عظم الإخلاص وخطر الرياء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أمّا بعد:

فاتّقوا الله ـ عباد الله ـ حقّ التقوى، فالعزّ في طاعة المولى، والذلّ في اتّباع الهوى.

أيّها المسلمون: القلوب لا تطمئنّ إلا بالله، وغِنى العبد بطاعةِ ربّه والإقبال عليه، ودينُ الحقّ هو تحقيقُ العبوديّة لله، وكثيراً ما يخالط النفوسَ من الشهوات الخفيّة ما يفسِد تحقيقَ عبوديّتها لله، وإخلاصُ الأعمال لله أصل الدين، ولذلك أمر الله رسولَه بالإخلاص في قوله: (( فَاعبُدِ اللَّهَ مُخلِصاً لَّهُ الدّينِ ))[الزمر: 2]، وأمِر النبيّ أن يبيِّن أنّ عبادتَه قائمة على الإخلاص فقال له: (( قُل إِنّي أُمِرتُ أَن أَعبُدَ اللَّهَ مُخلِصاً لَّهُ الدّينَ ))[الزمر: 11].

وبذلك أمِرت جميع الأمَم قال - جل وعلا -: (( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُؤتُوا الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ ))[البينة: 5].

وأحقّ النّاسِ بشفاعةِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ القيامة من كان أخلصَهم لله قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: (مَن أسعد النّاس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: مَن قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) رواه البخاري[1].

والإخلاص مانعٌ - بإذن الله - من تسلّط الشيطان على العبد قال - سبحانه - عن إبليس: ((فَبِعِزَّتِكَ لأغوينهم أَجمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ))[ص: 82، 83]، والمخلِص محفوظٌ بحفظ الله من العصيانِ والمكاره قال - سبحانه - عن يوسفَ - عليه السلام -: ((كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السٌّوء وَالفَحشَاء إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ ))[يوسف: 24].

وبه رِفعة الدرجات وطَرق أبوابِ الخيرات يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (إنك لن تُخلَّف فتعملَ عملاً تبتغي به وجهَ الله إلا ازدَدتَ به درجةً ورفعة) متفق عليه [2]، وإذا قوِي الإخلاص لله علَت منزلة العبدِ عند ربّه، يقول بكر المزني: \"ما سبقَنا أبو بكر الصدّيق بكثير صلاةٍ, ولا صيام، ولكنّه الإيمان وقَر في قلبه، والنّصحُ لخلقه\"ـ وهو سببٌ لتفريج الكروبِ، ولم ينجِّ ذا النون سوى إخلاصه لمعبودِه: (( لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبحَـانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ))[الأنبياء: 87].

المخلصُ لربّه مجابُ الدعوة يقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (انطلقَ ثلاثة نفرٍ, ممّن كان قبلَكم حتى آواهم المبيتُ إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنّه لا ينجّيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال كلّ واحدٍ, منهم متوسّلاً إلى الله بصالح عملِه وإخلاصِه: اللهمّ إن كنتَ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجَت فخرجوا يمشون) متفق عليه [3].

بتجريدِ الإخلاصِ تزول أحقادُ القلوب، وضغائن الصدور، يقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثٌ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحةُ ولاة الأمر، ولزوم جماعةِ المسلمين) رواه أحمد [4].

والإخلاصُ شرطٌ في قَبول توبة المنافق قال - عز وجل -: (( إِنَّ المُنَـافِقِينَ في الدَّركِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا وَاعتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخلَصُوا دِينَهُم للَّهِ فَأُولَـئِكَ مَعَ المُؤمِنِينَ ))[النساء: 145، 146].

في الإخلاصِ طمأنينة القلب، وشعورٌ بالسّعادة، وراحَةٌ من ذلّ الخلق يقول الفضيل بن عياض - رحمه الله -: \"مَن عرف الناس استراح\"، أي: أنهم لا ينفعونه ولا يضرّونه.

وكلّ عملٍ, لم يقصَد به وجه الله طاقة مهدَرَة، وسراب يضمحِلّ، وصاحبه لا للدنيا جمَع، ولا للآخرة ارتفَع، يقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (إنّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتُغِي به وجهه) رواه النسائي[5].

وإخلاص العملِ لله، وخلوصُ النية له، وصوابهº أصلٌ في قبول الطاعات، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: \"لا ينفع قولٌ وعمل إلا بنيّة، ولا ينفع قولٌ وعملٌ ونيّة إلا بما وافق السنة\"[6].

والإخلاصُ أن تكونَ نيّتك لله لا تريد غيرَ الله، لا سمعةً ولا رياء، ولا رِفعة عند أحدٍ, ولا تزلّفاً، ولا تترقّب من الناس مدحاً، ولا تخشى منهم قَدحاً، والله - سبحانه - غنيّ حميد، لا يرضى أن يشرِك العبد معه غيرَه، فإن أبى العبد إلا ذلك ردّ الله عليه عملَه قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث القدسي: (قال الله - عز وجل -: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركتُه وشركَه) رواه مسلم[7].

أيّها المسلمون: العمل الصّالح وإن كان كثيراً مَع فسادِ النيّة يورِد صاحبَه المهالك، فقد أخبر الله - عز وجل - عن المنافقين أنهم يصلّون وينفقون ويقاتِلون، وأخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عنهم أنهم يتلون كتابَ الله في قوله: (ومثل المنافقِ الذي يقرأ القرآن كالرّيحانة ريحها طيّب وطعمُها مرّ) متفق عليه[8]، ولفَقدِ صدقِهم في إخلاصهم قال الله عنهم: (( إِنَّ \"المُنَـافِقِينَ في الدَّركِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصِيراً ))[النساء: 145]، (وأول من تسعَّر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن، والمجاهدُ، والمتصدّق بماله، الذين لم تكن أعمالهم خالصةً لله، وإنما فعلوا ذلك ليقال: فلانٌ قارئ، وفلان شجاع، وفلانٌ متصدِّق) رواه مسلم[9].

والعملُ وإن كان يسيراً يتضاعف بحُسن النيّة والصدقِ والإخلاص، ويكون سبباً في دخول الجنات يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مرّ رجل بغُصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحيَّنَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخِل الجنة) رواه مسلم، (وامرأة بغيّ رأت كلباً يطيف بركيّة كادَ يقتله العطش، فسقته بموقها ماءً فغفر الله لها) متفق عليه[10]، يقول عبد الله بن المبارك: \"رُبّ عملٍ, صغيرٍ, تعظّمه النية، وربّ عملٍ, كبيرٍ, تصغّره النية\"[11]، قال ابن كثير - رحمه الله - في قوله: (( واللَّهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَاء ))[البقرة: 261] \"أي: بحسب إخلاصه في عمله\"[12].

والواجبُ على العبدِ كثرة الصالحات مع إخلاصِ النيات، فكن سبّاقاً لكلّ عملٍ, صالح، ولا تحقرنَّ أيَّ عملٍ, تخلِص نيتَك فيه، فلا تعلم أيَّ عملٍ, يكون سبباً لدخولك الجنات، ولا تستخفَّنَّ بأيّ معصية فقد تكون سبباً في دخولك النار، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (دخلتِ امرأة النارَ في هرّةٍ, حبستها لا هيَ أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاشِ الأرض) متفق عليه[13].

والله - جل وعلا - متّصِف بالحمد والكرم، وإذا أحسنَ العبد القصدَ ولم تتهيّأ له أسباب العمل فإنّه يؤجَر على تلك النية وإن لم يعمل، كرَماً من الله وفضلاً يقول - عليه الصلاة والسلام -: (مَن سأل الله الشهادةَ بصدقٍ, بلّغه الله منازلَ الشهداء وإن مات على فراشه) رواه مسلم[14]، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرّجل الذي لا مالَ عنده وينوي الصّدقة: \"لو أنّ لي مالاً لعملتُ بعمل فلان\"، قال: (فهو بنيّته) رواه الترمذي[15]، بل إن الهمَّ بعملٍ, صالح يؤجَر عليه العبد وإن تخلَّف العمل، قال - عليه الصلاة والسلام -: (من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عندَه حسنةً كاملة) متفق عليه[16].

والمسلم يجعل نيتَه صادقةً في كلّ خير يقول عمر - رضي الله عنه -: \"أفضلُ الأعمال صدقُ النيّة فيما عند الله، فإن صدَّق العمل النيةَ فذاك، وإن حِيل بين العمل والنية فلك ما نويتَ، ومن سرّه أن يكمُل له عملُه فليحسِن النية، فإنّ الله يأجر العبدَ إذا حسُنت نيته حتى بإطعامِ زوجته\".

أيّها المسلمون: إذا قوِي الإخلاصُ، وعظُمت النيّة، وأخفِي العمل الصالح مما يشرَع فيه الإخفاءº قرُب العبد من ربّه، وأظلّه تحتَ ظلّ عرشه، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (سبعةٌ يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه ـ وذكر منهم ـ: رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شماله ما تنفِق يمينه) رواه مسلم[17]، وكلّما أخفِي العمل كان أقربَ إلى الإخلاص قال - جل وعلا -: (( إِن تُبدُوا الصَّدَقَـاتِ فَنِعِمَّا هي وَإِن تُخفُوهَا وَتُؤتُوهَا الفُقَرَاء فَهُوَ خَيرٌ لَّكُم ))[البقرة: 271]، يقول بِشر بن الحارث: \"لا تعمَل لتُذكَر، اكتُم الحسنةَ كما تكتم السيئة\"[18].

وفُضِّلت نافِلة الليل على نافلة النّهار، واستغفارُ السّحر على غيرهº لأنّ ذلك أبلغ في الإسرار، وأقربُ إلى الإخلاص.

وعلى العبدِ الصبر عن نقلِ الطاعة من ديوان السّرّ إلى ديوان العلانية، وإذا أخلصتَ في العمل ثمّ أثنى عليك الخلقُ وأنت غيرُ متطلِّع إلى مدحِهم فليس هذا من الرياء، إنما الرياءُ أن تزيّن عملَك من أجلهم، سُئل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الرّجل يعمَل العمل من الخير يحمدُه الناس عليه، فقال: (تِلك عاجِل بشرى المؤمِن) رواه مسلم[19].

ومّن كان يعمل صالحاً ثمّ اطّلع الخلق على عملِه فأحجم عن الاستمرار في تلك الطاعة ظنّاً منه أنّ فعلَه بحضرتهم رياءٌ فذلك من حبائل الشيطان، فامضٍ, على فعلِك، يقول الفضيل بن عياض: \"تركُ العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شِرك، والإخلاص أن يعافيَك الله منهما\"[20].

وبعضُ النّاس يظنّ أنّ الإخلاصَ مقصور على الصّلاة والصّدقة والحجّ دون غيرها من الأوامر، ومِن رحمة الله ورأفته بعبادِه أنّ الإخلاص يُستصحَب في جميع العبادات والمعاملات ليُثابَ العبد على جميع حركاتِه وسكناته، فزيارة الجارِ، وصلةُ الرحم، وبرّ الوالدينº هي مع الإخلاص عبادَة، وفي جانب المعاملات من الصّدق في البيع والشراء، وحسنِ عشرة الزوجَة، والاحتساب في إحسان تربية الأبناءº كلّ ذلك مع الإخلاص يُجازَى عليه بالإحسان، يقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (ولستَ تنفِق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أجِرت عليها، حتى اللقمة تضعُها في في امرأتِك) متفق عليه[21]، قال شيخ الإسلام: \"من عبَد الله، وأحسَن إلى الناسº فهذا قائمٌ بحقوق الله، وحقّ عبادِ اللهº في إخلاصِ الدّين له، ومن طلب من العِباد العوضَ ثناءً أو دُعاءً أو غير ذلك لم يكن محسناً إليهم لله\"[22].

أيّها المسلمون: الإخلاص عزيز، والنّاس يتفاضلون فيه تفاضلاً كبيراً، ولدفعِ عوارضِه من آفةِ الرّياء والعُجب بالعمل الجأ إلى الله دوماً بالدّعاء أن تكونَ من عباده المخلَصين، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء، وكان أكثر دعاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: \"اللهمّ اجعل عملي كلَّه صالحاً، واجعله لوجهِك خالصاً، ولا تجعل لأحدٍ, فيه شيئاً \"[23].

وأكثِر مِن مطالعة أخبار أهلِ الصدق والإخلاص، واقرَأ سيَر الصالحين الأسلاف، واحتَقِر كلّ عملٍ, صالح تقدّمه، وكن خائفاً مِن عدم قبوله أو حبوطِه، فليس الشأن الإتيانَ بالطاعات فحسب، إنما الشأن في حفظها ممّا يبطِلها.

ومِن حفظِ العمل عدمُ العجب وعدم الفخر به، فازهَد في المدح والثناءِ، فليس أحدٌ ينفَع مدحُه ويضرٌّ ذمّه إلا الله، والموفَّق من لا يتأثّر بثناء الناس، وإذا سمِع ثناءً لم يزِده ذلك إلا تواضعاً وخشية من الله، وأيقِن أنّ مدحَ الناس لك فتنة، فادعُ ربَّك أن ينجّيَك من تلك الفتنة، واستشعِر عظمةَ الله وضعفَ المخلوقين وعجزَهم وفقرهم، واستصحِب دوماً أنّ الناس لا يملِكون جنّة ولا ناراً، وأنزِل الناسَ منزلة أصحابِ القبور في عدمِ جلبِ النفع لك ودفع الضرّ عنك، والنفوسُ تصلح بتذكّر مصيرها، ومن أيقنَ أنّه يوسَّد في اللّحد فريداً أدرَك أنّه لن ينفعَه سوى إخلاصِه مع ربّه، وكان من دعاء السّلف: \"اللهمّ إنّا نسألك العملَ الصالح وحفظَه\".

أيّها المسلمون: ثوبُ الرياء يشفّ ما تحته، يفسِد الطاعةَ، ويحبط الثوابَ، وهو من أقبحِ صفاتِ أهلِ النفاق ((يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ))[النساء: 142]، وهو من أشدِّ الأبواب خفاءً، وصفه ابن عباس - رضي الله عنهما - بقوله: (أخفى من دبيبِ النّمل على صفاةٍ, سوداء في ظلمَة الليل)[24]، قال الطيبيّ - رحمه الله -: \"وهو من أضرّ غوائلِ النّفس وبواطن مكائدِها، يبتَلى به المشمِّرون عن ساقِ الجدِّ لسلوكِ طريقِ الآخرة\".

والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - خافه على أمّته وحذّرهم منه، قال - عليه الصلاة والسلام -: (ألا أخبِركم بما هو أخوفُ عليكم عندي من المسيح الدجال)، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (الشركُ الخفي، يقوم الرجل يصلّي، فيزيّن صلاتَه لما يَرى مِن نظر الرّجل إليه) رواه أحمد[25]، قال في تيسير العزيز الحميد: \"الرّياء أخوفُ على الصالحين من فتنة الدجال\".

المرائي مضطربُ القلب، مزَعزَع الفكر، لا يُخلِص في عبوديّته ومعاملته، يعمَل لحظّ نفسه تارةً، ولطلب الدنيا تارةً، ولطلب الرفعة والمنزلةِ عند الخلق تارة، المرائي يفضحه الله، ويهتِك سترَه، ويظهر خباياه، ضاعت آماله، وخابَ سعيه، وعومِل بنقيض قصده، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من يُسمّع يسمِّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به) رواه مسلم [26].

وإن أخفى المرائي كوامنَ نفسه، وخفايا صدرهº أظهرَها الله، يقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (المتشبِّع بما لم يعطَ كلابِس ثوبي زور) متفق عليه[27].

فاخشَ على أعمالك من الخسران، فالميزان يومَ الحشر بمثاقيل الذرّ، المنّ والأذى يبطِل البَذل، والرياءُ يحبِط العمل، وإرادةُ الدنيا وثناء الخلق متوعَّد فاعلُه بدخول النار.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مّثلُكُم يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاء رَبّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَاً ))[الكهف: 110].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشّكر له عَلى توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنّ نبيّنا محمّداً عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً مزيداً.

أما بعد: أيّها المسلمون، لا أنفعَ للقلب من تجريدِ الإخلاص، ولا أضرَّ عليه من عدمِه، وكلّما قوِي إخلاصُ الدّين لله كمُلت العبوديّة، ومن عرف الناسَ أنزلهم منازلهم، ومن عرَف الله أخلَص له أعماله، وكلّما صحّتِ العزيمة، وعظمتِ الهمّة طلب الإنسان معاليَ الأمور، ولم يلتفِت إلى غير الله، ولم ينظُر إلى ما سواه، وليسَ من الرّشَد طلب الآخرة بالرياء، وإيّاك أن تطلب بعملك محمدةَ الناس أو الطّمع بما في أيديهم.

والإخلاصُ يحتاج إلى مجاهدةٍ, قبل العمل وأثناءه وبعده، وآفة العبدِ رضاه عن نفسِه، ومن نظر إلى نفسِه بعين الرّضا فقد أهلكها، وأمارةُ الإخلاص استواء المدحِ والذم، والله يحبّ من عبده أن يجعلَ لسانه ناطقاً بالصّدق، وقلبَه مملوءاً بالإخلاص، وجوارحَه مشغولة بالعبادة.

ثمّ اعلَموا أنَّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال في محكَم التنزيل: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً ))[الأحزاب: 56].

اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين.

________________________

 [1] صحيح البخاري: كتاب العلم، باب: الحرص على الحديث (99).

[2] أخرجه البخاري في الجنائز، باب: رثاء النبي سعد بن أبي وقاص (1296)، ومسلم في الوصية، باب: الوصية بالثلث (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.

[3] أخرجه البخاري في الإجارة، باب: من استأجر أجيراً فترك الأجير أجره. . . (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: قصة أصحاب الغار الثلاثة (2743) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بمعناه.

[4] أخرجه أحمد (5/183)، والدارمي في المقدمة (229)، وابن ماجه في المقدمة (230) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، وصححه ابن حبان (67، 680)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (404). وجاء أيضا من طريق أنس وابن مسعود وجابر وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبي قرصافة ومعاذ بن جبل وبشير وابنه النعمان - رضي الله عنهم -.

[5] سنن النسائي: كتاب الجهاد، باب: من غزا يلتمس الأجرَ والذكر (3140) عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (8/140)، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب (1/24)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص16)، وابن حجر في الفتح (6/28)، وهو في صحيح سنن النسائي (2943).

[6] أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف، انظر: جامع العلوم والحكم (ص13).

[7] صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله (2985) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[8] أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب: إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به (5059)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضيلة حفظ القرآن (797) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.

[9] صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار (3467)، ومسلم في السلام، باب: فضل سقي البهائم (2245) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[11] انظر: جامع العلوم والحكم (ص13).

[12] تفسير القرآن العظيم (1/318).

[13] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان (2619) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[14] صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله - تعالى - (1909) من حديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه -.

[15] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) من حديث أبي كبشة الأنصاري - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا أحمد (4/230، 231)، وابن ماجه في الزهد، باب: النية (4228)، والطبراني في الكبير (22/345)، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وهو في صحيح سنن الترمذي (1894).

[16] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: من هم بحسنة أو بسيئة (6491)، ومسلم في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة (131) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

[17] أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة باليمين (1423)، ومسلم في الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة (1031) من حديث أبي هريرة.

[18] أخرج بعضه أبو نعيم في الحلية (8/346)، وانظر: سير أعلام النبلاء (10/476).

[19] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: إذا أثنى على الصالح. . . (2642) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -.

[20] أخرجه البيهقي في الشعب (5/347).

[21] أخرجه البخاري في الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء. . . (2742)، ومسلم في الوصية، باب: الوصية بالثلث (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.

[22] مجموع الفتاوى (1/54).

[23] انظر: الاستقامة (2/308)، ومجموع الفتاوى (10/173).

[24] أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/58).

[25] مسند أحمد (3/ 30) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الزهد، باب: الرياء والسمعة (4204)، والبيهقي في الشعب (5/334)، وصححه الحاكم (7936)، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 237)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3389).

[26] صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله (2987) من حديث جندب العلقي - رضي الله عنه -.

[27] أخرجه البخاري في النكاح، باب: المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار (5219)، ومسلم في اللباس والزينة، باب: النهي عن التزوير في اللباس. . . (2129) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply