الخطبة الأولى:
أما بعدُ: عباد الله اتقوا الله - تعالى - وتوبوا إليه.
واعلموا أن سيرة النبي الكريمº الشفاء لما فسد من القلوب، منها نستفيد عند الأزمات والفتن.
لما جاء القرن السادس لميلاد عيسى - عليه السلام - كانت منارات الهدى قد انطفأت في مشارق الأرض ومغاربها، وكان الشيطان يذرع الأقطار الفسيحة فيرى ما غرس من أشواك قد نمت وامتدت، فالمجوسية في فارس طليعةٌ للشرك الفاشي في الهند والصين وبلاد العرب وسائر المجاهل.
والنصرانية التي تناوئ هذه الجبهة قبست أبرز مآثرها من خرافات اليهود والمصريين القدامى، فهي تجعل لله صاحبةً وولداً، وتغري أتباعها في روما ومصر والقسطنطينية بلونٍ, من الإشراك وعقيدة التثليث أشد من شرك عباد النيران والأوثان.
والظلام الذي ران على الأفئدة والعقول في غيبةِ أنوار التوحيد طوى في سواده أيضاً تقاليد الجماعة وأنظمة الحكمº فكانت الأرض مذأبةً يسودها الفتك والاغتيال، ويفقد فيها الضعاف نعمة الأمن والسكينة، وأيٌّ خيرٍ, يرجى في أحضان وثنيةٍ, كفرت بالعقل، ونسيت الله، ولانت في أيدي الدجالين، لاغرابةَ!! إذا رفع الله يده عنها كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) لقد شمل الدنيا قبل مبعث محمد حيرةٌ وبؤسٌ ناءت بهما الكواهل:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم *** إلا علـى صنم قد هـام في صنـم
فعاهل الـروم يطغى في رعيتـه *** وعاهل الفرس من كبر أصم عمي
فتأذن الله عند ذلك ليحسمن هذه الآثار، وليسوقن هدايته الكبرى إلى الأنام فأرسل إلى الأمة محمداً - عليه الصلاة والسلام -.. برسالة عامة ودائمة لجميع الناس وكل العصور، وأنزل معه القرآن كي يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
كان رسول الله يتيماً تولاه الله برعايته، وحفظه بعنايته، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((أدبنيّ ربي فأحسن تأديبي))، وشب رسول الله والله - تعالى - يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهليةº لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ رجلاً أفضل قومه مروءةً وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً وأحسنهم جواراً وأعظمهم حلماً وأصدقهم حديثاً وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تُدنس الرجال، حتى ما لبث أن صار اسمه - عليه الصلاة والسلام - في قومه الصادق الأمين.
كفاك بالعلم في الأمي معجزةً *** في الجاهلية والتأديب في اليتم
وبعد هذه التهيئة لهذا الأمر العظيم تأذن الله لهذا النبي الكريم بالرسالة. عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أول ما بدء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة من النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءُه الحق وهو في غار حراء، فجاء الملك فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئ)) قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم)) فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: ((زملوني زملوني)). فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرىء الضيف وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ـ ابن عم خديجة ـ وكان امرأً تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله: ((أومخرجي هم؟)) قال نعم، لم يأتِ رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. رواه البخاري.
وتقلصت ظلال الحيرة، وتثبت أعلام الحقيقة وعرف محمد معرفة اليقين أنه أضحى نبياً لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه هو رسول الوحي ينقل إليه خبر الله، جاء جبريل بعد المرة الثانية بعد انقطاع. قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله يحدث عن فترة الوحي: ((فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففزعت منه حتى هويت على الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت زملوني.. زملوني، فدثروني فأنزل الله - عز وجل -: \" يا أَيٌّهَا المُدَّثّرُ قُم فَأَنذِر وَرَبَّكَ فَكَبّر وَثِيَابَكَ فَطَهّر وَالرٌّجزَ فَاهجُر \" [المدثر: 1-5]، الآيات)) أخرجه البخاري.
وهكذا كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة إيذاناً لرسول آية آية. وشرع محمدٌ يكلم الناس في الإسلام ويعرض عليهم الأخذ بهذا الدين الذي أرسله الله به، وسور القرآن التي نزلت في مكة تبين العقائد والأعمال التي كلف الله بها عباده وأوصى رسوله أن يتعهد قيامها ونماءها. وأخذت الدعاية للإسلام تنتشر في مكة ويعرض الرسول أولاً الإسلام على ألصق الناس به من آل بيته وأصدقائهº الحميم أبي بكر الذي لم يكتف بإيمانه بل نشط في الدعوة إلى الله - تعالى -، وهكذا بدأت الدعوة تنتشر وهي في مرحلتها السرية حتى أمر الله نبيه بالجهر بالدعوة. فصدع رسول الله بالدعوة إلى الإسلام وأنكر على قريش ما تشرك به مع الله ودعاهم إلى كلمة التوحيد \"لا إله إلا الله محمد رسول الله\" فلما فعل ذلك استعظموه ونكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته، إلا من عصم الله - تعالى -منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون، وحدب على رسول الله عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، فلما رأت قريش أن رسول الله لم يعبأ بها واستمر في تسفيه آلهتهم ذهبوا إلى عمه أبي طالب وقالوا له: يا أبا طالب إنا والله نصبر على ابن أخيك وقد شتم آباءنا وسفه أحلامنا وعاب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، فبعث أبو طالب إلى رسول الله فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي: كذا وكذا فأَبقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق.
فظن رسول الله أنه قد بدا لعمه فيه أن يخذله ويسلمه فقال له رسول الله ثابتاً صابراً على مبدئه وعقيدته: ((يا عم، والله لووضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته)).
ثم استعبر رسول الله فبكى. ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي فقال له: قل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيءٍ, أبداً ثم أنشد:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
وهكذا بدأت قريش بالترغيب والترهيب تريد صد رسول الله وصحابته عن هذا الدين، فما فتئت تعذب صحابته بوسائل تعذيب، فعذب أبوجهل عمار بن ياسر ووالده ووالدته سمية فقتلهما، وعذب أمية بن خلف بلالاً الحبشي، وممن عُذِّب عمارُ بن فهيرة وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -.
ثم إن قريشاً اشتد أمرهم فأغروا برسول الله سفهاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ورسول الله مظهرٌ لأمر الله لا يستخفي به.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فظهر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مرّ بهم غمزوه ببعض القول قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف ثم قال: ((أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح)) فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طيرٌ واقع، حتى إن أشدهم أذية له قام يلاطفه ويقول: انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولاً.
فانصرف رسول الله حتى إذا كان الغد طلع عليهم رسول الله فوثبوا إليه وثبة رجلٍ, واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ـ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ـ فيقول رسول الله: ((نعم أنا الذي أقول ذلك)) قال: فلقد رأيت منهم رجلاً أخذ بمجمع ردائه، فقام أبوبكر - رضي الله عنه - دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عنه واستمر أذى قريش للنبي حتى قرروا قراراً جائراًº وهو محاصرته - عليه الصلاة والسلام - ومن تبعه في شعب أبي طالب، وقرروا أن لايناكحوهم ولايبيعونهم ولاتأخذهم بهم رأفة، وتحالفوا على هذا القرار، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، وكان الذي كتبها بغيض بن عامر بن هاشم فدعا عليه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فَشُلَّت يده وانحاز بعد ذلك بنو هاشم وبنو عبدالمطلب في الشعب إلا أبا لهب وقطعت عنهم الميرة والمادة، ومنع التجار من مبايعتهم، فجهد القوم حتى أكلوا أوراق الشجر والجلود. واصلوا الضر والفاقة حتى سمعت أصوات النساء والصبيان يتضاغون جوعاً، ولم يكن يصل إليهم شيءٌ إلا سراً، وكان رسول الله على الرغم من كل ذلك مصمماً ومستمراً في دعوته إلى الله ولا سيما في أيام الحج، حينما كانت القبائل العربية تفد إلى مكة من كل صوب.
عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله يعرض نفسه في الموقف فيقول: ((ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي)) واستمر الحصار في الشعب ثلاث سنوات حتى أنهاها بعض عقلاء قريش فوجدوا أن الصحيفة التي كتبوها قد أكلتها الأرضة إلا (باسمك اللهم) كما أخبرهم قبل ذلك رسول الله.
وبعد وفاة أبي طالب عم رسول الله وزوجه خديجة عظم الخطب على رسول الله واغتمّ وحزن. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد ـ - عليه الصلاة والسلام - ـ إذا سجد ـ فانبعث أشقى القوم، فأخذه، فلما سجد النبي وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لوكان لي منعة طرحته عن ظهره، والنبي ساجد لا يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت، وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم.
فلما قضى رسول الله صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاث مرات ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط)).
قال ابن مسعود: (فوالذي بعث محمداً بالحق لقد رأيت الذين سمى رسولُ الله صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر) أخرجه البخار ي. فرأى رسول الله بعد ذلك أن يتوجه بدعوته إلى مكانٍ, آخر علّه أن يكون أحسن قبولاً وأقرب استجابة من مكة، وهذه هي وظيفة الداعية الذي يجب عليه أن يبحث عن أي مكان يقبل دعوته وأن يجدد في الوسائل التي تنشر دين الله وتقربه إلى الناس.
ثم خرج - عليه الصلاة والسلام - إلى الطائف يطلب النصرة والمنعة ماشياً على قدميه ومعه مولاه زيد بن حارثة، فدعا أشرافهم ورؤساءهم إلى الإسلام، فردوا عليه ذلك وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما تهيأ للخروج بعد عشرة أيام وقفوا له صفين، وأخذوا يسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وقدميه، وحتى اختضب نعلاه بالدم، وزيد بن حارثة - رضي الله عنه - يقيه بنفسه ويدافع عنه، فأصابه شجاجٌ في رأسه، واستمر هذا الأذى برسول الله حتى وصل إلى حائط في ضواحي الطائف، فدخل به واحتمى منهم، وقد أثر في نفسه ما لاقاه منهم فقال يدعو ربه: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني؟ أم إلى عدو ملّكته أمري؟. إن لم يكن بك علي غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنورك وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
ثم خرج رسول الله من الحائط، وتقدم إلى مكة وهو كئيب حزينٌ مهموم، حتى إذا بلغ قرن المنازل أظلته سحابة فيها جبريل، ومعه ملك الجبال فرفع رسول الله رأسه فناده جبريل وقال: إن الله بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، ثم سلم ملك الجبال وقال: يا محمد لك ذلك فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ـ وهما جبلا مكة ـ فقال - صلى الله عليه وسلم -، النبيُ الرحيم والداعية المشفق على قومه الذي لا يحمل في قلبه غلاً ولا حقداً ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)).
ثم قدم - عليه الصلاة والسلام - مكة ودخلها بجوار المطعم بن عدي حمايةً له من أهل مكة. وحصل الإسراء والمعارج للنبي فزاد أذى المشركين له ولأصحابه حتى أذن رسول الله لأصحابه بالهجرة إلى المدينة هروباً من بطش المشركين وأذاهم، لكي يكتب الله لدعوة الإسلام الانتشار في الأرض عن طريق ذلك البلد الذي آمن أهله وصدقوا برسول الله.
وتجرأت قريش بعد ذلك على فكرة قتل النبي فاتفقوا أن يأخذوا من كل قبيلة شاباً من أنشط شبابها فيتجهون حول بيت سول الله، فإذا خرج ضربوه بالسيوف ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل، فبينما هم يمكرون أذن الله - تعالى - لرسوله بالهجرة إلى المدينة بعد ثلاثة عشر سنة قضاها في مكة مهبط الوحي يدعو فيها قومه إلى الإيمان بالله ونبذ الإشراك به، وأوذي في ذلك بصنوف الأذى والعذاب، ولكن الله الذي أنزل هذه الرسالة حماها وتكفل بها.
وهاجر رسول الله إلى المدينة حتى وصلها منصوراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: \" وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَـاكِرِينَ \" [الأنفال: 30].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: عباد الله، يقول الله - تعالى -: \" يا أَيٌّهَا لنَّبِىٌّ إِنَّا أَرسَلنَـاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجاً مٌّنِيراً \" [الأحزاب: 45، 46]، حياة الرسول مملوءة بكل معاني الخير التي يجب أن تتوفر في الدعاة إلى الله كما أنها مملوءة بما يجب أن يتعلمه المسلمون من منهج حياته، وإننا مهما حاولنا استخلاص العبر منها وأخذ الدروس من وقائعها لن ننتهي من ذلك وإن تعددت المصنفات والخطب والمواعظ، فالسيرة النبوية الكريمة كالبحر كلما تعمقت في قاعه كلما ظفرت بأنواع اللؤلؤ والمرجان فينبغي لك ـ أخي المسلم ـ أن تخصص وقتاً يومياً لك ولأسرتك لمطالعة سيرته - عليه الصلاة والسلام - واستخلاص العبر، وإن فيما أخذناه اليوم من سيرة رسول الله وما لقي من أذى قومه في العهد المكي عِبراً عظيمة ينبغي لدعاة الله وأوليائه أن يراجعوها ويقرؤوها في كل ما يلاقيهم من صنوف الأذى.
إن على أمتنا وهي تواجه المصائب في هذا الزمن، وتسلط الأعداء أن تستلهم من سيرة رسول الله عليه وسلم العطرة العبر والدروس.
إن هذا الجم الغفير من أنبياء الله ورسله الذين جاء ذكرهم في القرآن أو في السنة والذين بلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر كما في بعض الأحاديث كلهم رفعوا راية الإصلاح في وسط مجتمعات سيطر عليها الفساد بكل صوره وألوانه، ولم يكتفوا بمجرد صلاح أنفسهم، فلم يكن من بينهم واحد قط رضي بأن يعيش بين قومٍ, ضالين منحرفين وهو مخالف لهمº إلا أن يصدع بدعوة الحق والتوحيد بين أظهرهم. فهل لقوا التكريم من أقوامهم؟ لقد سمعنا في حديث النبي أن النبي يأتي يوم القيامة، ومعه واحد والنبي يأتي معه اثنان، ويأتي النبي وليس معه أحد هذا عدا من قتل وأوذي من أنبياء الله ورسله، إذاً فالأذى هو سمة أهل الدعوة إلى الله - تعالى -. والله - تعالى -قادرٌ على نصر أوليائه. لكنه أخر نصره لأنه أراد تربيتهم وتعويدهم على الصبر. فصبروا ثلاث عشر سنة وأُخرجوا وأُوذوا حتى صفت نفوسهم وقوي إيمانهم. عن أبي عبد الله خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري.
فأراد النبي أن يربي الصحابة بذلك الأمر العظيم الذي يبين نصرة الإسلام والحق برغم القهر والأذى من أعداء الله. فلما هاجروا إلى المدينة فإذا هم أقوى شكيمة وأمكن عزيمة وترسخت العقيدة في قلوبهم، فأقاموا دولة الإسلام وحاربوا الشرك وأهله ونشروا الإسلام وتحقق مرادهم بتوفيق من الله ثم بالصبر على ما واجهوه في مكة.
واعلموا إخوتي أنه كلما اشتدت الأزمات وعظمت الكربات.. وأخذت بخناق الأمة الكروب ينبغي أن ننظر إلى علام الغيوب ونطلب منه - سبحانه - أن يرزقنا صبراً يليق بعبادته وصبراً يوفي نعمهº صبراً لأهالينا المحاصرين في فلسطين، وصبراً يرزقه لإخواننا المرابطين في ثغور الجهاد ومواقع الرباط، فلقد سبق الصبر والمصابرة الرباط حين يقول - جل وعلا -: \" يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ \" [آل عمران: 200].
إن جهاد أمتنا لن يتحقق نصره إلا بالصبر.. صبر على أقدار الله وصبرٌ عن معاصي الله وصبرٌ على تربية الأمة وتعليمها وتقوية الإيمان في نفوس أهلها وهذا ما فعله - عليه الصلاة والسلام - في مكة مع صحابته. فللدعاة إلى الله ولأوليائه قدوة بما حصل للنبي وأصحابه الكرام فهلاَّ صبروا؟ وسيكون النصر بإذن الله لهم، وإن طال الزمان أو قصر، وسيكون النصر وإن عظم البلاء والقهر، نسأل الله جلت قدرته أن يعلي كلمته وينصر أولياءه إنه سميع مجيب.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم الكريم فلقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائلاً عليما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً \" [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد