عشرة أعوام بألف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مرت عشرة أعوام على بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما ناداه جبريل (يا محمد أنت رسول الله إلى الناس كافة) مرت عشرة أعوام على أول الآيات التي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (اقرأ باسم ربك الذي خلق) [العلق: 1].

مرت عشرة أعوام على لقائه - صلى الله عليه وسلم - بورقة بن نوفل.. فأخبره رسول الله خبر ما رأي فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جدعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. (رواه البخاري).

فيتعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول له: أو مخرجي هم؟!

عشرة أعوام كانت كافية لإزالة العجب الذي أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع هذا الكلام من ورقة وليعلم - صلى الله عليه وسلم - لما يخرجه قومه؟

 

إنها دعوة التوحيد تعود من حديد كأمطار صيف على أرض قد أحدبت وقفرت، على ثلاثمائة وستين صنما يعبدون من دون الله في بيته الحرام.

 

واشتعلت الأرض حوله - صلى الله عليه وسلم - منذ عشرة أعوام عندما جاءه أمر الله - تعالى -: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) [الحجر: 94].

 

عندما وقف فوق الصفا ينادي: (إني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لن أغني عنك من الله شيئا).

 

عشرة أعوام من الصبر على الدعوة وتحمل الأذى، عشرة أعوام تشهد عليها حفنات التراب التي ألقيت في وجهه - صلى الله عليه وسلم - وسخرية المشركين في مكة وحصار التجويع.

 

عشرة أعوام تشهد عليها سمية وياسر الشهيدان وعمار ابنهما.. يشهد عليها بلال وخباب ومصعب بن عمير.

 

ولم يكن يطفئ ظمأ هذه الفئة المؤمنة إلا فيض القرآن يغسل عن القلوب ما تجد.

(طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى * الرحمن على العرش استوى) [طه: 1-5].

 

عام الحزن.. تموت خديجة ويموت أبو طالب ويفقد النبي - صلى الله عليه وسلم - من كانت تواسيه ومن كان يناصره ويستشعر حال أخيه نوح بعد حوالي ألف عام من دعوة قومه وهو ينظر بأسى إلى تلك الفئة القليلة التي آمنت به (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) [هود: 36].

 

إنها عشرة أعوام بألف عام...

ولكن تختلف رسالة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عن رسالة نوح فهي الرسالة الخاتمة التي لا تنتهي بطوفان يدمر الكافرين.. وإنما تستمر لتروي جوانب الدنيا بنور التوحيد.. فلابد من أرض جديدة يستطيع محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن فيها دعوة ربه...

 

إلى الطائف:

في العام الخامس من هذه العشرة فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - للضعفاء من قومه باباً للفرار بدينهم إلى الحبشة مرتين.. وها هو اليوم يبحث عن أرض جديدة يستطيع أن يُعلن فيها دعوة ربه وكانت الطائف أقرب القرى إلى مكة ويسكنها قبيلة ثقيف.. وهناك مكث أياماً عدة يدعو أشرافهم إلى الإسلام.. فكذبوه.. ولم يكتفوا بذلك بل سلطوا عليه صبيانهم يقذفونه بالحجارة حتى شج رأس مولاه زيد بن حارثة وهو يقيه بنفسه، ودميت قدماه - صلى الله عليه وسلم -...

 

وفي ظل حائط يجلس - صلى الله عليه وسلم -.. وحيداً.. فريداً.. يحمل في قلبه من الخير ما ينقذ البشرية ولكنهم أبوا.. ولا يجد ملجأ إلا الله.. فيرفع يديه.. وقطرات الدمع تبرق في عينيه.. وتطل عليه الجبال والوديان والأشجار مزعورة..

 

ها هو نبي يرفع يديه ليدعو بعد أن أذاه قومه..

إن ذكريات الطوفان بعد دعوة نوت لا زالت تجوب آفاق الدنيا عندما دعا:

(رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا). [نوح: 26-27].

 

وينجاب الذعر عن المخلوقات عندما تردد الأفاق شكوى محمد - صلى الله عليه وسلم -..

(اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربي.. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي..!! أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الكلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل عليّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك..).

 

ولا يزال القرآن ينزل برداً وسلاماً على قلب الحبيب - صلى الله عليه وسلم -

(وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون)[يونس: 46].

 

ولا يستطيع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة إلا تحت حماية مطعم ابن عدى أحد زعماء قريش الذي كان كأبي طالب على دين أجداده ولكنه يتميز بالمروءة والنجدة مثله، ويقف أبو جهل متهكما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسير في حماية مطعم وأبنائه فيرد عليه - صلى الله عليه وسلم - (أما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا.. وما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تذكرون..)

ويمسح القرآن جبين الحبيب المكدود:

(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام: 33].

 

العام الحادي عشر:

ويتحرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحج يعرض نفسه على القبائل.. (عن جابر قال مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة) [رواه أحمد].

 

وأبو بكر يقدمه إلى القبائل وهو العليم بأنساب العرب حتى يلتقي في موسم الحج بستة نفر من الخزرج يعرض عليهم الإسلام فيؤمنوا ويصدقوا..

 

بداية الهجرة بيعة على الطهارة:

وفي العام التالي وعند العقبة وفي وادي منى يلتقي - صلى الله عليه وسلم - باثني عشر رجلاً من أهل المدينة.. وهناك بايعوا بيعة لا قتال فيها.. والتي سماها المؤرخون بيعة النساء التي سجلها القرآن في قوله - تعالى -..

(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم)[الممتحنة: 12].

 

إنها دعوة التوحيد ثم الطهارة الكاملة.. فلا يصلح لمن يحمل هذا الدين ويأويه إلا الطهارة والعفة والنظافة.

 

ويكون رده - صلى الله عليه وسلم - عليهم: (فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم) [رواه أحمد].

 

وبيعة الرجال:

وفي العام التالي جاء الحجيج من الأوس والخزرج وفيهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان...

وعند العقبة مرة أخرى يبايع هذه الكوكبة المؤمنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرجال.. بالدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن دينه..

 

وبعد البيعة اختار منهم اثنى عشر نقيبا وقال لهم: (أنتم كفلاء على قومكم وأنا كفيل على قومي) ويشهد بيعة الرجال هذه امرأتان هما نسيبة بنت كعب المازنية من بني النجار أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسماء بنت عمرو من بني سلمه، ترددان مع الرجال واجبات المرأة المسلمة نحو دعوتها.

قال - صلى الله عليه وسلم -: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة) [رواه أحمد].

 

جيل النصر:

ولمدة عام يشهد التاريخ منذ أن خلق الله آدم إلى يوم القيامة ظاهرة فريدة من مظاهر الحياة وهي بداية طلائع المهاجرين الذين يتركون ديارهم وأموالهم وأوطانهم في سبيل الله...

 

(للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) [الحشر: 8].

 

في مقدمتهم أم سلمة وصهيب وعمر بن الخطاب ومصعب بن عمير ويشهد تشكيل كتائب الأنصار الذين يستقبلون إخوانهم في ديارهم فيقاسمونهم الدار والمال والأرض عن رضا وسعادة.

(يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) [الحشر: 9].

وفي مقدمتهم أبو أيوب وسعد بن معاذ والبراء بن مالك، إنها طلائع جيل النصر.

 

ويبقى الحبيب - صلى الله عليه وسلم -.. يبقى في مكة حتى يطمئن على أن إخوانه من المهاجرين وصلوا إلى دار الهجرة سالمين.. يبقى حتى لا يبقى سبيل لدعوة القوم إلا ويأتيه.. يبقى حتى يصل كيد الكافرين إلى مداه..

 

ولكن يظل يراوده حلم الهجرة يقول - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض نخل فذهب وهلى (أي ظني) إلى أنها اليمامة أو هجر (أي أرض اليمن).. فإذا هي المدينة يثرب).

(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) [الأنفال: 30].

وليلة التنفيذ يأتي الإذن بالهجرة ويقول له جبريل لا تبت الليلة في فراشك

 

صاحبه:

يبقى - صلى الله عليه وسلم - وينتظر معه صاحبه أبو بكر الذي يُعد الناقتين ويسير حسب الخطة التي وضعها النبي - صلى الله عليه وسلم - للهجرة ويخرج - صلى الله عليه وسلم - عند الفجر والمتأمرون أمام بيته قد غشاهم النعاس.. ويمر من بينهم - صلى الله عليه وسلم - وكأنه يخرج من ضيق كهف مظلم إلى شمس الإسلام التي ستشرق على الدنيا.

 

(وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) [يس: 9].

 

من كتاب [إلا تنصروه فقد نصره الله...] ص:3

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply