بعد خروج المسلمين من شعب أبي طالب، ووصول خبر رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، إلى الحبشة عن طريق المهاجرين إليها، قدم من نجران وفد من النصارى، مؤلف من عشرين رجلا، وقصدوا رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، الذي قرأ عليهم القرآن الكريم فأعلنوا إسلامهم جميعا وانتشر خبرهم في البلد الحرام، حتى لقيهم أبو جهل فقال لهم: ما رأيت جماعة أحمق منكم، أرسلكم قومكم لتعلموا خبر هذا الرجل فصبأتم {1}. فقالوا له: سلام عليك يا أبا جهل، لك دينك، ولنا الدين القويم الذي اخترناه فإننا سمعنا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فآمنا. وفيهم نزل قوله - تعالى -:{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا تتلي عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين}. {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون (2) بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون. وإذا سمعوا اللغو (3) أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين 4 }
وبعد أن غادر وفد نجران مكة المكرمة عائدا إلى بلاده، وصل إليها زعيم من زعماء الدوسيين وهو الطفيل بن عمر الدوسي، فهرع إليه بعض رجال قريش، يحذرونه من الاجتماع برسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -. قائلين له: إننا نخشى عليك وعلى قومك سحر محمد وعذوبة كلامه. فأجابهم بقوله: لا عليكم فأنا شاعر وسأغدو إليه، وأستمع إلى حديثه فإن أعجبني آمنت به، فذهب إلى المسجد، ورأى رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، قائما يصلي، فاستمع إلى تلاوته فأعجبه، ثم عرض عليه رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، الإسلام وقرأ عليه شيئا من القرآن فوقع في قلبه، موقع الماء البارد في جوف الظمآن، فأعلن إسلامه، ثم غدا إلى قومه، فدعا أباه وزوجه إلى الإيمان بالله ورسوله فآمنا، ثم دعا قومه الذين استجابوا له بعد أن دعا لهم الرسول الكريم، - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن هؤلاء الذين آمنوا من بني دوس: أبو هريرة بن صخر الدوسى، الصحابي الجليل
عام الحزن
اجتمعت الأحزان على رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو لم يكد يخرج من الشعب حتى توفيت أم المؤمنين السيدة: خديجة بنت خويلد الأسدية، زوج رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - وذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات، فحزن عليها ونزل في حفرتها ودفنها بيده الشريفة في منطقة الحجون، وبفقد خديجة - رضي الله عنها -، فقد رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - الزوجة الوفية المخلصة، التي آمنت به ورعته وواسته ووقفت إلى جانبه في محنته تخفف عنه بعض ما يعانيه من أذى المشركين، ولهذا كان رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - يثني عليها كثيرا ويذكرها بالخير، فهي - رضي الله عنها - أم أولاده زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة الزهراء والقاسم وعبد الله الملقب بالطيب والطاهر، - رضي الله عنهم - أجمعين ولم يأته ولد من غيرها، سوى إبراهيم من مارية القبطية. ولهذا كله ووفاء منه، - صلى الله عليه وآله وسلم - بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب {5}. ثم وبعد أيام معدودة من وفاة خديجة - رضي الله عنها -، توفي عمه أبو طالب بن عبد المطلب، الذي كان كريما في مروءة وشرف، ونخوة وحمية، وعطف وحنان، ورأفة وشفقة، كل هذه الصفات الحميدة، جعلت أباه عبد المطلب يوصيه بكفالة رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - من بعده وكان أبو طالب يحب رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا يكاد يفارقه أبدا في حله وترحاله، وبقي في بيته حتى تزوج من خديجة - رضي الله عنها -، ووقف أبو طالب بجانب ابن أخيه عندما بعث، يمنعه من أذى المشركين ويحميه من اعتداءاتهم، وكان لا يكذب رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما جاء به، ويصدقه فيما يقول، ولكنه لم ينطق بالشهادتين، رغم إلحاح رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، عليه للنطق بهما عندما اشتد به المرض، وكان بعض المشركين أثناء ذلك يقولون له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فيجيبهم قائلا: على ملة عبد المطلب؟ لكن أبا طالب أوصى قومه قبل وفاته قائلا: [لن تزالوا بخير ما سمعتم قول محمد واتبعتم أمره، فاتبعوه وصدقوه ترشدوا] فقالوا له: يا أبا طالب إنك تعلم مقامك عندنا وتعلم ما بيننا وبين ابن أخيك، فادعه أن يكف عنا فنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه. فأرسل إليهم وقال: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك. فقال رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -: \" يا عم كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم \". فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات. فقال رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -: \" تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه \" فقالوا: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب، ثم إن رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - كرر دعوة عمه إلى الإيمان. فقال أبو طالب: يا ابن أخي لو لم تظن قريش أني قلتها جزعا من الموت لقلتها حتى أسرك. وحزن رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، حزنا عميقا على عمه أبي طالب، فقد فقد رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - المدافع عنه، والذي أرخص نفسه في سبيل منع رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - من أذى المشركين وتكذيبهم له, ولهذا سمي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، العام الذي توفيت فيه خديجة وأبو طالب عام الحزن، وانتهز المشركون هذه الفرصة السانحة، لينالوا من رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، وليزدادوا من آذاهم له حتى نثروا التراب على رأسه عندما أراد أن يدخل بيته، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكي. فقال لها رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -: \" لا تبكي يا بنية إن الله مانع أباك \". وأضاف قائلا: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.
----------------------------------------
1- صبأتم: غيرتم دينكم
2- يدرؤون: يدفعون
3- اللغو: الشتم والأذى من الكفار، والقول السخيف، الذي لا يستحق السمع
4- الآية 52-55 من سورة القصص
5- نصب:تعب
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد