الشيخوخة مرحلة من مراحل العمر، وحلقة من حلقات التاريخ وجزء لا يتجزأ من وجود كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية. فسنة الله في خلقه، أن يأتي الجيل بعد الجيلº على امتداد عمر البشرية المديد، فيقدم الإنسان في حياته التضحيات، وقد يتعرض لمختلف ألوان الفاقة والحاجة، أو فتنة الغنى والثراء، أو آلام المرض والعجز، وخاصة إذا رُدّ إلى أرذل العمر.
فليس من الوفاء للأجيال السابقة من المسنين، أن يهملوا أو يتركوا فريسة للضعف والحاجة في آخر حياتهم، بعد أن قدموا لأمتهم ما بوسعهم.
فمن الواجب رعايتهم والعناية بهم، عملاً بمبادئ ديننا الحنيف الذي حفظ للمسنين مكانتهم، وقدّر ذوي الشيبة في الإسلام، ودعا إلى إكرامهم وحمايتهم.
وفي هذا العصر تقف مسألة رعاية المسنين ضمن موضوعات الساعة التي يجب أن تسترعي اهتمام المسؤولين والمهتمين بقضايا الخدمة الاجتماعية، والدراسات النفسية.
هذا وإن تزايد أعداد المسنين في السنوات الأخيرة، يستوجب منا الاهتمام والدراسة المتأنية، حول ما سيقدم لهم، وما يستفاد من إمكانياتهم.
ففي خبرة المسنين عندنا عبق الماضي وذخر الحاضر، ومعاني التراحم والتعاطف، وابتغاء الأجر في خدمتهم، والتقرب إلى الله في البر بهم، خلافاً لأوضاع المسنين في المجتمعات الأخرى، التي تدعي الحضارة والتقدم.
وتبقى رعاية تلك الفئة من الآباء والأجداد، واجباً شرعياً، يتحتم علينا القيام به، وديناً يجب أن نقوم بسداده والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
معنى الشيخوخة وضرورة الاهتمام بالمسنين:
الشيخوخة طور من أطوار الحياة، وظاهرة من ظواهرها، إذا بدأت فسوف تستمر وبطريقة غير ملحوظة، وهي لا تنظر إلى الوراء، ولا تعود إلى شباب.
وهي ليست مرضاً، وإنما هي فترة يتغير فيها الإنسان تغيراً فسيولوجياً إلى صورة أخرى ليست بأفضل من سابقتها، لأن الصورة الجديدة يصاحبها ضمور في كثير من الأعضاء، وفقدان ملموس للقوة والحيوية، تزول معه ظواهر الفتوة والعنفوان، ثم تنتهي كما ينتهي كل شيء(1).
والشيخ هو من أدرك الشيخوخة، وهي غالباً عند الخمسين من العمر، وهو فوق الكهل ودون الهرم، وهو ذو المكانة من علم أو فضل أو رياسة(2).
ويرى بعض الباحثين، تقسيم المسنين من خلال مدخل العمر الزمني إلى فئات أكثر تخصيصاً، تشمل الكهل (6075 سنة)، والشيخ (7585 سنة)، والهرم (85100سنة) والمعمر من بلغ مائة عام فأكثر(3).
وهناك اتجاه آخر ينظر للمسن طبقاً لأعراض معينة إذا ظهرت عليه، يمكن اعتباره مسناً، مثل أمراض السمع والبصر وأمراض الجلد والرئة والقلب والأوعية الدموية، والجهاز الهضمي والأعراض النفسية، مثل الكآبة وانقباض النفس(4).
ويرى آخرون: أن سن الشيخوخة يبدأ عندما يبلغ الشخص سن التقاعد، وهو سن الخامسة والستين، أو الستين في معظم البلاد العربية، وهو الذي يحدد بدء هذا السن، ويظهر ذلك أيضاً من ملاحظة الحالة الصحية والجسمية، التي يعكسها المظهر الخارجي للشخص الذي ينتمي إلى زمرة المسنين(5).
وقد بدأ الاهتمام بمشكلات المسنين يزداد مع زيادة أعدادهم، ومن المتوقع أن يتضاعف عددهم خلال الثلاثين سنة القادمة.
فيوجد في العالم حالياً نحو (380 مليوناً) يبلغون سن الستين عاماً فأكثر، ويمثل هؤلاء حوالي (9%) من مجموع سكان العالم، وفق إحصاءات عام 1985م.
ويتوقع أنه قد بلغ عدد المسنين (590 مليون نسمة) عام 2000م بواقع (230 مليون) في الدول المتقدمة صناعياً، و(360 مليون) في الدول النامية(6)ولم نقف على إحصاء في ذلك.
وقد سبقت تعاليم الإسلام الحنيف الأنظمة الحديثة لرعاية الشيخوخة، إذ يحظى الكبار في مجتمعنا الإسلامي غالباً، بمزيد من التقدير والرعاية والاحترام، ويدرك هذا كل من قارن وسط الأسرة الإسلامية، مع غيرها من الأوساط الغربية والشرقية غير المسلمة، حيث نجد أن كبار السن من المسلمين سعداء، إذا قورنوا مع نظرائهم من غير المسلمين، فأولئك يعيشون في غربة ووحدة وشقاء.
ولكن ظهور المتغيرات الاجتماعية، التي تشهدها المجتمعات المعاصرة، أوجدت بعض المظاهر السلبية في حياة الأسرة المسلمة، وفي بيئة المجتمع بشكل عام، مما أدى إلى وجود بعض المظاهر السلبية المؤسفة، من عدم المبالاة والإهمال لبعض المسنين، بل والزج بهم في مأوى العجزة، أو أحد المستشفيات تهرباً من خدمتهم(7).
فرعاية تلك الفئة من الآباء والأجداد واجب علينا، فهم الذين ضحوا بعمرهم وصحتهم وفكرهم من أجل أن تظل عجلة الحياة سائرة نحو الأمام، وقد أصبح واجب رعايتهم ضرورة تحتمها القيم وتدعمها القوانين.
ورغم ذلك فإن نظم العمل تطرد كل عام ملايين من كبار السن خارج دولاب العمل، دون النظر إلى قدرتهم على العطاء، مما يسبب لهم الشعور بالوحدة والكآبة، والحاجة الملحة إلى الدخل المناسب، بعد كل التضحيات التي قدموها لذويهم وإلى مجتمعاتهم.
\"حيث إن الشيخوخة لا تعني دائماً الضعف والعجز والمرض، فكم من رجل كهل في الخمسين، بدت عليه أتعاب الشيخوخة، وكم من رجل في السبعين ظل في نشاطه أقوى من ابن الخمسين، أو الأربعين\"(8).
فالفروق الفردية لها دورها في حياة المسنين وعند غيرهم وفي تاريخنا الزاهر، نجد أن كثيراً من الشيوخ، يقصر نشاط كثير من شباب اليوم عنهم، وليس أدل على ذلك من مساهمتهم في الجهاد على ما فيه من مشاق وتضحيات، وفي دأبهم على التأليف ومجالس العلم، والقوة في العبادات وقد جاوزوا الثمانين أو المئة من أعمارهم.
ففي تاريخ سلفنا الصالح نماذج رائعة من نشاط المسنين:
فالصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى، ولزم الجهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن توفي في غزوة القسطنطينية، سنة 52ه.
\"كان قد مرض وقائد الجيش يزيد ابن معاوية، فأتاه يعوده، وقال: ما حاجتك؟! قال: حاجتي إذا أنا مت فاركب بي، ما وجدت مساغاً في أرض العدو، فإذا لم تجد فادفني، ثم ارجع ففعل\"(9).
قال الواقدي: \"مات أبو أيوب بأرض الروم سنة 52ه، ودفن عند القسطنطينية، وقبره هنالك يستسقي به الروم إذا قحطوا، وقيل: إنه مدفون في حائط القسطنطينية، وعلى قبره مزار ومسجد، وهم يعظمونه\"(10).
والتابعي الجليل موسى بن نصير رحمه الله فتح الأندلس، هو ومولاه (طارق بن زياد)، وقسماً من جنوب فرنسا.
ويذكر التاريخ له قولته وهو شيخ كبير: \"ما هزمت لي راية قط، ولا فض لي جمع، ولا نكب المسلمون معي نكبة منذ اقتحمت الأربعين، إلى أن شارفت الثمانين\".
هذا ما يفعله الإسلام في النفوس، حين تمتزج مبادئ الدين مع نفوس معتنقيه، ورغم أن موسى بن نصير رحمه الله كان أعرج مسناً، توفي سنة 99ه، في المدينة النبوية وقد قارب الثمانين(11) رحمه الله رحمة واسعة.
في حين كان حكيم الجاهلية وشاعرها \"زهير بن أبي سلمى\"، يشكو من بلوغه سن الثمانين في قوله المشهور: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
إلا أن الإسلام يصنع العجائب، وليس ذلك بغريب على دين يدعو أتباعه إلى بذل الجهد والعمل والاجتهاد حتى الموت.
وفي تاريخنا القديم والحديث مسنون: استمروا في العطاء الغزير في كافة المجالات، رغم العمر المديد، وما ذلك إلا بسبب المكانة التي يحظى بها المسنون في المجتمعات الإسلامية.
فأبو القاسم البغوي: مات وقد استكمل مائة وثلاث سنين وشهراً واحداً\".
وكان طلاب العلم يسمعون عليه، حتى مات رحمه الله (12).
وعطاء بن أبي رباح: مفتي الحرم المكي، عاش تسعين سنة، كان رحمه الله بعد ما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية، من سورة البقرة وهو قائم، لا يزول منه شيء ولا يتحرك (13).
لقد حفظ هؤلاء الأئمة الأعلام جوارحهم، ف حفظها الله لهم، كما نوه بذلك شيخ الإسلام القاضي أبو الطيب الطبري، وقد عمر أكثر من مائة سنة.
قال عنه أبو اسحق الشيرازي في الطبقات: \"شيخنا وأستاذنا، القاضي أبو الطيب، توفي عن مائة وسنتين، لم يختل عقله، ولا تغير فهمه، يفتي مع الفقهاء، ويستدرك عليهم الخطأ، ويقضي ويشهد ويحضر المواكب، إلى أن مات، ولم أر فيمن رأيت أكمل اجتهاداً وأشد تحقيقاً وأجود نظراً منه.. يرحمه الله \".
وقال القاضي ابن بكران الشامي: \"قلت للقاضي أبي الطيب، شيخنا وقد عمر: لقد مُتعت بجوارحك أيها الشيخ! قال: ولم؟! وما عصيت الله بواحدة منها قط\"(14).
وفي العصر الحديث: لم تقف الشيخوخة عائقاً أمام الأعمال العظام لدى كثير من علماء المسلمين وقادتهم.
فالحاج أمين الحسيني: كان قد انصرف منذ الصغر لمحاربة المستعمر البريطاني، والمغتصب الصهيوني في فلسطين.
وقاد حركة الإصلاح والجهاد طوال حياته، وتعاون مع حركة الشيخ عز الدين القسام الجهادية ودعمها، كما دعم جيش الجهاد المقدس بقيادة: عبدالقادر الحسيني.
وأسس الهيئة العربية العليا، وحكومة عموم فلسطين، فطاردته بريطانيا، وعاش مشرداً متنقلاً من قطر إلى آخر فما وهن ولا ضعف، ولما حضرته الوفاة، أوصى بأن يدفن في القدس، وهو من أعيان أهلها، ولكن الصهاينة رفضوا ذلك.
قالت عنه جريدة التايمز اللندنية عقب وفاته: \"مات عدو الصهيونية والإمبراطورية البريطانية\" وانتهى بموته عهد يمتد أكثر من ستين سنة، لم يهدأ له فيه بال ولم يقر له قرار، ولم يضع فيه السلاح، ولم ينسحب فيه من ميدان الكفاح(15) رحمه الله رحمة واسعة.
والشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: كان يمضي يومه في التدريس والفتوى، وقد استوقفه أحد تلاميذه يسأله: يا شيخ! بلغت هذا السن، ونرى فيك نشاطاً، لا نجده في أحد منا، نحن الشباب، فأنى لك هذا؟!
حاول الشيخ ألا يجيب، وتحت إلحاح الطالب، أجاب بجواب عظيم، إذ قال: \"يا بني إذا كانت الروح تعمل أي بالطاعة والذكر فإن الجوارح لا تكل\" رحمه الله رحمة واسعة(16).
ومن العلماء المعاصرين، من عمّر وترك من المؤلفات المفيدة والأثر الطيب، ما يذكرنا بسيرة علماء السلف.
فقد استمر الشيخ ناصر الدين الألباني: في التأليف والتحقيق، وخدمة السنة المطهرة، والحديث النبوي الشريف، حتى توفاه الله عن عمر يناهز \"الثامنة والثمانين عاماً\"، وقد بلغت كتبه ما بين مطبوع مؤلف، أو كتاب محقق خرّج أحاديثه، ما ينوف عن \"112 كتاباً\" بعضها يقع في عدة مجلدات، وكل ذلك تميز بفكر نيّر وعقل حصين، وذاكرة عجيبة، رحمه الله رحمة واسعة(17).
وهذه نماذج يسيرة من جهود العلماء في القرن العشرين، وهم كثير، نود من ذلك أن يقتدي الشباب المعاصر بتلك الهمم العظيمة فالإسلام يفجر الطاقات ويصنع العجائب لدى أتباعه صغاراً وكباراً، وفي كل عصر ومصر.
والمسنون إذا أتيحت لهم الفرصة، يحققون مساهمة ناشطة في مختلف مجالات الحياة ولا غرابة في ذلك، فقد نضجوا وأصبحت عقولهم متزنة، وتجاربهم ثرة غزيرة.
أسس رعاية المسنين في الإسلام:
لقد كفل الإسلام المسنين، عن طريق رعاية الأسرة للأبوين والجدين، ورعاية الجيرة للمسنين من الجيران، وهنالك التكافل الاجتماعي في الدولة المسلمة، والاهتمام بالشيوخ صحياً واجتماعياً واقتصادياً.
ففي نظام النفقات الذي أرسى الإسلام دعائمه، لا يمكن أن يعيش المسن في ضيق وحرج، ولاسيما إذا كان له أبناء يتكسبون أو في رعاية نظام إسلامي يطبق الشريعة الغراء.
لقد عاش المسنون في مجتمعات إسلامية، في وفرة من العيش، حيث تتعدد مصادر الإنفاق في الشريعة الإسلامية ابتداء برعاية الأسرة وانتهاء برعاية الدولة المسلمة، ممثلة في الحاكم المسلم، ومسؤولية هذه الدولة عن تأمين العمل والحاجات الضرورية، مستفيدة من روافد الإنفاق المتعددة، كالهبات والوصايا المالية، ونظام الوقف (وغيره) حسبما كان شائعاً ومطبقاً في مجتمعاتنا المسلمة.
وسوف نتحدث في هذه الفقرة عن:
مسؤولية الأسرة في الإسلام.
ومسؤولية الدولة أيضاً.
مسؤولية الأسرة في الإسلام:
يتوجب على الأبناء الإنفاق على الوالدين، إذا فقدا القدرة على التكسب، ولم تكن لهما موارد مالية.
وقد أوجب جمهور العلماء غير المالكية نفقة الوالدين وإن علوا، ولو كانا مخالفين في الدين.
قال تعالى: ( وصاحبهما في الدنيا معروفا (15) ) { لقمان: 15}.
وأصول الإنسان الذين تجب نفقتهم هم الآباء والأمهات والأجداد والجدات وإن علوا...
فإن انعدم الأولاد، ولم تكن لكبار السن مدخرات أو موارد مالية، انتقل واجب الإنفاق إلى الدولة، ممثلة في النظام الحكومي، حسب مبدأ كفالة المحتاجين، وبمقتضى الضمان الاجتماعي المقرر في الإسلام(18).
وهذا ما تشير إليه الأحاديث النبوية الشريفة، فقد جاء في الحديث الشريف: \"إيما عرصة أي بقعة أصبح فيهم امرؤ جائعاً، فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى\"(19).
وقد أوجب الإسلام على المرء نفقة والديه المحتاجين، كنوع من الرعاية الاقتصادية، وجعل الولد وماله ملكاً لأبيه.
قال عليه الصلاة والسلام: \"أنت ومالك لأبيك\"(20).
\"ويجبر الرجل على نفقة والديه وولده الذكور والإناث، إذا كانوا فقراء، وكان له ما ينفق عليهم، واستدل الفقهاء على نفقة الوالدين بقوله تعالى: وقضى\" ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا 23 ) { الإسراء: 23}، ومن الإحسان: الإنفاق عليهما عند حاجتهما\"(21).
ولما روته السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: \"إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه\".
وقد أجمع أهل العلم، على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال، واجبة في مال الولد..
ويجب الإنفاق على الأجداد والجدات وإن علوا، وبذلك قال الشافعي والثوري وأصحاب الرأي.
وقال مالك: \"لا يحب النفقة عليهم، لأن الجد ليس بأب حقيقي. يقول صاحب المغني رحمه الله: \"ولنا أي الحنابلة قوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك 233 ) { البقرة: 233}، ولأنه يدخل في مطلق اسم الولد والوالد، بدليل قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين 11 ) { النساء: 11}، فيدخل فيهم ولد البنين\"(22).
ومن حقوق الوالدين والإحسان إليهما، ألا يطالب الابن أباه بدين عليه، وهذا رأي فقهاء الحنابلة، وللأئمة آراء، وأقوال بذلك.. ودليل الحنابلة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه، يقتضيه ديناً عليه، فقال: \"أنت ومالك لأبيك\".
فرعاية المسنين تتسع دائرتها في الإسلام، وتوضع لها الضوابط الشرعية \"فالواجب في نفقة القريب، قدر الكفاية من الخبز والأدم، والكسوة بقدر الحاجة\"(23).
ويشترط لوجوب الإنفاق على الأقارب شروط ثلاثة، نوجزها بما يأتي:
1 -أن يكونوا فقراء لا مال لهم، ولا كسب يستغنون عن إنفاق غيرهم.
2 -أن يكون لمن تجب عليه النفقة، ما ينفق عليهم فاضلاً عن نفقة نفسه، إما من ماله وإما من كسبه..
3 -أن يكون المنفق وارثاً لقوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك 233 ) { البقرة: 233}.
وباعتبار أن بين المتوارثين قرابة، تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث عن سائر الناس، فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم(24).
مسؤولية الدولة في الإسلام:
إذا فقد الشيخ المسن الولد والقريب، وحرم من جو الأسرة العطوف، فمن يكفل هذا الشيخ بعد أن وهن عظمه، وضعف جسمه، وبات بحاجة ماسة إلى العلاج والغذاء والكساء؟! لابد إذن من توفير الخدمات الصحية، ومستلزمات المعيشة المناسبة، وتأتي هنا مسؤولية الحاكم المسلم.
لقد كان حكام المسلمين أعلاماً يقتدى بهم في تحمل المسؤولية ومن ثم تركوا صفحات ناصعة، سجلها التاريخ بمداد من ذهب.
قال طلحة بن عبدالله رضي الله عنه : \"خرج عمر بن الخطاب ليلة في سواد الليل، فدخل بيتاً، فلما أصبحت، ذهبت إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟!
فقالت: إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقلت لنفسي: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟! \"(25).
ولا غرابة في هذا على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقد كان يقول: \"لو أن بغلة في أطراف الجزيرة عثرت، لكنت مسؤولاً عنها يا عمر، لمَ لم تسوّ لها الطريق.
هذه هي الرعاية التي يعجز عن تخيلها أبناء هذا العصر، لكنه الإسلام الذي ربى عمر وأمثال عمر، إنه دين التراحم والتعاطف والتكافل، وبذلك ندرك أي حقوق كانت تؤدى للضعفاء والعجزة والمساكين.
فقد كان عموم الصحابة، وحكام المسلمين، يشعرون بالمسؤولية تجاه الشيوخ والأطفال والمستضعفين. و\"كيفما تكونوا يول عليكم\".
وها هي قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه تبقى منارة للسالكين بالعدل والإحساس بالمسؤولية، \"فقد كان يحلب لجيرانه أرملة وابنتها شاتهما، فلما بويع بالخلافة، قالت البنت الصغيرة: الآن لا يُحلب لنا. فقال رضي الله عنه : بل لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه\"(26).
هذا رغم أنه بويع بالخلافة، وقد تجاوز الستين من عمره.
وقد شملت رعاية المسنين أهل الذمة أيضاً، وشملت الرحمة المجتمع الإسلامي بأسره.
\"روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه أجرى على شيخ من أهل الذمة من بيت المال، وذلك أنه مر به، وهو يسأل على الأبواب\".
وفعله عمر بن عبدالعزيز أيضاً، فقال أبوعبيد: ولو علم عمر أن فيها سنة مؤقتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تعداها إلى غيرها\"(27).
\"فلا جزية على شيخ فانٍ,، ولا زمِنٍ, ولا أعمى ولا مريض لا يرجى برؤه، بل قد أيس من صحته، ولو كانوا موسرين، وهذا مذهب أحمد وأصحابه، ومالك والشافعي في أحد أقواله، لأن هؤلاء لا يقتلون ولا يقاتلون، فلا تجب عليهم الجزية، كالنساء والذرية\"(28).
فالعناية بمعالجة أمراض الشيخوخة، وتوفير مستلزمات التطبيب
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد