بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
توطئة:
نفترض في حديثنا عن هذا العنوان وجود علاقة بين \"المسلم\" و \"الإسلام\" من جهة وبين مصطلح \"الثقافة\" من جهة أخرى، فإذا كان اللفظان الأوليان ظَاهِرَيِّ الدلالة، ومفهُومَي المعنىº فإن الآخر ليس كذلك.
فـ \"الثقافة\" لفظة غير معهودة الاستخدام باصطلاحها الحالي لدى العرب قبل الإسلام وبعده، وإن كانت مشتقة من أصل في اللغة، ألا وهو \"الثاء\" و \"القاف\" و \"الفاء\".
قال ابن منظور في لسان العرب: \"ثَقِفَ الشيءَ، ثَقفاً وثِقافاً وثُقُوفةً: حَذَقَه، ورجل ثَقفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حَاذِقٌ فَهِمٌ\"، \"وثَقُفَ الرجل ثَقَافَةً أي صار حاذقاً خفيفاً\"، ويقال: \"رجل بَيِّن الثَّقَافة واللَّقافَة\"، \"وثَقفتُهُ إذا ظَفِرتُ به، قال الله تعالى: ((فإما تَثقَفَنَّهم في الحرب..))\"، و\"ثَقفتُهُ أَخذتُهُ، ومصدره الثَّقف، وفي التنزيل العزيز: ((واقتلوهم حيث ثَقِفتُموهم))\" بتصرف. و\"الثَّقَافَةُ: العمل بالسيف\"(1)
وأعاد ابن منظور معنى الكلمة إلى ثلاثة أمور، هي:
الأول منها يدور حول الذكاء والفهم والفطنة والحذق وسرعة التعلم، والثاني وهو يدور حول الظفر بالشيء وأخذه والخفة فيه، والثالث ويدور حول تقويم الشيء وتسويته.
أما كتاب المعجم الوسيط، فقد عرَّف \"الثقافة\" بأنها \"العلوم والمعارف والفنون التي يُطلَب الحَذَقُ فيها\"(!!)(2)، وهو تعريف حديث لم يُتُعارف عليه في العلوم والمعارف الإسلامية لأن الكلمة أصلاً لم تستخدم في الحضارة العلمية والفكرية والتأليف لدى المسلمين.
وقد حاول الكٌتَّاب والمهتمين بهذا الشأن(!!) أن يحددوا معنى واضحاً لهذا المصطلح لكنهم فشلوا في ذلك نظراً لأن هذا المصطلح أساساً وافد علينا من الغرب بما يحمله من مضامين، فالثقافة في اللغة الإنجليزية (culture) مأخوذة من كلمة (cult) \"ومعناها: عبادة ودين\"، ويختلف مفكروا الغرب - أنفسهم - في تحديد معنى واضح ومحدد لها.
فتارة يعرفونها على أنها المفاهيم والمعتقدات الدينية، والأعراف والعادات السائدة، والتقاليد والنظم الاجتماعية، والآداب والفنون والقدرات، وتارة بأنها المعرفة التراكمية للمعتقدات والعادات، أو النظام المغلق من الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون، والسلوك الإنساني.
والكلمة برغم كثرة الحديث عنها لا تزال ذات دلالة غامضة وصفة ضبابية، وتفسير عملي مبهم، وبالتالي فهي صالحة للتوظيف سلباً وإيجاباً، ويراد لها اليوم أن تكون مع مصطلح \"الفكر\" و\"الحداثة\" و\"التنوير\" بدائل عن العلوم والمعارف الإسلامية، ومدخلاً لولوج سيل عارم من التصورات والعقائد والمفاهيم التي يراد لها أن تمرر دون شعور، وتحت مسميات براقة، تسحب البساط على العلماء والفقهاء والمختصين من ذوي العلم، فمثقف تقابل - إن لم تكن تفوق - عالم، ومفكر تماثل - إن لم تكن أفضل من - فقيه.. وهكذا.
\"المثقف المسلم\" استجابة للواقع وليس للحقائق:
\"المثقف المسلم\" اصطلاح مطروح، وكثر الحديث عنه أو المطالبة به، على الرغم بأن المسلم مدعو شرعاً أن يكون ملماً بعلوم دينه العقائدية والشرعية وما يضادها من تصورات وسلوكيات وعادات، وأن يكون عارفاً بسنن الكون الطبيعية والاجتماعية، وعلوم الكسب والأسباب.. وغير ذلك، و \"الثقافة\" - بمعنى الفطنة، والذكاء، والحذاقة - جزءٌ من هذا كله، فكيف يصير الجزء كلاً، ويتحول التابع إلى متبوع.
لا مانع أن نسوق \"المثقف المسلم\" في قائمة: \"العالم المسلم\" و \"الفقيه المسلم\" و \"المُحدِّث المسلم\" و\"الشاعر المسلم\" و\"الداعية المسلم\".. بحيث تأخذ حيزاً واضح المعالم لا يطغى على غيرها أو ينال من أدوارها.
لكن ما يمارسه البعض تحت مسمى \"المثقف المسلم\" من دور في الفتيا، والتصحيح والتضعيف، وتأصيل القواعد الشرعية، ونقد المناهج والمذاهب، وتفسير أحداث التاريخ، بل وتأويل آيات القرآن الكريم بدون أي حدود أو ضوابط أو مساءلة، وكأن \"المثقف المسلم\" رجل بلغ مرتبة الاجتهاد، بل وأحياناً العصمة المطلقة، والعلم الذي أحاط بكل فن ومعرفة.
لقد أراد بعض المتأثرين بالحضارة الغربية في القرن العشرين من أبناء المسلمين أن يمرر مفاهيم وعقائد وتصورات مستوردة لكن منزلته العلمية في الأمة لا تؤهله لذلك، فاستحدث - هؤلاء - مصطلح \"الثقافة\" ليكون لقباً منافساً، ومظلة تكون علماً عليهم، وقد أثَّروا كثيراً في مسيرة العالم الإسلامي، وأثاروا الشبه، وزرعوا الشكوك، وضلوا وأضلوا نظراً لأن أحداً لم يلتفت لهذا المزلق الخطير في استحداث مكانة لا حدود لممارساتها قولاً وفعلاً، فصار \"المثقف\" عند \" التنويريين\" كـ\"رب الطريقة\" عند \"الصوفية\" سواءً بسواء.
إن استخدام مصطلح \"المثقف المسلم\" يجب أن يكون واضحاً في المدلول، وفي الضوابط والحدود، ولا مانع أن نحدد في ظل قيمنا الشرعية، وموروثنا المعرفي والعلمي أدواراً وواجبات ومهاماً يقوم بها من هذه صفته، دون أن نتأثر بما عند الآخرين من خلط بين قيم الدين الإلهية وقيم البشر الوضعية، وبين الثابت والمتجدد، وبين مساحة التوحد وميادين التنوع، وبين روح الجدل النظري ومنطق التبرير الواقعي.. وهكذا.
\"الثقافة\" وليس \"الإسلامية\"!!
يدور في الأوساط المهتمة بالمفاهيم والمصطلحات جدل حول نسبة بعض الأمور للإسلام، كما هو الحال مع \"الأدب الإسلامي\" و\"الفنون الإسلامية\" و\"العادات الإسلامية\" و\"الحضارة الإسلامية\".
فهناك من يرى بأن \"الإسلام\" دين حق، وتنزيل إلهي، لا ينبغي أن يخلط بمعارف البشر، وعلومهم، وأدبهم، وعاداتهم حتى وإن كانوا مسلمين، ويصدرون فيها عن الإسلام، بل الواجب أن ينزه الإسلام عن ذلك باعتبار أنها كسب بشري يصيب ويخطئ.
وآخرون يرون أن في الأمر سعة، وأن النسبة هنا نسبة علاقة \"تاريخية\" أو \"مكانية\" أو \"شخصية\"، فيُخرِج ذلك كونها أمراً من أصل الإسلام وتكوينه، فيجوز عند البعض إطلاق \"المثقف المسلم\" ولا يجوز إطلاق \"الثقافة الإسلامية\"، بينما يبيح آخرون الوصفين معاً.. ولا مشاحاة في الاصطلاح.
وأياً يكن الأمر، ليس المهم \"اللفظ\" بقدر ما يهمنا دائماً سلامة المدلول، وصحة المعنىº بحيث تسلم العقيدة والشريعة لنا من أي دخل وشائبة ومطعن، ويغيب عن مجتمعنا الأدوار المشبوهة، والتماثيل المنحوتة المتألهة، تحت مسميات تصبغ بالقداسة الكاذبة.
لقد وضع \"الفقهاء\" و \"المحدثون\" و\"الأصوليون\" و\"الشعراء\" و\"اللغويون\" و\"المؤرخون\" أسساً وقواعد وشروطاً وضوابط ومصطلحات ومفاهيم تميز الصنعة عن غيرها، وتدل السالك على طريق التحصيل والمعرفة والطلب، وتوضح المنازل، وتفضح المدعي، وتكذب الزيف.
وواجب \"المثقفين\" من المسلمين اليوم أن يضعوا لهذا المصطلح وهذا الفن أسسه وقواعده وضوابطه ومعالمه وقوانينه، وأن يحققوا في ذلك حداً من الإجماع والاتفاق، وعلى أن يعرض ذلك على علماء الشريعة، وفقهاء الأمة، والمختصين في اللغة والعلوم المقاربة، فيكون صدوره مُقراً ومقرراً من الجميع بعد مشورة واجتهاد.
هذا هو الواجب المتحتم على كل من أراد أن يتمسك بهذا المصطلح، أما أن يكون ممارسة الحرام من الأغاني، والرقص الفاحش، والتمثيل المختلط، وعرض الأجساد العارية وتقديم \"الآخرين\" من أهل الكفر كنموذج اقتداء أو احتذاءº فهذا عمل البطالين من الفسقة، والإسلام والمسلمون منه براء.
ولا ينبغي أن تُمَّرَر مثل هذه الممارسات بأسماء براقة، وشعارات منمقة يغفل عنها المسلمون، وقد حذرهم الله – تعالى- بقوله: ((لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين(47) لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون(48))) التوبة.
إن تزيين باطل القوم، وتحسين مذاهبهم، والطعن في الدين، والتشكيك في رجالاته وتاريخه، وتشويه الحقائق تحت عنوان \"الثقافة\" وبـ \"أقلام المثقفين\" يظل واقعاً قائماً طالما وأننا نترك لهذا المصطلح العنان، ولأهله الميدان.
لقد غابت روح المبادرة \"عنا\"، وحميَّة الدفاع \"منا\"، فسهل على غيرنا هدم ما نبني، وصعب علينا هدم ما يبنون، إن بنوا أصلاً. فهلا حفظنا خصوصيتنا المعرفية واللغوية من الدَّخل والدَّخن لضمان مستقبل صافٍ,، وجيل سليم.
نأمل ذلك، وبالله التوفيق،،
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد