ثمة حيز ملحوظ تشغله التوجيهات القرآنية، والنبوية بشأن الكلمة الطيبة: صياغتها، وضرورة تداولها بين المسلم وأخيه، هذا الاهتمام الواضح قد يكون منشؤه مفهوم الدلالة إذا أدركنا أن الإسلام يعترف بالكائن البشري كما هو، ويعترف بحاجته كفرد للمساندة الاجتماعية التي يفترض أن يتلقاها ممن حوله والتي لا تقف بالطبع عند حدود السلوك وإنما تتعداه أيضا إلى الكلمة يسمعها ويتأثر بها سلبا أو إيجابا!
لذلك كان واضحا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم بألفاظه وكلماته حينما يتحدث مع الآخرين، فتجد عباراته لينة ولطيفه وراقية، ليس فقط وهو يتحدث مع رجال بحجم مكانة أبي بكر وعمر إنما حتى وهو يحادث أشخاصا من عامة الناس لم يحتفظ التاريخ بأسمائهم وتكرر التعبير عنهم بـ ((جاء رجل، وقام رجل))
بل ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد بأسا من مدح البعض والثناء عليهم في مواقف تختلف صورها وأهدافها. تُرى أي شعور داهم ((زاهرا)) رجل البادية البسيط دميم الخلقة الذي مازحه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهره حيث كان يبيع بضاعة له فقال له - صلى الله عليه وسلم - وهو يحتضنه من الخلف: ((من يشتري هذا العبد؟!)) فقال إذا تجدني والله كاسدا. فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - بثناء مقصود: ((لست كاسدا بل أنت عند الله غال)).
لاشك أن لهذا المديح النبوي عظيم الأثر في إدخال السرور على قلب الرجل وجعله في أفضل حالاته إذ لم يعد يهمه بعدها أبيعت بضاعته أم عاد بها! ولربما ظلت هذه الكلمات بما فيها من ثناء عالقة في ذاكرة الرجل حتى وهو يعود أدراجه إلى البادية حيث (الغلظة) في كل شيء (اللفظ والتصرف)!
كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموقف وسواه يريد أن يربي أمته على شفافية الكلمات ونقائها والتدرب على اختيار أحسنها مما يظن أنه يؤثر في سامعه ويدخل السرور في قلبه حتى وإن كانت هذه الكلمات ثناءً واضحا أو مديحا صرفا لذلك تجده - صلى الله عليه وسلم - يتلطف حتى مع صغار السن فيثني عليهم ويمتدحهم بل ويتحرى مواضع الثناء التي تسرهم، مثلما فعل حينما اختار ثوب الجارية ليمتدحها فيه، أو حينما قال للحسن وهو يمتطي ظهره الشريف بجرأة الصغار: ((نعم الراكب هو)). يفعل ذلك وهو يدرك أن الصغير يمثل انعكاسا لسلوك من حوله وستصاغ شخصيته مع الوقت في قالب لا يختلف كثيرا عما يراه وما يسمعه وتلك حقيقة أقرها علماء النفس التربويين وقالوا قولتهم الشهيرة: ((أرني طفلك أقل لك من أنت))!
أما نحن فيبدو أننا لم نلتفت بعد لأهمية الثناء على الآخر في حياتنا ولم نمارسه حتى داخل بيوتنا مع أحبابنا وصغارنا.
ولربما أحسسنا بوخزة ضمير مؤلمة بعد كلمة مديح للآخر كان يستحقها فأسعد بها. ليس لشيء إلا تجاوبا خاطئا مع حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم ((احثوا التراب في وجوه المداحين)) وغاب عن حسّنا أن المداحين هم أؤلئك الذين يمتهنون مدح الأكابر ويجعلونه عادة يسترزقون بها. ولربما تجاوبنا مسرعين مع توجيهات الدكتور علي الحمادي في كتابه الجميل ((قواعد وفنون التعامل مع الآخرين)): ((دع المديح ولا تنفخ البالونه تنفجر))!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد