من آثار الاختلاط بين الجنسين


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

جئت المدرسة الغربية، التي أعرفها وتعرفني، يعرفني كل من يعلم فيها معي من إخواني، وكل من كان يتعلم فيها من أبنائي، وتعرفني غرفها وإبهاؤها، وممراتها وأبوابها، وأركانها وجدرانها، تركت فيها بقايا مني، من أيامي، من أماني وأحلامي، فلما بلغت بابها أُصبت بصدمة اهتز لها جسدي: صـاح بي البواب: ممنوع يا أفندي، فلما رآني ماضياً قدماً لا أقف عليه، ولا أتلفت إليه، وثب يعترضني ويقول: قلت لك ممنوع، فماذا تريد يا أفندي؟ قلت أريد أن أقابل المدير فتردد ثم قال لي مستسلماً: تفضل، ودخلت على مدير المدرسة، فإذا كهل يدل سمته على فضل وعلى صلاح، فانتسبت له، كما كانوا يقولون قديماً أو عرفته بنفسي، كما يقال الآن، فرحب بي وأراد أن يكرمني، فدعا بأساتذة الأدب العربي ليلقوني، فدخل رجلان وسلما وسلمت، ثم دخلت صبية حسناء، سافرة حاسرة، قصيرة الكم واسعة الجيب يبدو منها الساعد والنحر، وأعلى الصدر، تهدل خصلة من شعرها على جانب جبينها، فكلما تكلمت اهتزت فسقطت على عينيها فأزاحتها بيديها، قصيرة الثوب، ما أنعمت النظر إلى ساقها لأعرف هل تلبس جوارب أم هي كاشفت الساق؟ دخلت غير محتشمة ولا مستحيية، كأنها رجل يدخل على رجال، أو كأنها حسبتنا نساء تتكشف أمامهن كما تتكشف أمام النساء، وما طالت حيرتي في أمرها ودهشـتي منها حتى سمعت المـدير يقـدمها إلي يقـول أعـرفك بفلانة « نسيت اسمها» مدرسة الأدب العربي، ومدت يدها لتصافحني فتأخرت لحظة ثم قبضت يدي، وقلت كلمة اعتذار ما أعجبتها، وأسرعت لأتخلص من هذا الموقف فسألت المدير: هل تدرس الآنسة هنا في مدرسة كل طلابها شباب؟، فابتدرت هي الجواب، وقالت للمدير بجرأة عجيبة: يظهر أن الأستاذ لم يعجبه أن أدرس هنا، قلت للمدير: اسمح لي أسألك هل الآنسة مسلمة؟ قالت وقد انقلبت كالنمرة المتوحشة: وما دخل الإسلام في الأمر؟ قلت: يا آنسة، أنا لم أخاطبك، وإنما أخاطب المدير، فإن كنت مسلمة فالإسلام يدخل حياة المسلم كلها، يكون معه إن كان وحده، أو كان مع أهله، أو كان في سوقه، أو كان في مدرسته، يبين له حكم كل عمل من أعماله، لأنه ليس في الإسلام عمل يعمله المسلم إلا و له حكم في الشرع.

ورأيت أن الكلام معها لا يفيد، فقمت فسلمت على المدير وانصرفت، ودمي كله يغلي في عروقي، وغـضبي يضـرب قحف رأسي، وذهبت فسألت من لقيت من الشـبان في دار الأخـوة الإسلامية، فإذا هي سنة سيئة جديدة: أن يذهب مدرسون شبان إلى مدارس البنات، ومدرسات شابات إلى مدارس البنين، في أخطر مرحلة من العمر، مرحلة الدراسة المتوسطة، التي يكون فيها التلاميذ في بداية العهد بالبلوغ، نار الرغبة مشتعلة بين جوانحهم، وكوابح العقل والتجربة ضعيفة في نفوسهم، أما الدين فقد كان من أثر المستعمرين في أكثر بلاد المسلمين أنهم أضعفوه في نفوس الناشئين، وروى لي هؤلاء الشباب حوادث مما يقع في المدارس التي تدرس فيها فتيات، حوادث مخيفة أخشى على أعصاب القراء من الشباب أن أذكرها أو أن أشير إليها، فأكون من الذين يريدون الفساد في الأرض، نار وبنزين هل يكون من اجتماعهما نبع في ظل حوله ورد وياسمين؟ وذهبت فنشرت مقالة مشتعلة، لم أكتبها بقلم مقـطوف من أغصان الجنة، بل بحطبة من جهنم، تلتهب كلماتها التهاباً، فتلهب نفوس أهل الإيمان وأهل الشرف، ومن في نفسه بقية من سلائق العروبة وخلائق الإسلام، تردد صداها بين جوانب البلد تردد صدى صوت المدافع، أرضيت ناساً أبلغ الرضى، وأغضبت آخرين أعنف الغضب، حملت على الذين جاؤوا بهذه البنت فألقوها بين الشباب، حمامة بيضاء بين صقور، قد أشرعت هذه الصقور مناقيرها وأعدت مخالبها، على أنها لا تخلو هي من اللوم، فما الذي أدخلها هذا المدخل؟ وإن هي إرادته فما الذي عقد ألسنة أهلها فلم ينصحوها؟ وكف أيديهم عنها فلم يمنعوها؟ وإن هي اضطر« وما ثم اضطرار » فما لها وما لهم تختار هذا الثوب القصير، وهذا الزي المثير، وهم يقرونها على ما اختارت؟ على أنني لا أتهم شباب العراق ولا بناته، أنهم جميعاً أولادي أو أخوتي، ولا شباب الشام ومصر، ولا أتهم أحداً بضعف الخلق، ولا بامتهان العفاف، هل اتهم المنحدر إن سيرت فيه سيارتي بلا كوابح فانهارت السيارة؟ هل أتهم النار إن أدنيت يدي منها بلا حجاب؟ الطريق إنما شق لتسلكه السيارات، ولكن مع قوة الكابح « الفرامل » ويقظة السائق، والنار إنما خلقت ليستفيد منها الإنسان، فيطبخ عليها ويتدفأ بها، وكابح السيارة هنا إنما هو الزواج، والانتفاع بنار الشهوة إنما يكون بإنشاء الأسرة واستيلاد الولد، ما قال الله لنا كونوا رهباناً فعطلوا هذه الطاقة، واحبسوا السيل المندفع من فم الوادي، فمن أراد حبس السيل بعدما سال يذهب به السيل ولكن أعدوا له مجرى ليجري فيه، أو فاستفيدوا من طاقته يدر لكم معملاً، أو يسير لكم قطاراً، هذه الشهوة طاقة إن أهدرناها خسرناها، وإن وضعناها في حدودها التي حددها الله لها انتفعنا منها، إن كان المصنع ينتج لنا ثياباً وأواني وسيارات، فإن هذه الطاقة هي التي جعلها الله منتجة للناس الذين يصنعون الثياب والأدوات والسيارات، فلا تهدروها ولا تضيعوها، إن المدارس إنما عرفت لتزيد الناس علماً، لتقوم منهم الخلق، لتبعدهم عن طريق الرذيلة، وهذا الاختلاط يسوقهم إلى هذا الطريق سوقاً، لقد كانت مقالة طويلة وكان مما قلت فيها: إن من المترفين الأغنياء قوماً يراجعون الأطباء، يشكون إليهم بعض ما يجدون من الأبناء، يقولون إنهم إن حضر الغداء أو العشاء أعرضوا عنه، ولم يقبلوا عليه، فهم يطلبون لهم دواء، يفتح نفوسهم إليه، ويزيد إقبالهم عليه، ولا يخبرون الطبيب أن السبب فيما يشكونه أن الولد أكل قبل الطعام بنصف ساعة حبة « شكلاطة »، وقبلها تفاحة، وقبل ذلك شرب شراباَ حلواً، أي أنه أكل ما لا يغذيه ولا يكفيه، ولكنه شغل معدته، وأضعف شهيته.

والله قد جعل الجوع الذي تحسون به، دافعاً إلى الطعام الذي تحتاجون إليه، كما جعل الشهوة وهي جوع آخر، دافعاً إلى الزواج، فالشاب الذي يأخذ من هذه نظرة بشهوة، ومن هذه لمسة أو قبلة، لم يحقق لـه ذلك المراد من الزواج، ولم يبق عنده قوة تدفعه إليه ليقبل عليه، كان هذا الذي رأيته، وهذا الذي كتبته ونشرته قبل ثلاثين سنة، لم أكن أتصور أنه سيأتي علي يوم أرى فيه مدارس البنات في بعض بلاد المسلمين تكشف عن أجسادهن بحجة الرياضة، وتعلمهن الاختلاط باسم الفن وتخرجهن من بيوتهن للفتوة أو التدريب العسكري، وسيأتي إن أذن الله ومد في الأجل وصف ما رأينا من ذلك في الشام أيام الوحدة مع مصر، لقد رأينا شيئاً عجباً، تشيب له نواصي الأطفال، لقد كانت العـراق لما تركتها بعد أن كنـت مدرساً فيها كما كانت أكثر البلاد العربية، مثلها كمثل غدير كبير، كان عذباً صافياً فتعكر ماؤه، وخالطه الكدر، فلم يعد سائغاً شرابه، فلما عدت بعد سبع عشرة سنة « أي سنة 1954 » وجدت قوماً قد أقاموا مصفاة إلى جنب الغدير أخرجت ماء صافياً أبلغ الصفاء، عذباَ غاية العذوبة، فوضعوه في بركة صغيرة، وما خرج منه من أوضار كانت في الماء العكر، ألقيت في بركة أخرى صغيرة كلها دنس وطين وقذر هذا مثل أكثر البلاد العربية لما كنا صغاراً ومثلها الآن ترى الآن في كل بلد قلة أطهاراً صالحين متعبدين، كـأنهم « كما شبهتهم مرة غير مبالغ » من أهل الصدر الأول، وقلة أنجاساً تتلقف كل خبيث من المذاهب، وسخ من العادات، أسماؤهم أسماء المسلمين، وما هم في عقائدهم وفي أعمالهم وفي سلوكهم كالمسلمين، وسائر الناس « أي باقيهم » وجمهورهم كما كانوا من قبل، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، يقيمون الصلاة، ويصومون ويحجون، كما كان السلف يصومون ويصلون ويحجون، فالأعمال هي الأعمال، ولكن النيات ليست هي النيات، ومنهم من لا تنهاه صلاته عن فحشاء ولا منكر، ومنهم من لا يحافظ على صلواته، أو لا يكاد يصلي، ويحسب أن الإسلام قول بلا عمل، ودعوى بلا دليل، وأن الله يوم القيامة يميز أهل الجنة من أهـل النار، بـأوراق النفوس وجوازات السفر، فمن كتب فيها أنه مسلم جاز الصراط إلى الجنة، ومن كتب فيها أنه غير ذلك كب في جهنم. (ذكريات 5/178- 182)

 

آثار تعليم المرأة للأولاد الصغار

ثم سلموا التعليم في المدارس الأولية لـمعلمات بدلاً من المعلمين، ونحن لا نقول إن تعليم المرأة أولاداً صغاراً، أعمارهم دون العاشرة، محرم في ذاته، لا ليس محرماً في ذاته ولكنه ذريعة إلى الحرام، وطريق إلى الوقوع فيه في مقبل الأيام، وسد الذرائـع من قواعد الإسلام، والصغير لا يدرك جمال المرأة كما يدركه الكبير، ولا يحس إن نظر إليها بمثل ما يحس به الكبير ولكنه يختزن هذه الصورة في ذاكرته فيخرجها من مخزنها ولو بعد عشرين سنة، وأنا أذكر نساء عرفتن وأنا ابن ست سنين، قبل أكثر من سبعين سنة، وأستطيع أن أتصور الآن ملامح وجوههن، وتكوين أجسادهن، ثم إن من تشرف على تربيته النساء يلازمه أثر هذه التربية حياته كلها، يظهر ذلك في عاطفته، وفي سلوكه، في أدبه، إذا كان أديباً.(ذكريات 5/ 268-274).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply