الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
سؤالي: ما حال طالب العلم بعد رمضان ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي تعج بهذه الفتن وجزيتم خيراً؟
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، هذا السؤال الذي سأله السائل لا شك أنه سؤال مهم بالأخص ما يتعلق فيما بعد رمضان وأنا الحقيقة سجّلت بعض المسائل قد لا تكون لها علاقة بالسؤال مباشر هي ما يتعلق بوصايا مهمة لطالب العلم وبالأخص في مثل هذه الأوقات، لكن إجابةً لهذا السؤال وما يتعلق برمضان وما بعد رمضان لا شك أن طالب العلم له خصوصية فيما يتعلق برمضان فليس هو كغيره من الناس بل له ما يخصه من العبادات والصفات والأوصاف الذي ينبغي لمثله أن يتصف بها ونحن نشاهد كثيراً من الوعاظ وأهل العلم والمصلحين ينتقدون ويعيبون على الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فلا يعرفون الفريضة وإقامة الصلاة في المساجد إلا في رمضان ولا يكفّون عن معصية الله - عز وجل - إلا في رمضان فهذه الحال لا شك أنها حال مستقبحة وقد استنكرها سلف الأمة وخلفها من أهل العلم.
إن من أعظم ما يوصى به طالب العلم في مثل هذه الأيام هو ما يتعلق بالتعبد فهي أعظم وصية ينبغي لطالب العلم أن يحتذي حذوها وينتفع بها.
فكذلك هناك صنف آخر ينبغي التنبه له أو صفة أخرى ينبغي التنبه لها وهذه الصفة أيضاً أمرها أيضاً مستقبح عند أهل العلم وهذه الصفة هي ليست صفة بعض عوام الناس أو بعض العصاة الذين لا يقيمون الصلاة إلا في رمضان بل هذه الصفة قد يتّصف بها كثير من الشباب ممّن هم على طريق الهداية أو سيماهم سيم الخير والصلاح وهم أولئك الذين لا يعرفون بعض العبادات إلا في رمضان ولا شك أن هذا خطأ ولا يليق بطالب العلم ولا يليق بمن سلك طريق الهداية ألا يعرف قراءة القرآن مثلاً إلا في رمضان ولا يعرف الصيام والقيام والوتر وكثير من الطاعات إلا في رمضان فطالب العلم بالذات له خصوصيته والحقيقة مما يُعجَب له أن كثيراً من كبار السن من عامة الناس تجده محافظاً على كثير من الطاعات أكثر بكثير من كثير من الشباب الذين ظاهرهم الخير والصلاح ولا شك أن هذا مسلك خطير وله أثر في سلوك طالب العلم فله أثر حتى في طلبه للعلم فطلب العلم المجرّد هكذا الذي لا يسنده سلوك حسن ولا تسلكه عبادة خاصة ولا يسلكه تعبّد وإخبات لله - عز وجل - هذا ما أسرع أن ينقطع عن طلب العلم بخلاف ذلك الذي له خبيئة مع الله وله طريقته مع الله - عز وجل - وعلاقته مع الله - عز وجل - في تعبده وسلوكه وبكائه وانطراحه بين يدي الله إلى آخر تلك الصفات التي كان سلف الأمة يحرصون عليها.
ولو قرأتم في سير سلف الأمة من العلماء والذين ذُكر تراجمهم وفُصّلت تراجمهم فيما يتعلق بعبادتهم لرأيتم عجباً كيف هؤلاء العلماء الأفذاذ تفرغوا لكثير من العبادات حتى أصبحوا يسابقون العبّاد الذين هم متخصصون فقط في العبادة فتجد طالب العلم أو العالم الذي شُغِل وقته بكثير من التأليف والتعليم والتعلّم والرحلة في طلب العلم إلا أنه أيضاً تجده مسابقاً في العبادة فيُضرب به المثل في قنوته وتعبّده وقيامه لليل وصيامه للنهار إلى آخر أنواع العبادات التي يسابق فيها وهذا للأسف أقول للأسف لأنه ملاحَظ فقد مثل هذا التعبد عند كثير من الشباب وكثير بالأخص من طلبة العلم ولا شك أن هذا الأمر ينبغي أن نتناصح به جميعاً نحن وإياكم جميعاً فالكل عنده تقصير ولكن كما قلت إن العلم الشرعي لوحده لا يستطيع الإنسان أن يواصل فيه ما لم يكن له مع الله - عز وجل - صلة وهذه الصلة هي زاد، زادٌ له يقويه على الصبر والتحمل في سلوك طريق العلم والصبر والتحمل حتى عند البلاء وفي حال الفتن وفي حال الابتلاءات التي تصيب العبد.
فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يحرص على هذا المقام، هذا مقام رفيع يغفل عنه كثير من الشباب وكثير من طلاب العلم ولو سألت نفسك أو فتّشت فيمن حولك من الشباب أو من طلاب العلم لوجدت قصوراً ظاهراً في هذا الجانب فتجد من لا يعرف أن يختم مثلاً إلا في رمضان وستجد من لا يحافظ على الوتر إلا في رمضان وستجد من لا يصوم إلا رمضان إلى آخر أنوع عبادات مشهورة ومعروفة يعني المفترض من طالب العلم أن يحافظ عليها محافظة ظاهرة وهذه المحافظة لا يلزم منها أن تكون يعني أن تقوم الليل كله ولا أن تصوم أيام السنة كلها ولا يلزم أن تختم في كل ثلاث ليال، ولكن أن يكون لك عبادة تداوم عليها تكون صلة بينك وبين ربك ولو كانت قليلة، النبي - صلى الله عليه وسلم - مدح العمل القليل الذي يداوم عليه صاحبه فأحب الأعمال كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أدومها وإن قل أو \"أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل\".
فلاحظ نفسك فيما يتعلق بقيام الليل ولو ليلة في الشهر تقومها لله قبل الفجر بساعة أو نصف ساعة وتحافظ على وترك بعد العشاء ولو ركعة واحدة تركعها وهكذا شيئاً فشيئاً حتى تزيد، الصيام تحرص أن تصوم ولو يوماً واحداً في الشهر أو يومين أو ثلاثة إن استطعت وهكذا تبحث عن نفسك في مثل هذه العبادات، ختم القرآن لو مرة في الشهر بأن تقرأ كل يوم جزءاً، وكل يوم جزء يعني كل فرض أربعة أوجه من المصحف وهذا لا يكلف على أحد وبالأخص أولئك الحفاظ الذين يحفظون كلام أو كتاب الله كاملاً فلا تُخلي نفسك من هذه الصفات التي هي زاد للعبد ولا شك أنها من أعظم الزاد وكثير من أولئك الذين خارت قواهم في سلوك طلب العلم إنما كان من أعظم أسبابه أنه لم يكن لهم خبيئة بينهم وبين الله أو صلة بينهم وبين الله في مثل هذه العبادات الخفية وأيضاً أولئك الذين خارت قواهم في زمن الفتن أو في زمن الابتلاء أيضاً كان من أعظم أسبابه أنه لم يكن بينهم وبين الله - عز وجل - وهذه الصلة لا يلزم منها أن تكون كما قلت يعني من كبار العبّاد أو ممن تتفطر قدماه في الليل أو ممن يصوم يوماً ويفطر يوماً ولكن أن يكون لك عمل قليل تسعد به في الدنيا والآخرة.
وذُكر عن كثير من السلف كما ذُكر أو نُقل عن شيخ الإسلام القصة المشهورة أنه كان يجلس من بعد الفجر حتى تطلع الفجر يذكر الله لا يحل حبوته فسئل عن ذلك فقال: هذا زادي لو لم أتزود به لخارت قواي وصدق - رحمه الله -، وكذلك كان سلف الأمة لهم خبيئة مع الله - عز وجل - وهذه الخبيئة هي العمل الصادق القليل الخفي الذي لا يعلمه إلا الله - عز وجل - تختفي به عن أعين الناس وتداوم به مع الله - عز وجل - هذا العمل له لذته وله أنسه ولو كان قليلاً يسيراً محتقراً في نظر كثير الناس، يعني كثير من الناس يحتقر أن يوتر لله بركعة بعد صلاة العشاء أو قبل ينام أو بثلاث ركعات فيظن أن هذا عمل قليل، يعني إما أن يصلي أحد عشرة ركعة كما هي السنة وإلا لن يصلي شيئاً.
وكذلك يحتقر بعض الناس أن يخصص يوماً في الشهر يصومه فضلاً أن يصوم الاثنين والخميس أو يداوم على صيام الأيام البيض الثلاثة، هذه الأعمال ولو كانت قليلة إلا أن الله يبارك فيها ويكون فيها أجر عظيم وهي أحب الأعمال إلى الله، أما أولئك الذين يتحمسون ويشتدون في العبادة فتجده من بعد رمضان يشتد في قيام الليل وصيام النهار وختم القرآن كل ثلاثة أيام ثم ما إن تمر أيام قلائل حتى يفتر وينقطع فهذا العمل لا شك أن فيه خيراً لكنه ليس بأحب إلى الله - عز وجل - من ذاك الذي داوم على فعل القليل لكنه استمر معه إلى أن يشاء الله.
هذا فيما يتعلق ما بعد رمضان فاحذر أن تفوّت على نفسك هذه الدربة والمدرسة التي تعلمت فيها القيام والصيام والدعاء وقراءة القرآن وختمه هذه مدرسة وثق أنك ستعجز عن كثير من مثل هذه العبادات بعد أشهر إذا لم تواصل بعد رمضان فبادر من الآن بادر من الآن خصّص لنفسك جزءاً كل يوم وخصّص لنفسك ثلاثة أيام من كل شهر أو يوماً واحداً واعزم على ألا يفوتك الوتر ولا ليلة واحدة ولو كانت ركعة واحدة بعد صلاة العشاء، واعزم على أن تجعل لنفسك ولو يوماً واحداً في الشهر تقوم قبل الفجر بنصف ساعة وتصلي فإن قُدّر لك أن تقوم أكثر الليالي أو كل ليلة فلا شك أن هذا عمل عظيم.
وقد أدركنا كثيراً من طلبة العلم الذين سبقونا في العلم وفي السن ممن هم الآن من كبار أهل العلم يعني أدركنا بعضهم ممن لا يفوته قيام الليل مطلقاً ولا يفوته صيام الاثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ولا يفوته أن يختم كل أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة فمثل هؤلاء لا شك أنه قدوة لنا ومن لاحظ كثيراً من أهل العلم الموجودين الآن ممن نعرف عن قُرب لا يتركون قيام الليل بل نعرف من العوام الذين ليسوا من أهل العلم بل بعضهم لا يستطيع أن يقرأ قراءة صحيحة إلا أنه ممن لا يترك قيام الليل بل يقوم قبل الفجر بثلاث ساعات وبعضهم بساعتين لا يفوته قيام الليل مطلقاً ويختم القرآن ما يمر عليه الأسبوع أو الأسبوعان إلا وقد ختم كلام الله - عز وجل - فلا يكون مثل هؤلاء سباقون إلى الخير ونحن متقاعسون.
فأقول إن من أعظم ما يوصى به طالب العلم في مثل هذه الأيام هو ما يتعلق بالتعبد فهي أعظم وصية ينبغي لطالب العلم أن يحتذي حذوها وينتفع بها وإلا مجرد طلب العلم، طلب العلم فيه جمود وفيه نوع من القساوة إذا الإنسان استمر عليه دونما تعبّد ودونما اتعاظ بمواعظ الله - عز وجل - في كتابه وبمواعظ رسوله - عليه الصلاة والسلام - فالعلم المجرد فقط فيه نوع من القساوة فينبغي لطالب العلم أن يمزج العلم بالعمل وأن يمزج العلم بالتعبد لله - عز وجل - ولعل بعض هذه الوصايا نمر عليها سريعاً غير ما يتعلق برمضان.
من أهم الوصايا ما يتعلق بطالب العلم هو اقتران العلم بالعمل، وهذا الكلام كثيراً ما يُردّد ولعلنا نعرض أهم هذه الوصايا على سبيل الإيجاز فأول هذه الوصايا اقتران العلم بالعمل هذا من أعظم الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها والكلام الذي سبق ذكرته متعلق بهذا الأمر فطالب العلم الذي يتعلم العلم ويتعلم قيام الليل ويتعلم الصيام ويتعلم الأحكام الشرعية ثم هو لا يقوم بها لا شك أن هذا فيه قصور وهذا سبب من أسباب فتح العلم على العبد فطالب العلم إذا أراد أن يُفتح عليه العلم عليه بالعمل فكلما أحسنت العمل كلما حسن بك أن تضبط العلم وتنفتح لك أبوابه وكلما ضعف عندك جانب العلم كلما انغلقت عليك أبواب العلم وهذا أمر قد جرّبه كثير من الناس أو كثير من طلبة العلم وكثير من أهل العلم جرّبوا ذلك وقد كان هذا هو دأب السلف.
وتذكرون أو سبق وذكرت لكم قصة الإمام أحمد الذي أعطى الحجّام ديناراً أو دينارين اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان ما يمر به حديث إلا ويعمل به أو ما يروي حديثاً مما يُعمل به إلا ويَعمل به حتى إنه أعطى الحجّام كما أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أن هذا ليس سنة يعمل بها ولكن حباً في الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وحباً في العمل بالسنة أو العمل بالحديث فإذا كان هذا دأب السلف في مثل هذه الأمور فكيف بما هو أكبر منها وأعظم شأناً من هذا فالعمل بالعلم لا شك أنه من أعظم الأمور التي يوصى بها طالب العلم والتي أيضاً من أعظم الأمور التي تفتح أبواب العلم وكلام السلف في ذلك كثير وألّفوا فيه مؤلفات كثيرة فيما يتعلق بالعمل بالعلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد