كان موقف خديجة - رضي الله عنها - يدل على قوة قلبها، حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر، واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة، ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة بن نوفل، وعرضت الأمر عليه([40]).
كان موقف خديجة - رضي الله عنها - من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها، حيث قارنت بين ما سمعت، وواقع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأدركت أن من جُبـِـل على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبدًا، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس، فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه، وكسبهم بما له عليهم من معروف كان طبيعيا بأن ينجح في كسب غيرهم من الناس([41]).
كانت أم المؤمنين السيدة خديجة - رضي الله عنها - قد سارعت إلى إيمانها الفطري، وإلى معرفتها بسنن الله - تعالى - في خلقه، وإلى يقينها بما يملك محمد - صلى الله عليه وسلم - من رصيد الأخلاق، وفضائل الشمائل، ليس لأحد من البشر رصيد مثله في حياته الطبيعية التي يعيش بها مع الناس، وإلى ما ألهمت بسوابق العناية الربانية التي شهدت آياتها من حفاوة الله - تعالى - بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في مواقف، لم تكن من مواقف النبوة والرسالة، ولا من إرهاصاتها المعجزة، وأعاجيبها الخارقة، ولكنها كانت من مواقف الفضائل الإنسانية السارية في حياة ذوي المكارم، من أصحاب المروءات في خاصة البشر([42]).
كانت موقنة بأن زوجها فيه من خصال الجبلة الكمالية ومحاسن الأخلاق الرصينة، وفضائل الشيم المرضية، وأشرف الشمائل العلية، وأكمل النحائز الإنسانية ما يضمن له الفوز، ويحقق له النجاح والفلاح، فقد استدلت بكلماتها العميقة على الكمال المحمدي([43])، فقد استنبطت خديجة - رضي الله عنها - من اتصاف محمد - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفات على أنه لن يتعرض في حياته للخزي قطº لأن الله - تعالى - فطره على مكارم الأخلاق، وضربت المثل بما ذكرته من أصولها الجامعة لكمالاتها.
ولم تعرف الحياة في سنن الكون الاجتماعية أن الله - تعالى - جمَّل أحدًا من عباده بفطرة الأخلاق الكريمة، ثم أذاقه الخزي في حياته، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بلغ من المكارم ذروتها، فطرة فطره الله عليها، لا تُطاول ولا تُسامى([44]).
ولم تكتفِ خديجة - رضي الله عنها - بمكارم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلاً على نبوته، بل ذهبت إلى ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل - رحمه الله - الذي كان ينتظر ظهور نبي آخر الزمان، لما عرفه من علماء أهل الكتاب، على دنو زمانه، واقتراب مبعثه، وكان لحديث ورقة أثر طيب في تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقوية قلبه، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيرا بين الله - تعالى -وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ومن أشعار ورقة التي تدل على انتظاره لمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله:
لَجـِجت وكنت في الذكرى لجوجًا * * * لَهمٍّ, طالما بعث النَّشيجا
ووصفٍ, من خديجة بعد وصفٍ, * * * فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكَّتين([45]) على رجائي * * * حديثك أن أرى منه خروجا
بما خَبرَّتنا من قول قَس * * * من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدًا سيسود فينا * * * ويَخصِم من يكون له حجيجا([46])
لقد صدَّق ورقة بن نوفل برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهد له النبي - عليه الصلاة والسلام - بالجنة فقد جاء في رواية أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين»([47]).
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن خديجة - رضي الله عنها - سألت رسول الله عن ورقة فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثيابًا بيضًا، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» قال الهيثمي: وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ورقة بن نوفل فقال: «أبصرته في بُطنان الجنة وعليه السندس»([48]).
لقد قامت خديجة - رضي الله عنها - بدور مهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية، من الرحمة والحلم والحكمة والحزم، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد وفقه الله - تعالى -إلى هذه الزوجة المثاليةº لأنه قدوة للعالمين وخاصة للدعاة إلى الله، فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله - تعالى - لجميع حملة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يسعون لتحقيقها([49]).
إن السيدة خديجة - رضي الله عنها - مثال حسن، وقدوة رفيعة لزوجات الدعاة، فالداعية إلى الله ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء الدعوة، ومن الصعب أن يكون مثلهم في كل شيء، إنه صاحب همٍّ, ورسالة، همٍّ, على ضياع أمته، وانتشار الفساد، وزيادة شوكة أهله، وهمٍّ, لما يصيب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مؤامرات، وظلم وجوع، وإذلال، وما يصيب الدعاة منهم من تشريد وتضييق وتنكيل، وبعد ذلك هو صاحب رسالة واجب عليه تبليغها للآخرين، وهذا الواجب يتطلب وقتًا طويلاً يأخذ عليه أوقات نومه وراحته، وأوقات زوجته وأبنائه، ويتطلب تضحية بالمال والوقت والدنيا بأسرها ما دام ذلك في سبيل الله ومرضاته، وإن أوتيت الزوجة من الأخلاق والتقوى والجمال والحسب ما أوتيت، إنه يحتاج إلى زوجة تدرك واجب الدعوة وأهميته، وتدرك تمامًا ما يقوم به الزوج وما يتحمله من أعباء، وما يعانيه من مشاقّ، فتقف إلى جانبه تيسر له مهمته وتعينه عليها، لا أن تقف عائقا وشوكة في طريقه([50]).
إن المرأة الصالحة لها أثر في نجاح الدعوة، وقد اتضح ذلك في موقف خديجة - رضي الله عنها - وما قامت به من الوقوف بجانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه الوحي لأول مرة، ولا شك أن الزوجة الصالحة المؤهلة لحمل مثل هذه الرسالة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة، وبخاصة الأمور التي يعامل بها الناس، وإن الدعوة إلى الله - تعالى - هي أعظم أمر يتحمله البشر، فإذا وفق الداعية لزوجة صالحة ذات كفاءة فإن ذلك من أهم نجاحه مع الآخرين([51]) وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»([52]).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد