الإخلاص ( 3 - 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سابعاً: ثمرات الإخلاص وآثاره السلوكية: هذه الآثار على قسمين:

آثار تحصل للعبد عن قريب، فتعجل له في دنياه.

وآثارٌ تؤجل فيجد ذلك في آخرته.

الآثار المعجلة للإخلاص: وهي كثيرة جداً منها:

· أولاً: وهو أَجَلّها وأعظمها: أن الإخلاص إكسير الأعمال الذي إذا وُضع على أي عمل- ولو كان من المباحات والعادات- حوله إلى عبادة وقربة، فإذا قام العبد بشيء من الأمور المباحة: كالنوم، أو الأكل، أو الشرب، أو المشي أو غير ذلك يريد به التقرب إلى الله - عز وجل - كأن يقوي بدنه ليجاهد في سبيل الله، وكأن ينام في النهار من أجل أن يقوم الليل، وكأن يأكل ليتقوى على الطاعة، فكل ذلك يكون عبادة في حقهº ولهذا كان السلف كما قال زبيد اليامي - رحمه الله -: \"إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب\".

· ثانياً: من ثمرات الإخلاص العاجلة: أن العمل به يكثر ويتعاظم: ولو كان العمل بالجوارح قليلاً إذا وُجد معه الإخلاصº فإن العمل يعظم ويكون رابحاًº لأن الله - عز وجل - ينميه للعبد، ويجازى عبده المخلص بتكثير فعله حتى إنه ليجد ذلك العمل يوم القيامة فوق ما يحتسب، ويبارك في هذا العمل، تجد بعض الناس له أعمال محدودة ومشاريع لربما كانت صغيرة في عين أصحاب الهمم العالية، ثم إذا نظرت بعد حين تجد أن الله - عز وجل - أوقع فيه ألوان البركات بسبب هذه الأعمال القليلة التي يعملها بحركة بطيئة، عمل قليل لكن وُجد فيه النية، فنفع الله - عز وجل - به، وصار له من الآثار الحميدة مالا يقدر قدره، ولهذا يقول ابن المبارك رحمة الله: \" رُبَّ عمل صغير تكثره النية، وَرُبَّ عمل كثير تصغره النية \".

لربما قام الإنسان بمشروع صغير بنية صحيحة فينفع الله - عز وجل - به، ولربما قام آخر بمشروع كبير، وصرف عليه أموالاً طائلة، ولكن الله - عز وجل - لم يبارك فيه لم يكد أحدٌ ينتفع بهذا العمل، ولهذا كان بعض السلف يوصي إخوانه بالإخلاص وتصحيح النيات، يقول أحدهم لصاحبه: \" أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل \".

والله - عز وجل - قد أخبرنا عن المجاهدين الصادقين قال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُم لَا يُصِيبُهُم ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِن عَدُوٍّ, نَيلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ...[120]))[سورة التوبة].

فأعمال المجاهدين لا يكتب منها ما زاولوه عند مواجهة العدو فقط، وإنما يكتب لهم كل عمل عملوه بمجرد الخروج من بيوتهم، بل يكتب للمجاهد إعداده لطعامه وشرابه، ويكتب له نومه، ويكتب له مشيه، ويكتب له كل شيء زاولهُ وعمله، ولو لم يلق عدواً، ولو لم يشهر سلاحاً في وجه عدو، كل ذلك يكتب له عند الله - عز وجل -، جوعهم يكتب لهم، وعطشهم يكتب لهم، وجراحهم تكتب لهم، ونفقاتهم في الطريق وفي غير الطريق تكتب لهم، كل ذلك يسجل في رصيد حسناتهم، وهكذا من خرج في طاعة لله - عز وجل -، ومن خرج حاجاً أو معتمراً، فكل نفقة أنفقها منذ أن خرج، وكل خطوة خطاها تكتب له في ميزان أعماله، وهكذا من سار في الدعوة إلى الله - عز وجل - ليقيم درساً، توجه ليعلم الناس العلم الشرعي الصحيح المبنيَ على الكتاب والسنة بعيداً عن البدع والأهواء، توجه ليدعو إلى التوحيد واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذا توجه إلى مسجده، أو إلى مدرسته، أو إلى أي مكان للدعوة إلى الله - عز وجل -º فإنه يؤجر على ذلك، ويكتب له ممشاه، تكتب له خطواته، ونفقاته التي أنفقها.

ويبين ذلك وهو أمرٌ إذا استشعره العبد هان عليه الكثير من الأتعاب، وهانّ عليه كثير من النفقات التي ينفقها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة: ((مَن احتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَاناً بِاللَّهِ وَتَصدِيقاً بِوَعدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوثَهُ وَبَولَهُ فِي مِيزَانِهِ يَومَ القِيَامَةِ ))رواه البخاري، هذا الفرس إذا ارتوى، وإذا شبع، وإذا أخرج روثاً، وإذا بال، بل حتى الخطوات التي يخطوها الفرس وهو يجولº تكتب لصاحبه وهو في بلدهº لأنه قصد في هذا الفرس ليس المباهاة، وليس العبث، وإنما قصد به الجهاد في سبيل الله - عز وجل -، ولهذا قال داود الطائي - رحمه الله -: \" رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن القصد، وكفاك به خيراً وإن لم تصنعه \".

· ثالثاً: من ثمرات الإخلاص العاجلة أنه الطريق إلى محبة الله - عز وجل - ونصره ورعايته: فالله - عز وجل - يقول عن أهل بيعة الرضوان: (( لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحاً قَرِيباً[18] ))[سورة الفتح]، قال: \"فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم\" فرتب على علمه بما في القلوب وهو الإخلاص والصدق، وصدق العزيمة والإرادة، وصحة القصد، علم ذلكº فرتب على هذا العلم قال: (( فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم )) ومعلوم أن الحكم المرتب على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فكلما زاد إخلاص العبد كلما ازدادت هذه الأمور التي تتنزل عليه من نصر الله - عز وجل -، وطمأنينة القلب، وسكينة النفس، وكل ذلك يكون بحسب قصده وإخلاصه: (( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم )) والتعقيب بالفاء بعد قوله: ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم ))حيث قال: (( فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحاً قَرِيباً )) يدل على أن سبب نزول السكينة عليهم وسبب إثابتهم لهذا الفتح القريب هو علمه ما في قلوبهم من إخلاص، دل ذلك على أن الإخلاص سبب للانتصار، وأن الإخلاص سبب لنزول السكينة في قلوب المؤمنين في القتال، وعند مواجهة الأعداء، وعندما يرجف بهم الناس من كل جانب، ويخوفون بالذين من دون الله - عز وجل - فيثبتون.

كل ذلك بسبب الإخلاص، ولهذا ينبغي للمجاهدين أن يخبتوا لله - عز وجل -، وأن يراقبوا مقاصدهم، ولا يصدر منهم قولٌ ولا فعل يخالف ذلكº لأنهم قد يهزمون بسبب هذه المقاصد والإرادات السيئة، فإياك أن يشتد بأسك على العدو، أو يشتد وعيدك وتهديدك من أجل معنى فاسد في نفسك، إياك أن تهرول في وجه العدو، وتعرض نفسك للموت وأنت تريد معنىً فاسد.

· رابعاً: من ثمرات الإخلاص المُعجَّلة: أن صاحبه يُسدد وتنبع الحكمة في قلبه، وتصدر على لسانه: كما قال أحد علماء التابعين - رحمهم الله تعالى -: \"ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه \"، وقد قال سفيان بن عيينة - رحمه الله - نحواً من هذا، وزاد عليه: \"وبصَّره عيوبَ الدنيا: داءَها ودواءَها \".

فإذا صدق العبد مع الله - عز وجل - فإن الله يسدده ويوفقه، ويرشده إلى كل خير، وإذا نزلت الفتن، واختلط الحق بالباطل، والتبس ذلك على كثير من الناسº فإن أهل الصدق يهديهم ربهم بإيمانهم، ويوفقهم للصواب، ويظهره على أبيديهم، وتنطق به ألسنتهم، وإذا كان العبد سيئ القصد فإنه يخذل أحوج ما يكون إلى النصرة، فإذا وقعت الفتن - نسأل الله العافية - تخبط في موضع الفتن، وتمرغ فيه، وانغمس في ألوان من الضلالات، وصدر عنه أمور عجيبة مع سعة علمه، وفرط ذكائهº إلا أن الذكاء وحده لا ينفع إن لم يكن معه إخلاص، والعلم وحده لا ينقذ إن لم يكن معه إخلاص، إن لم يكن القلب عامراً بتقوى الله - عز وجل - وإرادته دون إرادة الدنيا، ولذلك تجد كثيراً من الناس إذا وقعت الفتن، واشتبكت الأحوال، وكثر الخلاف بين الناس فهذا يقول كذا، وآخر يرى أن ذلك من أعظم الإفساد في الأرض، تجد أهل الإخلاص يتبينون الحق، ولا يبقى ملتبساً عليهم، فالله - عز وجل - يسددهم، ويهديهم ويرشدهم، نسأل الله - عز وجل - أن يسددنا وإياكم.

· خامساً: من ثمرات الإخلاص المُعجَّلة: أن صاحب الإخلاص يكفيه الله - عز وجل - من وجوه عدة: ومن هذه الكفايات التي تحصل للمخلصين:

أولها: أن الله - عز وجل - يكفى هذا العبد المخلص شأن الناس، ما بينه وبين الخلق، فلا يصله شيء يكرهه من جهتهم، وبالتالى لا يعيش تُؤَرَّقه الهمومº لأن هؤلاء يقعون في عرضه ويظلمونه ويعتدون عليه، فالله - عز وجل - يكفيه ذلك كما قال الله - عز وجل -: (( أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عَبدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ... [36] ))[سورة الزمر].

\'عَبدَ\' مفرد أضيف إلى معرفة وهو الضمير: \'الهاء\' : \"أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عَبدَهُ\" والمفرد إذا أضيف إلى معرفة أكسبه العموم، والمعنى: أليس الله بكاف عباده، وهي قراءة أخرى متواترة في الآية: \"أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عِبادَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ... [36]\"[سورة الزمر]، الله يكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار بإخلاصهم، والمعنى الثاني: \"أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عَبدَهُ\" أي: نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

والمقصود: أن الله - عز وجل - عبر بالعبودية هنا التي أضافها إلى نفسه، ما قال: أليس الله بكافٍ, خلقه، أليس الله بكافٍ, محمداً، وإنما قال: \"أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عَبدَهُ\" ليدل ذلك على أن سر الكفاية هو تحقيق العبودية، وهل يمكن أن تتحقق العبودية بغير الإخلاص؟ لا يمكن ذلكº لأنه سرها، ولهذا فإن الله - عز وجل - يكفى العبد كما أخبره، ويجعل له ألوان الكفاية بقدر ما عنده من تحقيق العبوديةº لأن الحكم وهو الكفاية هنا المرتب على وصف وهو العبودية \"عَبدَهُ\"-، يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فكلما ازدادت عبودية العبد لله كلما ازدادت كفاية الله - عز وجل - له، فازدد عبودية يزدك الله - عز وجل - كفاية وحفظاً.

يقول عمر بن الخطاب - رضى الله عنه -: \" من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله \"، يقول ابن القيم معلقاً عليه في كتابه البديع \'إعلام الموقعين\': \'هذا شقيق كلام النبوة\'، يقول: هذا نظير لكلام النبوة، يشبه كلام النبوة، \'وهو جدير بأن يَخرُج من مِشكَاةِ المُحَدَّث المُلهَم\' عمر من المُحَدَّثين من المُلهمين للصواب، يقول ابن القيم: \'وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومَن أَحسَن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع، فأما الكلمة الأولى وهى قوله: \'من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس\' يقول ابن القيم: \'فهى منبع الخير وأصله\'، والثانية: وهي قوله: \'من تزين بما ليس فيه شانه الله\' يقول: \' والثانية أصل الشر وفصله، فإن العبد إذا خلصت نيته لله - تعالى-، وكان قصده وهمه، وعمله لوجهه - سبحانه -º كان الله معه، فإنه - سبحانه -: (( مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ[128] ))[سورة النحل]، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله - سبحانه - لا غالب له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء، فإن كان الله مع العبد فمن يخاف، وإن لم يكن معه فمن يرجو، وبمن يثق، ومن ينصره من بعده.

فإذا قام العبد بالحق على غيره، وعلى نفسه أولاً، وكان قيامه بالله وللهº لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجاً ومخرجاً.

وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد، فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نُصر نصراً عارضاً فلا عاقبة له، فينصر مؤقتاً فترة زمنية ثم لا تكن له العاقبة، ينهزم بعد ذلك وينكسر، يقوم وهو مهزوم مخذول، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله، وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولاً، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تُضمن له النصرة فإن الله ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لمن كان قيامه لنفسه وهواه فإنه ليس من المتقين، ولا من المحسنين، وإن نُصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبداً فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً له العاقبة )) ا. هـ [إعلام الموقعين 2/178].

ويقول الفضيل بن عياض - رحمه الله -: \"إنما الله يريد منك نيتك وإرادتك، ومن أصلح ما بينه وبين اللهº أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسّر أحد سريرة إلاّ أظهرها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص \"، فالناس لا تعبأ بهم، ولا تلتفت إليهم، ولا تتجمل لهم بعملك الصالح، الله يكفيك شأن الناس: (( أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عَبدَهُ )) إنما عليك أن تصلح ما بينك وبين الله - جل جلاله -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply