أهم السرايا والبعوث التي سبقت غزوة بدر الكبرى


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بمجرد الاستقرار الذي حصل للمسلمين بقيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وقيام الجماعة المؤمنة في المجتمع الجديد، كان لا بد أن يتنبه المسلمون وقيادتهم إلى الوضع حولهم وما ينتظرهم من جهة أعدائهم أعداء الدعوة، وكان لا بد أن تنطلق الدعوة الإسلامية إلى غايتها التي أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بها، وتحمل هو وأصحابه في سبيلها المشاق الكثيرة.

 

إن موقف قريش في مكة من أولى الأمور التي يجب أن تعالجها قيادة المدينةº لأن أهل مكة لن يرضوا بأن يقوم للإسلام كيان ولو كان في المدينة، لأن ذلك يهدد كيانهم، ويقوض بنيانهم، فهم يعلمون أن قيام الإسلام معناه انتهاء الجاهلية وعادات الآباء والأجداد، فلا بد من الوقوف في وجهه.

 

وقد بذلت مكة وأهلها المحاولات لعدم وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة واتخذت مواقف عدائية لضرب الإسلام والقضاء على المسلمين(15) واستمر هذا العداء بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن أهم المواقف الدالة على ذلك، ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حدَّث عن سعد بن معاذ أنه قال: كان صديقاً لأمية بن خلف، وكان (أمية) إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على (أمية) فلما قَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انطلق (سعد) معتمراً فنزل على أمية بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً، وقد آويتم الصٌّبَاه(16) وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فقال له (سعد) ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة...(17) وفي رواية عند البيهقي: «والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك إلى الشام» (18) تدل هذه الواقعة على أن (أبا جهل) يعتبر (سعد بن معاذ) من أهل الحرب بالنسبة إلى قريش، ولولا أنه دخل مكة في أمان زعيم من زعمائها لأهدر دمه، وهذا تصرف جديد من رؤساء مكة حيال أهل المدينة لم يكن قبل الدولة الإسلامية فيها، فلم يكن أحد من أهل المدينة يحتاج إلى عقد أمان لكي يسمح له بالدخول إلى مكة، بل إن قريشا كانت تكره أن تفكر في حدوث حالة حرب بينها وبين أهل المدينة قبل هذا الوضع الجديد، وقالوا في هذا الصدد يخاطبون أهل المدينة ما نصه: «والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم» (19) كما تدل هذه القصة على أن قوافل تجارة قريش في طريقها إلى الشام كانت في أمان إلى حدوث هذه الواقعة، لا تتعرض لها الدولة الإسلامية بمكروه، أي: كانت الدولة الإسلامية إلى هذا الوقت لم تعامل أهل مكة معاملة أهل الحرب، فلم تضرب عليهم الحصار الاقتصادي، ولم تصادر لهم أية قافلة، أو تقصدها بسوء؟ ومعنى هذا أن الأيدي الممسكة بزمام الأمور في مكة هي التي بادرت، وأعلنت الحرب على الدولة الإسلامية في المدينة، واعتبرت المسلمين أهل حرب لا يسمح لهم بدخول مكة إلا بصفة مستأمنين(20).

 

* ودليل آخر على مبادرة رؤساء مكة في إعلان الحرب على الدولة الإسلامية في المدينة ما جاء في سنن أبي داود: «عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كفار قريش كتبوا إلى (ابن أُبي) ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بالمدينة، قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه ولتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم، فلما بلغ عبد الله بن أبي، ومن كان معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيهم فقال: «لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم» فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا(21).

 

وهنا تظهر عظمة النبوة وعظمة القائد المربي - صلى الله عليه وسلم - حيث قضى على هذه الفتنة في مهدها، وضرب على وتر العزة القبلية، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدرك أغوار النفس البشرية التي يتعامل معها، ولذلك كان خطابه مؤثراً في نفوس مشركي يثرب، ونحن بحاجة إلى هذا الفقه العظيم في تفتيت محاولات المشركين للقضاء على الصف الإسلامي وزعزعة بنيانه الداخلي، بعد أن بدأت قريش بإعلان حالة الحرب بينها وبين دولة الإسلام بالمدينة، ونزل الإذن من الله - تعالى -بالقتال صار من الطبيعي أن تتعامل دولة المدينة مع قريش حسب ما تقتضيه حالة الحرب هذه، فقد اتجه نشاط الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل توطيد مكانة هذه الدولة، والرد على قريش في إعلانها الحرب على المدينة، فاتجه نشاطه نحو إرسال السرايا، والخروج في الغزوات(22) فكانت تلك السرايا والغزوات التي سبقت بدر الكبرى ومن أهمها:

 

1- غزوة الأبواء:

أولى الغزوات التي غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة الأبواء(23) وتعرف بغزوة ودان(24) أيضاً، وهما موقعان متجاوران بينهما ستة أميال أو ثمانية، ولم يقع قتال في هذه الغزوة بل تمت موادعة بني ضمرة (من كنانة)، وكانت هذه الغزوة في صفر سنة اثنتين من الهجرة، وكان عدد المسلمين مائتين بين راكب وراجل(25).

 

2- سرية عبيدة بن الحارث:

وهي أول راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(26)، وكان عدد السرية ستين من المهاجرين وكانت قوة الأعداء من قريش أكثر من مائتي راكب وراجل، وكان قائد المشركين أبو سفيان بن حرب، وحصلت مناوشات بين الطرفين على ماء بوادي رابغ، رمى فيها سعد بن أبي وقاص أول سهم رمي في الإسلام وكانت بعد رجوعه من الأبواء(27).

 

3- سرية حمزة بن عبد المطلب:

قال ابن إسحاق: وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقامه ذلك- أي لما وصل إلى المدينة بعد غزوة الأبواء- حمزة بن عبد المطلب إلى سِيف البحر(28) من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجر بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا للفريقين جميعاً، فانصرف القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال(29).

 

4- غزوة بواط(30):

وكانت غزوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بواط) في شهر ربيع الأول في السنة الثانية من مهاجره، وخرج في مائتين من أصحابه وكان مقصده أن يعترض عيراً لقريش كان فيها أمية بن خلف في مائة رجل وألفين وخمسمائة بعير، فلم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - كيداً فرجع إلى المدينة.

 

5- غزوة العُشَيرة(31):

وفيها غزا - صلى الله عليه وسلم - قريشاً، واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وسميت هذه الغزوة بغزوة العُشَيرة، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضَمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، وذلك أن العير التي خرجت لها الغزوة قد مضت قبل ذلك بأيام ذاهبة إلى الشام(32)، فساحلت على البحر وبلغ قريشاً خبرها فخرجوا يمنعوها فلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووقعت غزوة بدر الكبرى(33).

 

6- سرية سعد بن أبي وقاص:

وبعد غزوة العشيرة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص في سرية قوامها ثمانية رَهط من المهاجرين فخرج حتى بلغ الخَرَّار(34) من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلق كيداً(35).

 

7- غزوة بدر الأولى:

سببها: أن كرز بن جابر الفهري، قد أغار على سرح المدينة ونهب بعض الإبل والمواشي، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له (سفوان) من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، فلم يدركه، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة(36).

 

8- سرية عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة(37):

وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش في ثمانية رَهط من المهاجرين إلى نخلة جنوب مكة في آخر يوم من رجب للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش، لكنهم تعرضوا لقافلة تجارية لقريش فظفروا بها، وقتلوا قائدها عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنين من رجالها وهم: عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وعادوا بهم إلى المدينة، وقد توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغنائم حتى نزل قوله - تعالى -: (يَسأَلُونَكَ عَنِ الشَّهرِ الحَرَامِ قِتَالٍ, فِيهِ قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدُّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفرٌ بِهِ وَالمَسجِدِ الحَرَامِ وَإِخرَاجُ أَهلِهِ مِنهُ أَكبَرُ عِندَ اللهِ وَالفِتنَةُ أَكبَرُ مِنَ القَتلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدٌّوكُم عَن دِينِكُم إِن استَطَاعُوا وَمَن يَرتَدِد مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُت وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم فِي الدٌّنيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217].

 

فلما نزل القرآن الكريم قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير والأسيرين، وفي سرية عبد الله هذه غنم المسلمون أول غنيمة، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون(38).

 

رابعًا: فوائد ودروس وعبر:

1- متى شُرع الجهاد؟

ذهب الشيخ الدكتور محمد أبو شهبة إلى أن تشريع الجهاد كان في أوائل السنة الثانية للهجرة، وعلل ذلك بسبب انشغال المسلمين في السنة الأولى بتنظيم أحوالهم الدينية والدنيوية كبنائهم المسجد النبوي، وأمور معايشهم، وطرق اكتسابهم وتنظيم أحوالهم السياسية: كعقد التآخي بينهم، وموادعتهم اليهود المساكنين لهم في المدينة، كي يأمنوا شرورهم(39)، وذهب الأستاذ صالح الشامي أن الإذن بالجهاد كان في أواخر السنة الأولى للهجرة(40).

 

2- الفرق بين السرية والغزوة:

يطلق كتاب السير في الغالب على كل مجموعة من المسلمين خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلقى عدوه (غزوة)، سواء حدث فيها قتال أو لم يحدث، وسواء كان عددها كبيراً أو صغيراً، ويطلق على كل مجموعة من المسلمين يرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعتراض عدو كلمة: (سرية) أو (بعث)، وقد يحدث فيها قتال، وقد لا يحدث، وقد تكون لرصد أخبار عدوه أو غيره، وغالباً ما يكون عدد الذين يخرجون في السرايا قليلاًº لأن مهمتهم محددة في مناوشة العدو وإخافته وإرباكه، وقد قاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعاً وعشرين غزوة، وأرسل ما يقدر بثمانٍ, وثلاثين سرية وبعثاً، وقد خطط لها في فترة وجيزة في عمر الأمم بلغت عشر سنوات من الزمن(41).

 

3- تعداد سكان المدينة وعلاقته بالسرايا:

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجراء تعداد سكاني في السنة الأولى من الهجرة، وبعد المؤاخاة مباشرة، وكان الإحصاء للمسلمين فقط أو حسب نص أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس» فبلغ تعداد المحاربين منهم فقط (1500) ألفاً وخمسمائة رجل(42) فأطلق المسلمون بعد إجراء هذا الإحصاء تساؤل تعجب واستغراب: «نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟! » لأنهم كانوا قبل لا ينامون إلا ومعهم السلاح خوفا على أنفسهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنع خروجهم ليلاً فرادى حماية لهم من الغدر(43)، وبعد هذا التعداد مباشرة بدأت السرايا والغزوات، وهذا الإجراء الإحصائي يدخل ضمن الإجراءات التنظيمية في تطوير الدولة الناشئة(44).

 

4- حراسة الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - الشخصية:

كان الصحابة - رضي الله عنهم - يحرسون النبي - صلى الله عليه وسلم - حراسة شخصية، فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أرق النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقال: «ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة»، إذ سمعنا صوت السلاح، قال: «من هذا؟ » قال: سعدٌ، يا رسول الله جئت أحرسك، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فنام حتى سمعنا غطيطه»(45)، وكان ذلك قبل غزوة بدر الكبرى(46)، وفي حديث عائشة، مشروعية الاحتراس من العدو، والأخذ بالحزم، وترك الإهمال في موضع الحاجة إلى الاحتياط، وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم خشية القتل، وفيه الثناء على من تبرع بالخير وتسميته، وإنما عانى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك(47).

 

5- نص وثيقة المعاهدة مع بني ضمرة والتعليق عليها:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضَمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأنَّ لهم النصر على من رامهم، إلا أن يُحاربوا في دين الله ما بل بحرٌ صوفه (48) وأن النبي إذا دعاهم لنصرة أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله، ولهم النصر على من برَّ منهم واتقى» (49).

 

انتهز النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأبواء فرصة ذهبية، فعقد حلفاً عسكرياً مع شيخ بني ضمرة، فقد كان موقع بلاده ذا قيمة عسكرية لا تقدر بثمن في الصراع بين الدولة الإسلامية الناشئة وقريشº ولذلك عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضمان حيدتهم، في حالة وقوع صدام مسلح بين المدينة وأهل مكة، وكانت خطته - صلى الله عليه وسلم - حتى وقعة بدر أن يزعج قوافل قريش بإرسال مجموعات صغيرة من المهاجرين، وخاصة أن هذه القوافل كانت غير مصحوبة بجيش يحميها، وهو أمر لم تفكر فيه قريش حتى تلك اللحظة(50).

كان قرب بني ضمرة وحلفائهم من المدينة التي كانت سوقهم ومصدر رزقهم، قد وضعهم في موقف لا يسمح لهم بأي مسلك غير موادعة الدولة الإسلامية الناشئة، وهو حلف عدم اعتداء وفق المصطلح الحديث(51).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply