الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون ما أجمل أن نداوي الجراح المكلومة الغائرة بالسيرة العطرة المعطرة لرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فسيرته بلسم للجراح وملاذ للخائف وحصٌن للراجي، والعوذ عندما تدلهم المصائب والأزمات.
فبَكََّي رسول الله يا عين عبرة *** ولا أعرفنك الدهر ودمعك يجمـد
وما فقد الماضون مثل محمد *** ولا مثلـه حتـى القيـامة يفقـد
تناهت وصاة المسلمين بكفـه *** فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند
أقول ولا يلقى لقولي عـائب *** من النـاس إلا عازب العقل مبعد
في الخامس عشر من شهر شوال أي في مثل هذه الأيام من السنة الثالثة من الهجرة وقعت معركة أحد بين المسلمين الموحدين ومشركي قريش ومهما أعدت ودبِّجت الرسائل فلن تعطي هذا الحديث ماله من حق في الدروس والعبر التي استفادها المسلمون من زمن الصحابة وحتى يومنا هذه وكأن الله - عز وجل - حينما قدّر أن الدائرة تدور على المسلمين في نهاية المعركة أراد بذلك أن يعطي الصحابة دروسا في بداية جهادهم ضد المشركين دروسا مؤثرة بالغة ترسخ في أذهانهم فلا ينسوها وتخلد في حياتهم فلا يجهلوها، وكذلك أن تصبح دروسا للأمة جمعاء في حياتها ومعاملاتها ولعل دروس النكبات والهزائم أعظم أثرا من غيرها في كل وقت وحين إلى الجسد المسلم بل والمتداهي، وهم بذلك يشوهون صورة الإسلام حينما يعرضون كل ذلك بالعلم ومحاربة البدعة ومنهج السلف هذه مواقف الإرجاف والنفاق من لدن نبينا محمد وحتى الآن، فعبد الله بن أبي إنما أراد بذلك العمل أن يضعف المعنويات وأن تخور القوى لدى الصحابة حينما يهزهم هو ومن معه من المنافقين والمرجفين في المدينة بهذا الموقف، فهي طعنة في الظهر ولذلك فقد عاتبهم الله - جل وعلا - بقوله وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لا تبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان [آل عمران: 167] وهو عمل ينطوي على غدر بالإسلام في أحرج الظروف وتلك أبرز خسائر النفاق والإرجاف، ولكن الله الذي صان هذه الدعوة وحماها أراد بمثل هذه المواقف المرجفة أن تصاب الأمة بمثل ذلك لكي تعزل الخبث عنها ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب [آل عمران: 179]. درس لا بد من الوقوف عليه ونحن نطالع هذه الغزوة إخوة الإيمان، واستعد المشركون بثلاثة آلاف مقاتل بعد أن اصطحبوا نساءهم وعبيدهم وجواريهم وكان المسلمون حينذاك سبعمائة مقاتل مع رسول الله وعسكروا بالشَّعب جاعلين ظهورهم إلى الجبل ووزع النبي الرماة على أماكنهم وأمر عليهم عبد الله بن جبير في خطة محكمة رائعة، وكانوا خمسين رجلا وأمرهم بأن لا يغيروا أماكنهم مهما ظهر لهم النصر وظاهر هو نفسه بين درعين وتخير من الأقوياء من يكونوا في مقدمة الجيش، روى ثابت عن النبي وممن قتل من الصحابة حنظلة بن أبي عامر الغسيل حيث قال عنه رسول الله إن صاحبكم لتغسله الملائكة فلما سألوا أهله ما شأنه قالت: إنه خرج وهو جنب ليلة عرسه حين سمع نداء الجهاد، الله أكبر إخوة الإيمان إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم وجهادهم ويوجهون زمامه بعزماتهم هم الذين صلوا هذه الحرب وبهذه التضحيات وبها وحدها وحفظوا مصير الإسلام في الأرض وممن قتل عمرو بن الجموح الذي كان أعرجا ولكنه أقسم أن يطأ بعرجته هذه في الجنة فلبى الله قسمه، وحينما رأى الرماة هذا النصر مالوا إلى المعسكر وخلوا ظهور العدو فكان يوم بلاء وتمحيص حتى وُصَِل إلى رسول الله فرُمي بالحجارة حتى وقع شقه فأصيبت رباعيته وشج في وجهه وجرحت شفته ودخلت حلقات المغفر في وجهه فأكب عليه أبو عبيدة ينزعها بفمه فما أخرجها إلا وقد سقطت ثنيتاه ونزف الدم بغزارة وجعل الدم يسيل على وجه النبي وجعل يمسح الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، ويمرّ ابن النضر بالمسلمين أثناء القتال فيقولون له مات رسول الله فيقول فما تصنعون بعدة، قوموا فموتوا على ما مات عليه، وبرزت حينئذ بطولة الصحابة رضوان الله عليهم فاجتمعوا حول رسول الله ينافحون عنه فترس أبو دجانة نفسه عن الرسول الله صلوات الله وسلامه عليه فأخذ النبل ويقع في ظهره وهو منن عليه حتى كثر فيه النبل ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل وهو يقول: ارم فداك أبي وأمي ولما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام والحارث بن الضيمة وطلحة بن عبيد الله، وطلحة قد أبلى بلاء يوم أحد حتى عرف ذلك اليوم به فكان يرفع النبي ثم يقاتل المشركين ثم يأتيه فيرفعه ثم يعود للقتال حتى سمي طلحة الشهيد الحي وقال عنه حينما رأى ما صنع أوجب طلحة، أي وجبت له الجنة، ولما أسند رسول الله في الشعب أدركه أبيٌّ بن خلف وهو يقول محمد لا نجوُت إن نجوتَ فقال رسول الله للقوم: دعوه فلما دنا تناول رسول الله الجربة فلما أخذها فهزها فانتهض الصحابة من حوله وتطايروا تطاير الشعراء أي الذباب عن ظهر البعير إذا انتفض بها ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنه تدحرج منها عن فرسه مرارا، وبعد نهاية المعركة وقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن في القتلة وبُقرت كبد حمزة ومثل بالصحابة، وخرج رسول الله يلتمس حمزة فوجده بهذه الصورة ممثلا به في بطن الوادي فحزن لذلك أشد الحزن وأمر به فسجي ببردة ثم صلى عليه وكانوا يأتون بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة.
وقال رسول الله من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع فقال رجل من الأنصار أنا فذهب يبحث عنه فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، فقال له إن رسول الله يسأل عنك فقال سعد أنا في الأموات فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وأبلغ قولي للأنصار السلام وقل لهم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ثم لم يبرح أن مات فأخبر النبي بالخبر فاستغفر له وقال رسول الله حينما أشرف على القتلى يوم أحد أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا ويبعثه الله يوم القيامة يرقى جرحه اللون لون الدم والريح ريح مسك.
ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة بعد أن أمر عليا بأن يلحق بالمشركين وكان مهموما حزينا وحينما مر ببيوت الأنصار سمع حزن نسائهم فتأثر وقال: ولكن حمزة لا بواكي له فبكت نساء الأنصار يومئذ حمزة عزاء للنبي.
ومر رسول الله بامرأة من بني دينار أثناء رجوعه، فقالوا لها: قد مات أخوك، فقالت لهم: ما فعل رسول اللهº فقالوا لها: مات أبوكº فقالت لهم: ما فعل رسول الله، فقالوا لها: مات زوجكº قالت: ما فعل رسول اللهº قالوا: خيرا يا أم فلان بحمد الله كما تحبين، قالت: أروني حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل تريد أنها صغيرة.
صورة قوية قارعة للبطولة والتضحية اصطدم بها الكفر في أول المعركة و آخرها فماذا أمامها واضطربت من تحت أقدامه الأرض فما ربح شيئا في بداية القتال ولا انتفع بما ربح آخره وهذا اللون من البطولة مسطر في التاريخ ينتظر من يلقى عليه الضوء ولن يقوم للإسلام صرح ولا ينكشف عنه طغيان إلا بهذه القوى المذخورة المضغوطة في أفئدة الصديقين والشهداء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [آل عمران: 139-142].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون: اتقوا الله - تعالى - واعلموا أن معركة أحد قد تركت آثارا غائرة في نفس النبي تلازمه حتى آخر حياته ولما حانت وفاته جعل آخر عهده بذكريات البطولة أن يودع قتلى أحد وأن يدعوا الله لهم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله على قتلى أحد بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) قال عقبة فكان آخر نظرة نظرتها إلى الرسول أخرجه البخاري ومسلم.
وهكذا كانت فائدة الصحابة عظيمة من هذه الغزوة بالرغم من مصابهم فيها ولذلك فإنه يجب على الأمة أن تعلم أن الإيمان بهذا الدين يحب أن يصاحبه يقين تام بنصر الله - جل وعلا - لهذا الدين وتمكينه، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر: 51]. والوعد الصادق من رسول الله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك فهذه، الطائفة ظاهرة لا يضرها شيء فقد تخذلهم فئام من الناس وقد يخذلهم المرجفون والخلوف الذين يقفون بين الصفين فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم نمنعكم من المؤمنين كل هؤلاء لن يضروا الدين مهما فعلوا وإن هذا الوعد الصادق ينبغي أن يكون يقيننا به كيقيننا بهذا الدين الذي نعتقده، ونحتاج هذا اليقين أكثر في ساعات الشدة وأوقات الكرب يوم تدلهم الخطوب وتكفهرٌّ الأحداث، نوقظ في النفوس صدق هذا الموعود واليقين به، ولذا كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه أشد ما يكون تفاؤلا في ساعات الشدة وأوقات الكرب يأتي إليه خباب بن الأرت وقد أمضه الألم من إيذاء المشركين ورسول الله محاَرَب من المشركين ويلقى المسلمون من المشركين الشدة يطردون ويؤذون في شعاب مكة فيقول يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر؟ لنا فماذا أجابه الرسول الكريم: ((والله لينصرن الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الشرك وليتمن الله هذا الجدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه)) يقوله في حين أن المسلم ذلك الوقت لا يأمن أن يسير في فجاج مكة آمنا ثم انظر إلى رسول الله وللمسلمين معه يوم الأحزاب حينما أحاط به المشركون حينما كبَّر وكبَّر المسلمون معه، وقال لهم لقد أضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ورأيت القصور الحمر في أرض الروم وأمتي ظاهرة عليها ورأيت قصور صنعاء وأمتي ظاهرة عليها فاستبشر المسلمون حينذاك، وكلما تكالبت على المسلمين الخطوب والكوارث واشتد عليهم الخطب يجب أن يفزعوا إلى يقينهم بصدق موعود الله - عز وجل - وأن هذا الدين له وهو الذي تكفل بنصره والتمكين له في أرضه وسمائه.
حقيقٌة ينبغي ألا تغيب مهما غامت الرؤى أو غبشت الأجواء ولم يرتبط نصر هذا الدين مصيره بالدول أو بالجماعات أو بالأفراد ولو كانوا الأنبياء قد قتلوا ومع ذلك لم يمتنع أتباعهم عن مواصلة الدعوة والعمل بل لقد عاتب الله أصحاب نبيه في يوم أحد عندما سرى فيهم الوهن عندما أشيع بين ظهرانيهم أن النبي قد قتل فقال لهم: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [آل عمران:144].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد