هي إطلالة على البيت النبوي، ذلك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً، إطلالة من كوة فتحتها أمنا عائشة -رضي الله عنها- حينما توارد عليها السؤال من عدد من التابعين: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته إذا كان عندك؟ إنه تساؤل عن هذه الشخصية العامة كيف تكون في هذه الحالة الخاصة، كيف يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يعيش خارج بيته متصدياً لقضايا الأمة متحملاً أعباءها، فإذا دخل بيته وأغلق باب وخلا بأهله فكيف يكون؟ وماذا يصنع؟
ولقد تلقت عائشة -رضي الله عنها- السؤال بحفاوة واهتمام، وأشرعت نافذة على بيت النبوة لنرى منها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة الخاصة في بيته ومع أهله، فإذا بها تصف بهذا الوصف الوجيز البليغ قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكاً بساماً، وما كان إلا بشراً من البشر، كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، ولا رأيته ضرب بيده امرأة ولا خادماً).
إنها باقة معطرة من الصفات النبوية أحسنت أمنا عائشة -رضي الله عنها- وصفها في هذه الجمل الوجيزة وبهذا البيان البليغ. وبقي أن نفتح أبصار البصائر على معاني عظام.
1- (ما كان إلا بشراً من البشر) لا أحسب أن أمنا عائشة كانت تقرر بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه ليس ملكاً بل بشر رسول، ولكنها كانت تقرر معنى أخص من ذلك، وهو بشريته في التعامل الأسري بحيث أنه - صلى الله عليه وسلم - يدخل بيته ليس على أنه القائد أو الزعيم أو الإمام ولكن على أنه الزوج ليعيش حياة السكن الزوجي مع أهله. فتجتمع معاني العظمة المحمدية في عظمة التعامل الزوجي، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعيش في بيته سمته الذي يلقى به الناس، ولكن يعيش بساطة الحياة الأسرية وعفويتها فلا ترى فيه زوجه إلا الزوج الواد الرحيم، وهو - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم وإمام البشرية والعظيم لا تمتلئ الأعين من النظر إليه مهابة وإجلالاً، ولكنه يعيش في بيته ومع أهله زوجاً أولاً. كم ننسى هذا المعنى النبوي العظيم حينما نصطحب معنا إلى بيوتنا المعاني والألقاب الخارجية ليعيش أحدنا في بيته على أنه صاحب السعادة أو الفضيلة..مع أن هذه الألقاب تخلع عند الباب ليعود من كان كذلك بشراً من البشر.
2- (كان يكون في مهنة أهله) يثب إلى ذهني سؤال ثاقب يقول، وهل كانت أمنا عائشة تشكو كثرة العمل ومشقته حتى يكون عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها معونتها وخدمتها؟ أما كانت حجرتها متقاربة الجدر صغيرة المساحة بحيث لم يتجاوز طولها عشرة أذرع، وعرضها سبعة أذرع (5 أمتار x 3.5 تقريباً)، وأما العمل فيها فقد كانت تتصرم الشهران بتمامها وما أوقد فيها نار لطعام يصنع، فهل ثمت عمل يحتاج إلى جهد فضلاً عن أن يحتاج إلى معونة بحيث يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته مشغولاً بمهنة أهله؟
إن الجواب عن هذا التساؤل أن نبيك - صلى الله عليه وسلم - ما كان يصنع ما يصنع لكثرة الشغل وجهد العمل، ولكن هناك معنى أعمق وهو المواساة والإشعار بالمشاركة التامة في الحياة الزوجية وتحقيق أحد معاني السكن إلى الزوجة (لتسكنوا إليها)، ولم يقل لتسكنوا معها.
إن هذه الأعمال اليسيرة في المنـزل تصل إلى قلب الزوجة مشفوعة بمذكرة تفسيرية تضج بمعاني الحب والمودة والرحمة، وتشعر الزوجة بالدنو القريب إلى زوجها، والامتزاج الروحي والعاطفي. إن كون الرجل في مهنة أهله بأي عمل وعلى أي صفة رسالة حياة تقول: هو بيتنا جميعاً كما هي حياتنا جميعاً، وإن معاني الالتحام الزوجي تنسجها هذه اللمسات المعبرة، فيكبر في عين زوجته بقدر تواضعه، ويعظم في نفسها بقدر بساطته.
3- إننا نطل من هذه النافذة على البيت النبوي فنراه صغيراً في مساحته، بسيطاً في متاعه ولكن الخلق النبوي العظيم جعله وعاءً كبيراً مترعاً بالأنس والبهجة، ترن فيه الضحكات، وتشرق البسمات ويتدفق ينبوع غامر من السعادة والإبهاج (كان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكاً بساماً). ليس في بيت النبوة التواقر المتكلف، ولا التزمت المقيت، ولا التجهم العابس، ولكنه حبور الضحك وإيناس التبسم، ومتعة الحياة الطيبة التي تملأ البيت حبرة وسروراً حتى كأنما يعيش أهله في زاوية من الجنة.
4- إن هذا الفن الراقي في التعامل الزوجي، والمبادرة من الزوج إلى المشاركة المعبرة والإيناس المبهج سوف يجعله يحتل المساحة الأكبر من قلب زوجته ووجدانها، إن هذا التعامل الرفيع يجعل لحضوره فرحة وأنساً، ولغيابه وحشة وفقداً، وسيكون من المرأة بمكان. إن على الذين يشتكون برودة الحياة الزوجية وجفافها أن يتعلموا من هذا الدرس النبوي أن الدماء تتدفق حارة في حياتهم بمثل هذه اللمسات الساحرة، حينها لن يبقى في قلب المرأة ووجدانها مساحة شاغرة فقد ملأ ذلك كله زوج أشعرها بالمشاركة الحقيقية في الحياة، ولون يومها بالبسمات.
5- يبهرنا هذا التوازن في الحياة النبوية فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مع الناس أكثرهم تبسماً، وفي بيته أيضاً ضحوك بسام، وكان مع الناس كالريح المرسلة بالخير، وفي بيته في مهنة أهله، وكان خير الناس للناس، وخيرهم لأهله. إن هذا التوازن يفتقد عند أناس يبذلون المجاملات الرقيقة بسخاء في تعاملهم العام ولكنهم يخزنون عبوس وجوههم، وقترة نفوسهم لزوجاتهم، فلا يرين إلا قتامة التجهم، وملالة التضجر مع أنهن أولى الناس بالبشر وحسن الخلق، أما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد وسع الناس بحسن خلقه وكان أهل بيته أسعد الناس بهذا الخلق.
6- هذا الدرس النبوي رسالة مفتوحة إلى كل من أساء فهم القوامة واختصرها في التعالي الأجوف، وبسط مظاهر التسلط بحيث لا يرى إلا مقطباً، ولا يسمع إلا آمراً أو محذراً.
7- بقي أن نسترضي ربنا لأمنا عائشة التي كان من حكمة الله وصنعه لنا أن تبقى بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - نحواً من نصف قرن نافذة مفتوحة على بيت النبوة ترى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - منها هدي نبيها وهداه، فرضي الله عنها وأرضاها وجزاها عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الجزاء وأوفاه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد