ميزان القوى في غزوة بدر الكبرى وأثره في إحراز النصر


  

بسم الله الرحمن الرحيم

كانت غزوة بدر الكبرى أول مواجهة عسكرية حاسمة بين المسلمين وكفار قريش، وأول اختبار عملي حاسم للإسلام عقيدةً ومنهجًا للحياة، وكان للنتيجة التي سوف تسفر عنها المعركة آثار بعيدة المدى على الدعوة وعلى هيبة المسلمين، وقد عبَّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وهو يهتف بربه يوم بدر \"اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض\"، وقد كانت موازين القوى في بدر في صالح المشركين من حيث عدد الرجال والأسلحة، ومثل هذا الموقف كفيل بإقناع أي قائد حربي بالعدول عن قبول المعركة التي تنطوي على مخاطرة عظمى، غير أن المسلمين أحرزوا نصرًا عظيمًا بكل المقاييس، ومما يزيد من قيمة هذا النصر أنه يتجاوز المقياس العلمي للنصر في مفهوم العلم العسكري.

فالمقياس العلمي للنصر هو أن يكون هذا النصر بدون، خسائر أو بأقل قدر من الخسائر في الأرواح وفي المعدات، وفي أقل وقت، معنى ذلك أن قمة النصر أن يتم إحرازه بلا خسائر على الإطلاق سواء في الأرواح أو في المعدات، وكذا أن يتم في أقصر وقت، فإذا لم يتحقق النصر على هذا النحو، فلابد أن يكون إحرازه \"بأقل ثمن وفي أقصر وقت\"، أما النصر الذي يتم إحرازه بثمن كبير من الأرواح والمعدات ويستغرق وقتًا طويلاً أطول من اللازم فلا يعد نصرًا حقيقيًا بالمقياس العلمي.

 

ثم إن هذا المقياس يطبق في حالة القتال بين قوتين \"بينهما تكافؤ في ميزان القوى حتى يكون الحكم عادلاً، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقدر عظمة النصر الإسلامي في بدرº حيث دارت المعركة بين قوتين \"غير متكافئتين\" فكان النصر للمسلمين على عدوهم الذي بلغت قوته ثلاثة أمثالهم وبأقل الخسائر، وذلك ما ينبغي على المسلمين اليوم أن يتدبروه، وأن يستوعبوا دروس تاريخهم، وينتفعوا بها في حاضرهم ومستقبلهم، وأن يدركوا أن الإسلام ينفرد بمقومات للنصر تتجاوز المقاييس التي وضعتها عقول وخبراء الحرب، وأن هذه المقومات لها من الأصالة ما للدين نفسه من أصالة.

 

• سر الانتصار:

والحق أن \"الإسلام\" هو السر وراء انتصار المسلمين الفريد، وهو ما تكشف عنه المقارنة بين حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده، فقد حدث لهم \"تحول عظيم\" كان من بين مظاهره أن المسلم أصبح له وزن كبير في موازين القوى، وها هو \"المثنى بن حارثة الشيباني\" يصف الفرق بين المقاتل العربي في الجاهلية وهذا المقاتل ذاته بعد الإسلام فيقول: \"قد قاتلت العرب والعجم الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشد علي من ألف من العجم.

 

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتاله دفاعًا عن الدين يحارب عربًا بعرب، بل قرشيين بقرشيين، فلا يمكن أن تكون هناك مزايا لدى طرف دون طرف في القوة والشجاعة، فالسر وراء انتصار المسلمين هو أن الإسلام وجه نزعات العرب في نفوسهم إلى غاية عظمى رفعت أقدارهم، وهي إعلاء كلمة الله، وإعزاز راية دينه، وما يدخل في مفهوم كلمة سبيل الله من قيم فاضلة وقضايا عادلة وأهداف نبيلة، وكان الإسلام حريصًا على أن يزود المسلمين بتلك الدوافع التي تملأ نفوسهم حمية واستبسالاً، ولهذا كان \"حساب المقاتل المجاهد \" في الحرب وفي ميزان القوى مقدرًا بما في قلبه من عقيدة وإيمان، وربما في نفسه من مبادئ يُحارب عنها، وأسباب تدعوه إلى خوض هذه الحرب.

 

وهذا ما نجده في قول الله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ حَرِّضِ المُؤمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُم عِشرُونَ صَابِرُونَ يَغلِبُوا مِائَتَينِ وَإِن يَّكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغلِبُوا أَلفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُم قَومٌ لاَّ يَفقَهُونَ} (الأنفال: 65)، وذلك لأن الذين كفروا قد خلت نفوسهم من المبادئ الكريمة والدوافع الصادقة، ولذلك \"حرموا الفقه\" الذي كان من شأنه أن يبصرهم بالمبادئ التي يقاتلون عليها، والمثل التي يدافعون عنها، ومن حرم هذا الفقه في مجال الحرب، فقد تعرى من كل سلاح يدافع به، وكانت عاقبته الهزيمة والبوار.

 

وقد برز ذلك في أول مواجهة بين المسلمين والكفار في غزوة بدر الكبرى، إذ كان هدف المسلمين \"إعلاء كلمة الله\"، بينما كان هدف المشركين ما عبَّر عنه قول زعيمهم أبي جهل: \"والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا ننحر الجزور ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها.

 

فإذا ما تأملنا موقف المسلمين، فإننا نجد الإسلام ينزه المقاتل عن دوافع المفاخرة أو حب الظهور أو الرغبة في الثناء، فهو لا يستحق الجنة ولا يجد ريحها إلا إذا كان جهاده خالصًا من أجل إعلاء كلمة الله، فقد سُئل الرسول- صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يُقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال \"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله\".

 

قال الحسن بن الربيع: خرج فارس ملثم فقتل فارسًا من العدو كان قد نال من المسلمين، فكبر له المسلمون، وعاد ودخل في غمار الناس ولم يعرفه أحد فتتبعته حتى سألته بالله أن يرفع لثامه، فعرفته وقلت أخفيت نفسك من هذا الفتح العظيم الذي يسره الله على يديك! فقال \"الذي فعلت له، لا يخفى عليه عملي\".

 

الحوافز المعنوية والدوافع النفسية كما لها في نفس المجاهد المؤمن بشعوره بمعية الله له، وثقته في وعده - جل وعلا- له بالنصر، حيث يقول الله - تعالى -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ} (الحج: 40)، {إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم} (محمد: 7)، {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مٌّحسِنُونَ} (النحل: 128)، {وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنِينَ} (الروم: 47)، {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ} (المنافقون: 8)، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ} (آل عمران: 139)، {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لاَ يُشرِكُونَ بِي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55)، {وَلَن يَجعَلَ اللهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) وسبيلاً أي سلطانًا، {وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرسَلِينَ* إِنَّهُم لَهُمُ المَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: من 171 إلى 173).

 

هذه الآيات ونظائرها تدل على أن العزَّ والعلو والرقي والسعادة للمؤمنين، وأنه لا سلطان للكافرين عليهم، وتؤكد أن جند الله هم الغالبون، فقد صدرت الآية الكريمة {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} بالتأكيد اللفظي {وَإِنَّ جُندَنَا} وبالتأكيد المعنوي الواضح في كلمة {جُندَنَا} فهي نسبة عزيزة تقتضي أعز الأماكن وأشرف الغايات، فهم جند من جندنا، وكفى بهذه النسبة شرفًا وفخارًا وضمانًا للفوز والانتصار، فليس هناك أعظم من هذا الإحساس ولا أقوى من توفير الحوافز المعنوية والدوافع النفسية نحو الاستبسال في القتال في سبيل الله، إنه إحساس لا ينحصر أثره في المقاتل وحده، بل إنه يجعل روح المقاتل ونفسه وقلبه وسلوكه \"مصادر إشعاع\" لكل عمل بطولي وجمال نفسي، وجلال خلقي.

 

صفات المنصورين:

والمؤمنون الذين ضمن الله لهم النصر وأخبر أن لهم الغلبة ولا سلطان للكافرين عليهم، ذكرهم الله - تعالى - في أوائل سورة الأنفال، حيث قال - تعالى - مبينًا صفة المؤمنين المنصورين في الدنيا والآخرة: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ* أُولَئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَ حَقًّا لَّهُم دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِم وَمَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: من 2 إلى4).

 

فهؤلاء هم المنصورون والسعداء في الدنيا والآخرة \"ما داموا\" متصفين بهذه الصفات الخمس التي وصفهم الله بها، أما إذا حادوا عن دينهم وعدلوا عن كتاب ربهم، عند ذلك يتخلى الله عنهم وعن نصرهم: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11)، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"لا زلتم منصورين على أعدائكم ما دمتم متمسكين بسنتي، فإن خرجتم عن سنتي سلَّط الله عليكم مَن لا يخافكم ولا يرحمكم حتى تعودوا إلى سنتي\"، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- لسعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه-: \"وآمرك ومن معك من الأجناد أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليه من عدوه، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله\".

 

نصر الله سنة ماضية:

ونصر الله للمؤمنين سنة ماضية يشهد بها سجل التاريخ الإسلامي في عهد النبوة وفي فتوح الإسلام ومعارك المسلمين ضد الصليبيين والمغول وغيرهما.

ولقد سأل الإمبراطور البيزنطي هرقل قادته: أخبروني ويلكم من هؤلاء القوم الذين تلقونهم؟ أليسوا بشرًا مثلكم؟..فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: نحن أكثر منهم أضعافًا، وما لقيناهم في موطن إلا ونحن أكثر منهم.قال: ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم؟.. فقام شيخ من الحاضرين يجيب عن سؤاله فكان مما قال: من أجل أن القوم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يظلمون أحدًا ويتناصفون فيما بينهم، إذا حملنا عليهم صبروا، وإذا حملوا علينا لم يكذبوا. !!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply