فقر المشاعر بين الوالدين والأولاد (1 - 2 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

تجد من الأولاد من لا يراعى حق والديه، ولا يراعى مشاعرهماº فتراه لا يأنف من إبكائهما، وتحزينهما، ونهرهما، والتأفّف والتضجّر من أوامرهما، والعبوس وتقطيب الجبين أمامهماº فمن الناس من تجده في المجالس هاشًّا باشًّا حسَن المعشرº فإذا دخل المنزل، وجلس إلى والديه انقلب ليثاً هصوراً لا يلوي على شيءº حيث تتبدّل حاله، فتذهب وداعته، وتحلّ غلظته وفظاظته.

ومن الأولاد من ينظر إلى والديه شزَراً، قال معاوية بن إسحاق عن عروة بن الزبير - رحمهم الله - ورضي عنهم: \"ما بَرَّ والدَه مَن شَدَّ الطّرفَ إليه\".

ومن قلّة المراعاة لمشاعر الوالدين قلّة الاعتداد برأيهما، والإشاحة بالوجه عنهما إذا تحدّثا، وإثارة المشكلات أمامهما، وذمّهما عند الناس، والقدح فيهما، والتبرّؤ منهما، والحياء من الانتساب إليهما.

كل ذلك داخل في العقوق وقلة الرعاية لمشاعر الوالدين، وكأن هؤلاء لم يقرؤوا قوله - تعالى -: (وَقَضَى رَبٌّكَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحسَاناً إِمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ, وَلا تَنهَرهُمَا وَقُل لَهُمَا قَولاً كَرِيماً وَاخفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذٌّلِّ مِن الرَّحمَةِ وَقُل رَّبِّ ارحَمهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 23-24]

ولم يسمعوا قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: -\"الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس\"(1).

فحرِيّ بالولد أن يسعى سعيه في برّ والديهº فيحسن إليهما، ويخفض الجناح لهما، ويصغي إلى حديثهما، ويتودّد لهما بكل ما يستطيع من برّ وصلة، ويتجنّب كل ما يفضي إلى العقوق والتكدير.

وليكن له في سلفنا الصالح قدوةٌº فلقد ضربوا أروع الأمثلة في البر، ومراعاة مشاعر الوالدين، وإليك طرفاً من ذلك:

عن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب: \"أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته:

عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه!

تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا.

فتقول: \"يا بني! وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك، كما بررتني كبيرًا\"(2).

وهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه.

قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير.

فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإني سمعت رسول الله - رحمه الله - يقول: \"إن أبرَّ البر صلةُ الولدِ أهلَ ودِّ أبيه\"(3).

وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البرّ، كذلكم البرّ، وكان أبرّ الناس بأمه\" (4).

وعن أبي عبد الرحمن الحنفي قال: رأى كهمس بنُ الحسن عقرباً في البيت فأراد أن يقتلها، أو يأخذها، فسبقته، فدخلت في جحر، فأدخل يده في الجحرº ليأخذها، فجعلت تضرّ به، فقيل له ما أردت إلى هذا؟

قال: خفت أن تخرج من الجحر، فتجيء إلى أمي، فتلدغَها.

وهذا أبو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو المسمى بزين العابدين، وكان من سادات التابعين -كان كثير البرّ بأمّه، حتى قيل له: \"إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك، فقال: أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليهº فأكون قد عققتها\".

وقال هشام بن حسان: \"حدثتني حفصة بنت سيرين، قالت: كانت والدة محمد بن سيرين حجازية، وكان يعجبها الصِّبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي\".

وعن بعض آل سيرين قال: \"ما رأيت محمد بن سيرين يكلِّم أمَّه قط إلا وهو يتضرع\".

وعن ابن عون أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها\"(5).

وعن ابن عون قال: \"دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟ أيشتكي شيئاً؟ قالوا: لاº ولكن هكذا يكون عند أمه\".

\"روى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر: \"أنه كان يضع خدَّه على الأرض، ثم يقول لأمَّه: قومي ضعي قدمك على خدّي\".

وعن ابن عون المزني: \"أن أمه نادته، فأجابها، فعلا صوتُه صوتَهاº فأعتق رقبتين\".

وقيل لعمر بن ذر: \"كيف كان برٌّ ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهاراً قط إلا مشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقِيَ سطحاً وأنا تحته\".

وحضر صالح العباسي مجلس المنصور، وكان يحدّثه، ويكثر من قوله: \"أبي -رحمه الله - \" فقال له الربيع: لا تكثر الترحّم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين، فقال له: لا ألومكº فإنك لم تذق حلاوة الآباء\".

فتبسم المنصور، وقال: هذا جزاء من تعرّض لبني هاشم.

ومن البارين بوالديهم بُندار المحدث، قال عنه الذهبي: \"جمع حديث البصرة، ولم يرحلº براً بأمه\".

قال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: \"سمعت بنداراً يقول: أردت الخروج - يعني الرحلة لطلب العلم - فمنعتني أمي، فأطعتها، فبورك لي فيه\".

وقال الأصمعي: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت أطلب أعقّ الناس وأبر الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبلٌ يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شابٌ في يده رشاءٌ -حبل- من قدٍّ,(6)ملويٍّ, يَضرِبُه بِهِ، وقد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من مد هذا الحبل حتى تضربه؟

قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيراً.

قال: اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه، وكذا كان أبوه يصنع بجده، فقلت: هذا أعق الناس.

ثم جُلتُ حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زنبيل فيه شيخ كأنه فرخ، فكان يضعه بين يديه في كل ساعة، فيزقه كما يُزَقٌّ الفرخ، فقلت: ما هذا؟ قال: أبي وقد خرف، وأنا أكفله، قلت: هذا أبرّ العرب.

وكان طلق بن حبيب من العبّاد والعلماء، وكان يقبّل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحتهº إجلالاً لها.

وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: \"مات أبي\" فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه\".

 

----------------------------------------

(1) رواه البخاري(6675).

(2) رواه البخاري في الأدب المفرد (14)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: \"حسن الإسناد\".

(3) رواه مسلم (2552)، وأبو داوود (5143).

(4) رواه الإمام أحمد 6/151، وعبد الرزاق في المصنف (20119)، والبغوي في شرح السنة 13/7، وصححه الحاكم 3/208، ووافقه الذهبي.

(5) المحاسن والمساوئ، لإبراهيم البيهقي ص 614 وحلية الأولياء 2/273.

(6) القد: السوط، وهو في الأصل سير يُقَدٌّ من جلد مدبوغ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply