداً، لا يستطيع المرء لها حصراً، لذلك نبه الله - تعالى- عباده إلى اختيار ما يناسبهم من أبواب الخير، ثم يتسابقوا كل في وجهته، قال تعالى: ((ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات)) البقرة 148.
ولا يعجز الإنسان عن الخير مطلقاً مهما كان فاقداً للمقدرة، فمن حرم المال لا يحرم الكلام الطيب، ومن حرم الكلام الطيب لا يحرم اللمسة الحانية على رأس يتيم، أو بسمة صادقة في وجه أخ، أونصيحة يقدمها لمستشير، أو يأمر بالمعروف أو ينهى عن منكر.
قال تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرةٍ, خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ, شراً يره)) الزلزلة 7- 8.
وفي الحقيقة فإن القرآن الكريم يشعر الفاعل للخير بحاجته هو لفعله أكثر من التأكيد على حاجة الخلق إلى فعله ((وما تنفقوا من خيرٍ, فلأنفسكم)) البقرة 272، ((وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ, تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً )) المزمل 20.
ونفعه عليه - أي نفع الخير على فاعله - يظهر في يوم يبحث الإنسان عمن ينجده من الخلق: أبوه، أمه، أخوه، ناديه، عشيرته فلا يجد عندهم النجدة.
وعندها ينفعه في موقفه ما قدم من الخير: ((يوم تجد كل نفسٍ, ما عملت من خيرٍ, محضراً)) آل عمران 30.
هذه هي حقيقة فعل الخير في القرآن الكريم، ولا يضر المرء عُرف فعله للناس أم لم يُعرف طالما الله به عليم: ((وما تفعلوا من خيرٍ, فإن الله به عليم)) البقرة 21، وبالتالي: ((وما يفعلوا من خيرٍ, فلن يكفروه والله عليم بالمتقين)) آل عمران 115.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد